تسلق الشجرة الهمدانية كالسنجاب الافريقي ، كان جسده النحيل بقوامه الضامر سُلّماً يرتقي عليه بسهولة وكانت يمينه تتحرك كالمكنة وتكسر أغصانها الخضراء واليسرى تكوّم العيدان عليها كالسيئات بنسق عجيب حتى اكتفى.. عندها هرع إلى الأسفل ضارباً بتوسلات الزبون عرض ساق الشجرة الخشن.. وتجمد أمام الرجل كالحجر الجيري إلى أن مد الأخير يده إلى جيبه بتقاعس وأخرج ورقتين خضراوين من النقود وألقى بهمافي وجهه ومضى وهو يقول بغضب.. لن أعود إليكم أبداً. أيها... لم يزبه الفتى لكلامه اللاذع.. بل رجع إلى أبيه بخطى طاووسية جريئة وناوله الورقتين قائلاً: أربعمائة ريال كاش ثمن المغرس.. من أي حول قطفت القات؟ من «السَّبَّة» الكبيرة «الغرسة» البياض كانت من نصيب الصنعاني و... وامصيبتاه.. لقد حذرتك مراراً أن لا تتدخل بالقات و... وأتته سعلة طويلة وكلماته تتقطع فيها : أخ..أخ[.. أنت عاق والديك، أُح..أُح.. القات مرشوش بالسم الأحمر.. أُح.. كنا سنبيعه في السوق وانتهى الأمر. دخل الصنعاني المجلس وشراب الشعير في يده والقرطاس الأسود تحت إبطه وقعد في المكان المخصص له بهدوء.. الماء المقطر «الكوثر» أمامه والمبخرة تطرد الهواء الفاسد بأدخنتها الفواحة.. وتدور على المقيلين.. كل نصف ساعة.. الغرفة معلقة بفضاء الطابق الخامس للدار العتيق.. ومما زاد المقيل أنساً ومتعة هو ذلك البستان اللائح من وراء زجاجات النوافذ.. الكبيرة للمجلس الصغير، ثمة نكهة غريبة تتذوقها غدد لسانه مع عصارة الأغصان التي يلوكها بنهم.. ظن أنها جودة القات التي جعلت «الكيف» يعشعش في أعصابه ونخاعه الشوكي سريعاً.. لذا انزاح الندم بعيداً عن نفسه، إذ كان يحسب أن نقوده ذهبت سدى.. كان المقيل سخياً على رواده.. فالمتسيّسون والمهرّجون هم الناطقون الرسميون نيابة عنه، لذا فالوقت حصان جامح يمرق كالبرق فوق رؤوسهم حاملاً مستقبلهم وأحلامهم إلى الظلام الفاغر فاه.. عند المغيب ألقى الصنعاني بآخر مشاريعه وآخر غصن قات بحوزته على الأرض إلى جانب الأكوام المتكوّمة هناك.. وودّعهم وانصرف شاكرآً.. احتضن الليل بكلتا يديه وأوسع زوجته ضرباً حين طلبت منه دفع فاتورة الكهرباء قبل أن يضاف إليها عبء فوائد التأخير، ففرّتْ إلى بيت أهلها مع طفلها الرضيع لكنها عادت فوراً بعد أن وجده الجيران في غرفته جثة هامدة.