في تقديري أن قناة الجزيرة الفضائية نجحت إلى حد كبير في الإمساك بقواعد المعايير التلفزيونية العصرية إستناداً الى المشرفين المجربين القابعين وراء الكاميرا والصورة، وكذا تأمين أفضل الأجهزة الرقمية الحديثة، والاستوديوهات التي أمّنت بيئة إبداع بصري مناسب . ويمكننا القول ان أداء القناة في المستوى التقني تجاوز الأداء التحريري إلى حد كبير، ذلك إن القناة تنكّبت مشقة فتح ملفات كل العرب، والتتبع اليومي لكل شاردة وواردة، وفتح الأبواب والنوافذ لمختلف الآراء بما فيها الآراء الشعبوية غير الراكزة، والظواهر الصوتية غير البناءة، فكان من الطبيعي ان يحدث شرخ بين قواعد المعايير التقنية وقواعد المعايير في الخطاب، مما يمكن التدليل عليه في سلسلة البرامج الصاخبة التي تستعين بالظواهر الصوتية، والدوغمائيين المؤدلجين قناة الجزيرة توفّقت عربياً في قواعد المعايير التقنية، وإلى حد كبير في متابعة المعطيات الخبرية والسياسية المتحركة عطفاً على التمويل الاستثنائي الذي تنعم به، غير أنها تذبذبت بصورة واضحة في تكريس نمط الخطاب الافتراضي المطلوب منها، فبدلاً من ان تكون منبراً ليبرالياً بنّاءً تحولت إلى «منبر من لا منبر له» بحسب شعارها المرفوع، وهو الشعار الذي حول القناة إلى « هيدبارك لندني بامتياز» فيما أوصلها إلى حالة من التخبط في دهاليز الغنائيات الصوتية، والصراخ المجاني، واللهاث وراء السبق الزمني في التغطية، بغض النظر عن الأثر المُتوخّى من ذلك السبق . في هذا الجانب لا يمكننا إغفال الآثار الجيدة لاستضافة عشرات الأسماء والرموز الراكزة، واستنطاق كبار السياسيين، والإطلالة على عوالم البعض منهم ممن أُحيطوا بقدر كبير من الغموض، كالحوارات التي أجرتها القناة مع ياسر عرفات وفيدل كاسترو، وغيرهم من الأسماء المهمة في سماء السياسة العالمية والعربية المعاصرة بالمقابل يؤخذ على القناة إغفالها لرموز مهمة في الفكر والثقافة المعاصرة، بل إهمالها لشهود كبار على العصر أمثال جابرييل جارسيا ماركيز.. الأديب المحنك صاحب الموقف السياسي الانساني الناصع و روجيه جارودي الذي واجه حرباً شعواء من قبل الصهيونية الدولية عطفاً على مراجعته تاريخ «الهولوكوست»، أيضا الرئيس الأمريكي بيل كلنتون الذي مثّل حالة المفارقة الاستثنائية لثقافة السلطة الأمريكية المستغرقة في الغرور والنيتشوية السلوكية، وكان بحق أول رئيس امريكي يتّصل بالتاريخ وحكمته، ويتأبى على نواميس وظيفته الكبيرة، الأمر الذي أوقعه في شرك اللوبي اليهودي، غير أنه استعان بإرادة التحدّي المتسقة مع تصالحه الداخلي مع نفسه، فهزم الاشرار بهدوء وروية.