يبدو أن ملوك سبأ وحمير وأوسان، أشهر الممالك التي شكلت قوام حضارة بلاد اليمن السعيد قد نجحوا أخيراً في كسب ود وتعاطف كثيرين معهم في محنتهم، وهم من وجدوا أنفسهم فجأة ودون سابق إنذار أشبه بسجناء في غرفة محكمة الإغلاق بالمتحف الوطني في صنعاء، حيث لا يزورهم فيها أحد، ولا ينقصهم فيها سوى الانتظار للحظة صدور أمر الإفراج أو ربما القيود والأغلال. فبعد رحلة استغرقت نحو تسع سنوات، شملت دولاً ومدناً وعواصم غربية وأوروبية عدة، منذ بدأ ملوك اليمن القديم مشاركتهم إلى جانب مجموعة كبيرة من أثمن القطع والتحف الأثرية اليمنية عام 1997م، ضمن معرض أثري متنقل حمل عناوين عدة منها (اليمن في بلاد مملكة سبأ، واليمن وطريق التجارة القديم، وممالك الطيب والبخور، عاد المعرض بكامل محتوياته من القطع الأثرية إلى اليمن في أكتوبر 2005م بعد أن كان قد انتهى به المطاف بواشنطن في الولايات المتحدة الأمريكية. لكن هؤلاء الملوك، وهم عبارة عن تماثيل تجسد أشهر ساسة وحكام ورموز ممالك اليمن القديم السبئية والحضرمية والأوسانية والحميرية وغيرها، أبرزها تمثال "معدي كرب" أشهر ملوك حضارة مملكة سبأ التي نشأت بين عامي (1200 ق.م و200 م) وورد ذكرها في الكتب السماوية، تم إيداعهم في المتحف الوطني بصنعاء في المكان المخصص لكافتيريا الزوار ولم يغادروها منذ ذلك الحين وحتى اليوم. أمين عام المتحف الوطني بصنعاء عبدالعزيز الجنداري، كان أحد من أبدوا تعاطفهم مع هؤلاء الملوك ومجموعة كنوز اليمن الثمينة، معرباً عن أسفه "من بقاء حبس هؤلاء الملوك في الكافتيريا رغم ما يشكله عرضهم من أهمية باعتبار ذلك أحد أهم مصادر الدخل القومي للبلاد". و قال لوكالة الأنباء اليمنية (سبأ): "أعقب عودة هذه القطع في مايو 2005م تشكيل لجنة من مختلف الجهات ذات العلاقة بغرض فحصها ثم تشكيل لجنة أخرى من المختصين بالهيئة وبعض الجهات ذات العلاقة لإعادة توزيع هذه القطع على المتاحف اليمنية التي جمعت منها، لكن ذلك لم يتم حتى الآن". مشيراً إلى أنه "قد رفع العديد من المذكرات إلى الجهات المعنية بهذا الخصوص دون جدوى". وليس تمثال معدي كرب المصنوع من البرونز، والذي كان قد عثر عليه في معبد أوام بمدينة مأرب عام 1955م، ويعد من أجمل التماثيل التي يمتلكها المتحف الوطني بصنعاء نظراً لاكتماله وجمال منظره والابتسامة الرقيقة التي لا تغادر محياه على الإطلاق.. ليس وحده من يستلقي في كافتيريا المتحف التي لم تستقبل سواهم وكان من المفترض افتتاحها مع المتحف في مايو 2006م، حيث يرقد إلى جانبه الملك "يصدق إيل فارغ شرح عثت" ملك أوسان، الذي يمتد عمره إلى القرن الأول قبل الميلاد، وعثر عليه في وادي مرخة بحضرموت. كما لا يستثنى من بين أبرز رموز اليمن القديم ممن باتت تضيق بهم جدران الكافتيريا اليوم بعد أن كانت قد اتسعت لهم مدن أوروبا وأكبر عواصمها، رأس الملك "ذمار علي يهبر" والجزء العلوي لابنه "ثأران يهنعم" ملكي سبأ وذوي ريدان وحضرموت، واللذين حكما في مطلع القرن الرابع الميلادي، وهما مصنوعان من البرونز، كان قد عثر عليهما في النخلة الحمراء بالحدأ عام 1931م. جولة ملوك سبأ وذي ريدان وحضرموت وحمير وأوسان في أنحاء أوروبا والتي نجحوا من خلالها إلى حد كبير في التعريف بحضارة بلاد اليمن التي شيدوها بعمرها الممتد إلى ثلاثة آلاف عام خلت ودورها الريادي في إثراء الحضارة الإنسانية القديمة، كانت قد شملت باريس، فيينا، ميونخ، روما، تورينو، لاكرونيا، لندن، مدريد، فلنسيا، اليكانتي سوكانتو، اشبيلية، صقلية، واشنطن، قبل أن يستقر بهم المقام قبل نحو عام ونصف في كافتيريا المتحف، حيث لم يتبق لهم ما يتناولونه فيها بعد أن جفت الكؤوس وتقطعت بهم السبل وأطراف الحديث، سوى عض أصابع الندم على عهود خلت، وتقاسم وجبات "الغبار السريع" التي تقدم لهم دون أدنى عناء أو تكلف.