الوقفة أمام مسرح علي أحمد باكثير تتقاطع ضمناً مع بواكير الدراماتورجيا التي سنومئ لاحقاً إلى أبعادها في الرواية والقص، وبما يكشف صلته العميقة بالثقافة البصرية بوصفها رافعة أخرى من روافع السرد وجمالياته، وسنقف هنا على مثال سردي واحد نستقرئ من خلاله كامل الأبعاد الدرامية والتاريخية والسردية التي سيَّجت عطاء باكثير، وسنختار كنموذج روايته القصيرة (الفارس الجميل) بوصفها آخر الأعمال الروائية لباكثير، وملمحها الرئيس الاختزال الشديد والسرد الواضح الموشى بالنصوص التاريخية واستعارة لغة الزمان والمكان، إيماءً إلى طريقة التعبير عند العرب في عصر الدولة الأموية. وقد استطاع باكثير في هذه الرواية المختصرة تصوير البيئة السياسية والاجتماعية التي ترافقت مع الصراع المحموم بين بيوتات الحكم العربية، تلك التي اختزلت عوامل التوسع الإسلامي في منطق المغالبة والظفر العسكري، فكانت الدماء والفتن والويلات مما نعرف عنه الكثير في تاريخنا المسطور. ومنذ استهلال الرواية يفاجئك الباكثير بصورة مشهدية عامة لمدينة البصرة، تلج بك إلى خفايا النفس البشرية، فالقائد السياسي الأمير مصعب بن الزبير«الفارس الجميل» يصل إلى البصرة حاملاً في دواخله ذلك التناقض السافر بين منطق الحرب، وحالة الاسترخاء الإنساني في أحضان النسوة. إنه يترك ساحة الوغى لبضعة أيام لعله يهنأ بحياة مختلفة مع زوجاته الأربع، وبتركيز خاص على اثنتين منهما يمثلان الجمال والدلال، والحسب والنسب، بل فكرة الاعتلاء بالمثال القادم من أساس الزواج النبيل. لكنه لن ينعم بالهدوء والاستقرار، ولن يتمكن من استدعاء حياة الراحة والطمأنينة، وهو القائد السياسي الذي يواجه البلايا والفتن والأنواء والدسائس في كل خطوة من خطواته، بل سيواجه حرباً “ناعمة” داخل منزله، فزوجته سكينة بنت الحسين تؤهله للانتقام التاريخي من مقتل والدها الحسين عليه السلام، مُتفنِّنة في ضروب الكلام والتأثيرات النفسية عليه، حتى يقبل بأن يكون رأس حربة لهدفها السامي “الانتقام”، وزوجته الأخرى عائشة بنت طلحة بن عبيد الله مُستغرقة في نرجسية الأنا المترعة بالجمال والدلال، فهي الآسرة والأسيرة، وهي النقطة المحورية في حياة الأمير الأبيقورية. ثم تأتي أدوار زوجتين «إضافيتين» تكملان حياة الزوج المحارب والقائد، فإذا بهذا المسكين يترنّح بين لحظات الألق الجميل، وحالات الحروب الكيدية النسائية القاتلة، ومحنة اجتماع أربع نسوة على رجل واحد، حتى ولو كان بمكانة ووسامة مصعب، في إشارة دالة على صعوبة أن تتوزع القلوب وأن تقبل المرأة بشريكة لها في مِثالها الحياتي، وللحديث صلة. [email protected] رابط المقال على الفيس بوك