ما أشبه الليلة بالبارحة، وما أدهى نواميس التاريخ وأمرّها، فكل يوم من الأيام يثبت الدهر قوته وجبروته صاعقاً كل من يحاول التأبي على الأقدار، ومفارقة قوانين الأرض وحكمة المساء . هذه المرة نؤشر إلى قراءة مبتسرة لرواية تاريخية كتبها الراحل الكبير علي أحمد باكثير بعنوان " الفارس الجميل " وفيها اعتمد باكثيرعلى فقه التاريخ وسخريات الأيام منساباً مع فكرة الاختزال الشديد، والسرد الواضح الموشى بالنصوص التاريخية، واستعارة لغة الزمان والمكان، إيماء إلى طريقة التعبير عند العرب في عصر الدولة الأموية، وقد استطاع باكثير في هذه الرواية تصوير البيئة السياسية والاجتماعية التي ترافقت مع الصراع المحموم بين بيوتات الحكم العربية، تلك التي اختزلت عوامل التوسع الإسلامي في منطق المُغالبة والظفر العسكري، فكانت الدماء والفتن والويلات مما نعرف عنها الكثير في تاريخنا المسطور. ومنذ استهلال الرواية يفاجؤك الراوي بصورة مشهدية عامة للبصرة، تلج بك إلى خفايا النفس البشرية، فالقائد السياسي الأمير مصعب بن الزبير " الفارس الجميل " يصل إلى البصرة حاملاً في جوانياته ذلك التناقض السافر بين منطق الحرب، وحالة الاسترخاء الإنساني في أحضان الزوجات الحبيبات. إنه يترك ساحة الوغى لبضعة أيام لعله يهنأ بحياة مختلفة مع زوجاته الأربع ، بتركيز خاص على اثنتين منها يمثلان الجمال والدلال، الحسب والنسب، بل فكرة الإعتلاء بالمثال القادم من أساس الزواج النبيل، لكنه لن ينعم بالهدوء والاستقرار، ولن يتمكّن من استدعاء حياة الراحة والطمأنينة، وهو القائد السياسي الذي يواجه البلايا والفتن والأنواء والدسائس في كل خطوة من خطواته لايدري الذين يبتليهم الله بالقيادة أنهم يصارعون على كل الجبهات، وأنهم يواجهون حتفهم من مكامنهم ومناطق أمنهم وطمأنينتهم، وهذا ما سنقرأه تباعاً في رواية باكثير الرائعة.