إنها حكاية امرأة تسحب الماضي من أعلى شرفة فيه لتتخد منه موقداً تذكي به جذوة الأدب.. لتغسل عنه عار الفرار في يوم كانت القصيدة ألف معنى وألف حرف، وكياناً يمتطي صهوة الريح. لم تكن «نازك الملائكة» سوى امرأة وجدت لتحاكم الشكل بأنين الواقع محاكمة عادلة صاغت بموجبها أكبر ثورة.. إنها الثورة التي حطمت قدسية الشكل ووثنية الهياكل من وجدان وإحساس الإنسان العربي المعاصر وكان «قضايا الشعر المعاصر» هو دستور المشاعر الحية والعواطف المتحررة من أسر القوالب. إنها امرأة استطاعت أن تخلق مولوداً عربياً «جديداً» بأيدٍ عربية وولادة طبيعية غير قسرية، وأرضعته من حلمها الطافح بالهموم لكنها مالبثت أن سلمته لجيل آخر يرضع من الهموم أيضاً، وبذلك صنعت من نفسها امرأة الثورة وثورة المرأة وأصبح الشعر من المرأة ميثاقاً يخلد ذكر الإنسان في الأرض. لقد كانت تعلم أن الوجدان العربي بمواصفات شعرية أصيلة فخياله واسع وحسه مرهف، وهو أيضاً واسع الإيقاع لايحاصره الهيكل ولاتثنيه الصياغة، فذهبت تعرض له مآسي الحاضر وهمومه التي لاتقبل التحجيم وتقول له بُحْ بالذي أردت فأنت حر!!! ولأنها وجدت نفسها في موقع الريادة بما حملته من رؤية متكاملة تدعمها الحجج والبراهين فإنها لم ترض يوماً أن تتنازل عن مكانها أو أن تعترف بإرهاصات باكثير وشعره المرسل في تعريبه لرائعة شكسبير «روميو وجوليت» مثل اعتراف السياب.. ونحن هنا نمسك بالخيط من طرفه الآخر لنقول: إن تجربة نازك الملائكة تمتلك الفرادة حين انبثقت عن رؤية شعرية تستلهم الماضي ولاتقلده وتعيش الحاضر فاستخلصت منه الانموذج الشعري المناسب ثم إنها اتبعت ذلك لما تمتلكه من موهبة أكاديمية وقدرة بحثية بتجسيد علمي لتلك الرؤية وإن كانت قد سعت بدون قصد كما يرى الدكتور المقالح في «أزمة القصيدة المعاصرة» إلى تجميد التجديد عند تلك الصورة التي رسمتها له فيكون الأمر تضييقاً لواسع وتأطيراً لما لايقبل التأطير. ولأنها أيضاً لم تكن نزوة عابرة أو إحساس لحظة فقد ذهبت «نازك» تعالج فكرتها الوليدة.. خطوة خطوة.. متأملة في واقع القصيدة العربية.. تشخص فيها المرض.. تمعن في مناقشة قضاياها الفنية والاجتماعية إلى أن تجلت لها حقيقة أنه لابد لكي نعيدها إلى عصور إئتلاقها وإزدهارها أن نسمح لها بقدر مناسب من الحرية والخروج عن الارتهان للرتابة كما سمح لها في تلك العصور حين ظهرت أشكال الموشح والمبيت والدوبيت وغيرها من الأوزان الطارئة التي جاءت نتاجاً لطبيعة المرحلة ولذلك جاءت حرية القصيدة المعاصرة شبيهة بتلك في نهلها من معين الواقع وتكون بذلك قد حققت الاصالة بمعناها الحقيقي لابمعناها الرجعي الأعمى. إذن لم تكن ثورة «نازك» ومعها «السياب» ثورة شكلية بحيث يمكن وصمها بثورة العجز عن الصياغة، بل إنها تجربة تخلقت في زمنها.. حملت كل أوجاع الحاضر .. تشربت الواقع وتشبعت به ولذا نجدها حظيت باهتمام القريحة العربية وكثر المتشيعون لها وأصبحت هي صوتهم إلى العالم عبر جيل من الحواريين من أمثال محمد علي شمس الدين والبياتي وأحمد عبدالمعطي حجازي والماغوط ومحمود درويش والمقالح وسليمان العيسى وغيرهم.. والآن تؤاثر «عاشقة الليل» الرحيل إلى «قرارة الموجة» مفارقة «شجرة القمر» في واقع قد تماهى في الاسطورة حتى تحول إلى «شظايا ورماد» لعلها تجد في سكون الموت مابه «يغير ألوانه البحر» رحلت «نازك الملائكة» عن 86 عاماً ،لكن لم ترحل «الكوليرا» وصداها في النفوس، ولم ترحل أيضاً ضربة المعول الباكرة التي فجرت النبع وعبدت الطريق