عاجل: إعلان أمريكي بإسقاط وتحطم ثلاث طائرات أمريكية من طراز " MQ-9 " قبالة سواحل اليمن    فاجعة: انفجار حقل للغاز بقصف لطائرة مسيرة وسقوط قتلى يمنيين    وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر    بعد هجوم حوثي بصاروخ باليستي وطيران مسير.. إعلان عسكري أمريكية عن عملية مدمرة    توني كروس: انشيلوتي دائما ما يكذب علينا    دي زيربي يجهل مستقبل انسو فاتي في برايتون    أجواء ما قبل اتفاق الرياض تخيم على علاقة الشرعية اليمنية بالانتقالي الجنوبي    عمره 111.. اكبر رجل في العالم على قيد الحياة "أنه مجرد حظ "..    رصاص المليشيا يغتال فرحة أسرة في إب    آسيا تجدد الثقة بالبدر رئيساً للاتحاد الآسيوي للألعاب المائية    وزارة الحج والعمرة السعودية تكشف عن اشتراطات الحج لهذا العام.. وتحذيرات مهمة (تعرف عليها)    سلام الغرفة يتغلب على التعاون بالعقاد في كاس حضرموت الثامنة    حسن الخاتمة.. وفاة شاب يمني بملابس الإحرام إثر حادث مروري في طريق مكة المكرمة (صور)    ميليشيا الحوثي الإرهابية تستهدف مواقع الجيش الوطني شرق مدينة تعز    فيضانات مفاجئة الأيام المقبلة في عدة محافظات يمنية.. تحذير من الأمم المتحدة    أول ظهور للبرلماني ''أحمد سيف حاشد'' عقب نجاته من جلطة قاتلة    الجريمة المركبة.. الإنجاز الوطني في لحظة فارقة    فرع العاب يجتمع برئاسة الاهدل    الإطاحة بشاب وفتاة يمارسان النصب والاحتيال بعملات مزيفة من فئة ''الدولار'' في عدن    أكاديمي سعودي يتذمّر من هيمنة الاخوان المسلمين على التعليم والجامعات في بلاده    حزب الإصلاح يسدد قيمة أسهم المواطنين المنكوبين في شركة الزنداني للأسماك    مأرب: تتويج ورشة عمل اساسيات التخطيط الاستراتيجي بتشكيل "لجنة السلم المجتمعي"    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    لا يوجد علم اسمه الإعجاز العلمي في القرآن    البحسني يكشف لأول مرة عن قائد عملية تحرير ساحل حضرموت من الإرهاب    - عاجل شركة عجلان تنفي مايشاع حولها حول جرائم تهريب وبيع المبيدات الخطرة وتكشف انه تم ايقاف عملها منذ6 سنوات وتعاني من جور وظلم لصالح تجار جدد من العيار الثقيل وتسعد لرفع قضايا نشر    ناشط يفجّر فضيحة فساد في ضرائب القات للحوثيين!    المليشيات الحوثية تختطف قيادات نقابية بمحافظة الحديدة غربي اليمن (الأسماء)    خال يطعن ابنة أخته في جريمة مروعة تهزّ اليمن!    الدوري الانجليزي ... السيتي يكتسح برايتون برباعية    فشل عملية تحرير رجل أعمال في شبوة    الزنداني.. مسيرة عطاء عاطرة    مأرب.. تتويج ورشة عمل اساسيات التخطيط الاستراتيجي بتشكيل "لجنة السلم المجتمعي"    إيفرتون يصعق ليفربول ويعيق فرص وصوله للقب    ارتفاع عدد الشهداء الفلسطينيين جراء العدوان الإسرائيلي على غزة إلى 34305    انخفاض الذهب إلى 2313.44 دولار للأوقية    المكلا.. قيادة الإصلاح تستقبل جموع المعزين في رحيل الشيخ الزنداني    ذهبوا لتجهيز قاعة أعراس فعادوا بأكفان بيضاء.. وما كتبه أحدهم قبل وفاته يُدمي القلب.. حادثة مؤلمة تهز دولة عربية    مفاوضات في مسقط لحصول الحوثي على الخمس تطبيقا لفتوى الزنداني    تحذير أممي من تأثيرات قاسية للمناخ على أطفال اليمن    الجهاز المركزي للإحصاء يختتم الدورة التدريبية "طرق قياس المؤشرات الاجتماعي والسكانية والحماية الاجتماعية لاهداف التنمية المستدامة"    مقدمة لفهم القبيلة في شبوة (1)    نقابة مستوردي وتجار الأدوية تحذر من نفاذ الأدوية من السوق الدوائي مع عودة وباء كوليرا    نبذه عن شركة الزنداني للأسماك وكبار أعضائها (أسماء)    الإصلاحيين يسرقون جنازة الشيخ "حسن كيليش" التي حضرها أردوغان وينسبوها للزنداني    طلاق فنان شهير من زوجته بعد 12 عامًا على الزواج    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    سيئون تشهد تأبين فقيد العمل الانساني والاجتماعي والخيري / محمد سالم باسعيدة    دعاء الحر الشديد .. ردد 5 كلمات للوقاية من جهنم وتفتح أبواب الفرج    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    برشلونة يلجأ للقضاء بسبب "الهدف الشبح" في مرمى ريال مدريد    دعاء قضاء الحاجة في نفس اليوم.. ردده بيقين يقضي حوائجك ويفتح الأبواب المغلقة    أعلامي سعودي شهير: رحل الزنداني وترك لنا فتاوى جاهلة واكتشافات علمية ساذجة    كان يدرسهم قبل 40 سنة.. وفاء نادر من معلم مصري لطلابه اليمنيين حينما عرف أنهم يتواجدون في مصر (صور)    السعودية تضع اشتراطات صارمة للسماح بدخول الحجاج إلى أراضيها هذا العام    مؤسسة دغسان تحمل أربع جهات حكومية بينها الأمن والمخابرات مسؤلية إدخال المبيدات السامة (وثائق)    لحظة يازمن    وفاة الاديب والكاتب الصحفي محمد المساح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد عبدالواسع حميد الأصبحي .. يتذكر
نشر في الجمهورية يوم 29 - 12 - 2007

لقد كتب الأستاذ المرحوم- محمد عبدالواسع الأصبحي، عن الآخرين في مذكراته أكثر مما كتب عن نفسه، فأبرز رجالاً كان حظهم من البروز أقل مما هم به جديرون، ونوه برجالٍ لا يكادُ أكثر الناس يعرفون عنهم شيئاً.. ومن العدل أن نقرر بأن لكل من يكتبون «المذكراتِ» أو «السيرة الذاتية» الحق في أن يتحدثوا بضمير المتكلم، وإلا لما سميت هذه المؤلفات بالمذكرات ولا بالسير الذاتية، ولكن الميزان في هذا المجال دقيق وحساسٌ، فإذا اختل التوازن هنا، ثقلت كفة «الأنا» أو «الذات» ثقلاً تصبح معه عبئاً باهظاً على التاريخ وعلى القارئ.. وبمقابل ذلك تخف كفة «الهو» أو «الغير» خفة مجحفة بحق التاريخ وبحق القارئ في المعرفة الصحيحة.
ولقد أمسك الأستاذ محمد بالميزان، إمساك الصادق الأمين، الذي تهمهُ أولاً وقبل كل شيء الحقيقة الصادقة، والمصلحة الوطنية، وحق القارئ في الاطلاع على حقائق التاريخ المجردة من عبث الأغراض وتسلط الأهواء، وهذه درجة رفيعة لا يصل إليها إلا القليلون من الخائضين في هذا الميدان من ميادين الكتابة التي تتطلب قدراً عظيماً من النزاهة والإحساس بالآخرين.. وسيجد القارئ الكريم، ما يكفي من الأمثلة التي تبرهن على هذه السوية الرفيعة التي وصل إليها كاتب هذه المذكرات.
كما أن القارئ سيقف أمام بعض الحقائق الإقليمية التي تشمل البحر الأحمر وخاصة في شطره الجنوبي وما جرى على ساحله الشرقي في اليمن وساحله الغربي الذي تقع عليه بعض دول ومناطق شرق أفريقية وما كان يدور في شرق أفريقية من الصراع الاستعماري الذي أدى إلى نشوء دول واختفاء أخرى وهو لا تزال رحاه تدور أمام أعيننا إلى هذا اليوم.. ولن يسع القارئ إلا أن يشعر بالإعجاب إلى حد الدهشة، لما أبرزه الأستاذ محمد عبدالواسع الأصبحي، من أخبار اليمنيين في تغريبتهم الحديثة التي بلغوا بها أصقاع الأرض، وما قابلوه من أهوال تتضعضع أمامها الجبال، ولكنهم قابلوا كل ذلك بصبر عظيم، وجلدٍ لا يذل ولا يهون، وبقدرة على التكيف مع عالم غريب ينكرهم وينكرونه، وينفيهم فيقتحمونه، مما ينبئ عن معدن صلب عريق لهذا الشعب الذي أنجب هؤلاء الرجال، ويبشره بمستقبل زاهر مجيد رغم كل ما يحيط به من مكر الأعداء وقسوة الظروف.. ولو كان لي أن أوجه نداء لهتفت.. نداء.. نداء..: أيها اليمنيون اقرأوا مذكرات المناضل الحر الأستاذ «الخال» محمد عبدالواسع حميد الأصبحي المعافري الحميري اليمني، من هذه المنطلقات، وستجدون فيها طاقة خلاقة قوية، تدفع بالمسيرة إلى الأمام بثقة ماضية وجباه عالية.
دمشق 21-5- 1996م مطهر الإرياني
«الجمهورية» تعيد نشر هذه المذكرات لرجل ساهم بقسط وافر في خدمة الوطن واستذكر ملامح وشواهد من التاريخ المعاصر لليمن والظروف المحيطة بتلك المرحلة وهي مذكرات أحق أن يقرأها هذا الجيل الذي لا يعلم حجم تلك التضحيات وطبيعة الظروف فضلاً عن اتسامها بالأسلوب الأدبي الشيق في رواية الأحداث والأسماء
خمسة أشهر من الانهيار
هنا بدأ القلق يتسرب إلى نفسي، فماذا أصنع
التحذير من الذهاب إلى اليمن واضح جداً، وجيبوتي مستعمرة فرنسية، وبوادر تأميم قناة السويس تخيّم على الأجواء.. ورسالة وصلتني من صديق في مرسيليا تقول إن البوليس الفرنسي يبحث عني باعتباري متعاوناً مع الجزائريين.. وتالله حتى الآن استغرب هذا الإجراء.. ولقد كان لي الشرف لو تعاونت معهم، ولكني لم أتعاون، كل مافي الأمر هو أنني كنت صديقاً لكل جزائري حر.. ولقد سبق وحققوا معي في مرسيليا وسجنت 24 ساعة ولم يجدوا من طرفي أي شيء.. ولكن كيف سيكون الأمر لو حققوا ثانية؟
حصيلة الأمر أن القلق يحيط بي من كل جانب: الإمام في اليمن يتربص بي، في مرسيليا يبحثون عني في جيبوتي، هنا، أنا تحت المجهر بسبب مواقفي العروبية وخاصة من مصر وعبدالناصر، والعودة إلى بور سعيد ضرب من المغامرة في جو من التهديدات الدولية من أجل قناة السويس.
ولم يطل الانتظار فقد ألقي القبض عليّ في جيبوتي وأوقفت 48 ساعة للتحقيق في قصة محزنة وضعتني على حافة الانهيار العصبي أتجاوزها هنا لكي لايطول الاستطراد..
المهم أنني قلّبت الأمور على وجوهها فاخترت العودة إلى فرنسا، وقلت لنفسي: في فرنسا حرية فليحققوا ماشاء لهم التحقيق، فلن يحدث لي شيء.
بعد يومين من إقلاع الباخرة من جيبوتي إلى فرنسا مروراً ببور سعيد أبرقت من إدارة اللاسلكي في الباخرة إلى الأستاذ أحمد محمد نعمان بأنني سأصل إلى بور سعيد ذاهباً إلى فرنسا وبأنني أرجو أن أراه أو أرى الأستاذ الزبيري أو أي رسول من قبلهما.. وحين وصلت بور سعيد وجدت عبدالرحمن أحمد محمد نعمان عضو مجلس النواب وقد وصل قادماً من إيطاليا وكان يدرس على حساب الإمام أحمد فلما فرّ والده الأستاذ الكبير أحمد محمد نعمان وتلاه شقيقه العبقري محمد نعمان إلى عدن كان ذكياً إذ قال لوكيل الإمام أو الجبلي بالذات: مالي وما لوالدي، أنا أريد تذكرة لأعود بها إلى اليمن أجدد المنحة، وهكذا ضمن وصوله إلى مصر.
استقبلني الأخ عبدالرحمن أحمد محمد نعمان في بور سعيد بعد أن ترخّص للطلوع إلى الباخرة الفرنسية، وكانت أوهامي وشكوكي وقلقي قد عملت عملها في تخويفي من أن أسجن في فرنسا لذا قررت النزول في مصر.
قدم الأخ عبدالرحمن جواز سفري إلى إدارة الجوازات لاستكمال إجراءات الدخول إلى مصر، وهنا حصل إشكال أدخلني في دور جديد من المعاناة، وكأن مافررت منه في جيبوتي وفرنسا واليمن لابد أن يواجهني حتى ولو في مصر.
تتلخص المشكلة في أن الضابط الفرنسي الذي بدّل لي جوازي الأول في مرسيليا كان قد أسقط اسم حميد من اسمي الثلاثي ولم أتنبه لذلك إلا عندما علمت أن جاسوساً من جنسية إثيوبية كان يقيم في مصر بحجة الدراسة في الأزهر، وأن السلطات المصرية تبحث عنه بعد اختفائه من مصر، واسم هذا الجاسوس محمد عبدالواسع، وها أنذا أحمل جواز سفر باسم محمد عبدالواسع، فأنّى لي أن أخرج من هذه المشكلة؟
مض ثلاث ساعات وأنا على سلم الباخرة، والتفتيش قائم على قدم وساق في الملفات القديمة في إدارة الجوازات.. بعد انتهاء الإجراءات، والصحيح أنها لم تكن قد انتهت بعد، توجهت والأخ عبدالرحمن إلى فندق متواضع جداً كان سماه لي أحد الضباط هو «فندق السلام» وظللنا تلك الليلة نضحك ونمرح إلى الصباح.
في الصباح جاءنا مخبر كنت أعتقد أنه مراسل، وكان قدَّم لي نفسه علي الطريق وقال لي: أقدم لك نفسي، اسمي محمود عكاشة.
قلت له: اسمي محمد عبدالواسع حميد.
فقال: محمد اسم، عبد اسم، الواسع جدّك يعني.
قلت له: لا. حميد يطلع جدي.
فقال: لا.
ودخلت في نقاش محاولاً ولو بسذاجة أن أفهم هذا الإنسان.
قلت له: اسمع. عبدالناصر اسم واحد وإلا اثنين؟ قال: لا واحد.
قلت: عبدالحكيم إيش؟ قال واحد، قلت له: إذاً أنا عبدالواسع اسم واحد، من أسماء الله الحسنى ال99م، وأريته كفّي، قلت هنا 81 في الكف الأيسر و18 في خطوط الكف الأيمن، وحين يرفع الإنسان كفيه للدعاء يكون المجموع 99م، أي أسماء الله الحسنى، فقال لي: أي معليش بس كويس.
توجهت إلى إدارة البريد، واتصلت بالأستاذ أحمد محمد نعمان، وقلت له: أنا الآن يسألونني عن حُميّد من أين طلّعته، وكأنهم يبحثون عن شخص آخر، فقال لي بلهجته الساخرة والطيبة: اسمع يامحمد، هكذا دائماً يتعذّب الأحرار، إذا أشكل عليك أمر وضيّقوا الخناق، فقل لهم أنا المغترب اليمني الذي تبرع للجيش المصري، وأناهنا سوف أخبرهم.
فقلت له: «لا. أبداً، فليفعلوا ماشاءوا إلا أن أمنّ عليهم، وليحدث لي مايحدث»، لست أدري أية شجاعة جاءتني في ذلك الموقف، فتبددت تلك الغيوم من القلق التي كانت تكتنفني، وذهبت إلى المركز، وهناك قابلت اثنين أحدهما رائد والثاني بكباشي أي مقدم وهو قائد منطقة بور سعيد، وطرح عليّ أسئلة كثيرة سخيفة وذكية ومحرجة.. أجبته عنها جميعاً، ثم أبرزت له مابحوزتي من وثائق وشهادات وكلها تحمل اسمي الكامل محمد عبدالواسع حميد بما في ذلك دفتر البحر «سيمنس» الذي لايمكن لأحد أن يقلّده أو يزوره لأنه كان يعرض كل ستة أشهر حين نحط الرحال في إجازة على الجهة المختصة سواءً في الدار البيضاء أو السنغال أو ... إلخ.. فتتم المشاهدة والتوقيع عليه.
وظلّت الأسئلة تنهال علّي، ومن حسن حظي أن الانهيار قد بارحني واستعدت توازني في الإجابة عن الأسئلة ولو كان لازمني الانهيار لاستسلمت وسجنت دون مبرر بتهمة جاسوس أثيوبي كان يدرس في الأزهر.
ومن ضمن الأسئلة الكثيرة التي تضمنها ذلك التحقيق:
قال لي: أنت كنت في فرنسا في مرسيليا ثم ذهبت إلى الدار البيضاء، «إيه اللي تفعلو؟»
قلت له: هذا من اختصاص الفرنسيين أن يسألوني عما أفعله.. هذا الدفتر يثبت أني أعمل بحاراً على باخرة.
- اسمع يامحمد. «أنت بتعرف حد في القاهرة؟»
- نعم أعرف أحمد محمد نعمان ومحمد محمود الزبيري.
- ماشاء الله عليك يامحمد، أنت درست في الأزهر؟
- ياسيدي. أنا لا أعرف القاهرة حتى الآن.
- اسمع يامحمد. «أنت كم بقيت في الأزهر تدرس؟»
- ياسيدي ياحبيبي.. أنا لم أعرف الأزهر ولم أدرس في الأزهر.
- اسمع. أنت عربي «باين عليك».. لكن أنت أثيوبي.
- يا أخي أنظر إلى هذا الدفتر C.F.S يعني بالعربية ساحل الصومال الفرنسي.
فأجاني ببلادة: اسمع يامحمد ماشاء الله عليك. هذا الأزهر بعد قيام ثورة 23 يوليو فتح عدة أقسام ومنها اللغة الفرنسية في الأزهر.. «أنت ضليت تدرس الفرنسية في الأزهر كام؟»
فقلت له: ياحبيبي أنا لم أدرس في الأزهر، الصومال ينقسم إلى أربعة أقسام: الصومال الفرنسي C.F.S الذي هو جيبوتي، والصومال الإيطالي الذي كان تحت الوصاية الدولية وعاصمته مقديشو، وصومال لاند أي شمال الصومال تابع لبريطانيا، والصومال الكيني، والصومال الإثيوبي مقسم أجزاء.. أنا من جيبوتي، من اليمنيين المشردين الذين يحملون عدة جوازات سفر ليعيشوا..- ماشاء الله عليك يامحمد. أنت عرفت كويس دي، إيه اللي عرفك الجغرافيا دي؟ دا الأزهر.
- ياحبيبي هذا أي واحد يستطيع أن يفهمه..
بعد ثلاث ساعات كدت أنهار خلالها، قلت له: اسمع يا أخي، أنتم هكذا تسيئون للرئيس جمال عبدالناصر، وتسيئون لثورة 23 يوليو أكثر من أعدائها، أنا فرنسي، وجوازي فرنسي، ولن أجيبك بعد الآن على أي سؤال.
فذهب المحقق يهمس في أذن البكباشي، لست أدري ماذا قال له، وأخيراً قال: تشرب قهوة؟ وقدّموا لي قهوة بن فشربت، وتابع يسأل:
- فين حتنزل يامحمد؟
قلت: والله حيث يذهب بي هذا الشاب الذي احتجزتموه، وهو ابن الأستاذ أحمد محمد نعمان، سأذهب.
- أين حتقعد؟
قلت: ياسيدي البوليس حقكم، يعرفون أين سننزل، في أي فندق.
فردّ: إيه اللي عرّفك؟
وهنا دخل في أسئلة من هذا القبيل حوالي نصف ساعة لاداعي لإعادتها.. وكان أسوأ مافي هذا التحقيق البلادة والتذاكي واللف والدوران والضغط النفسي حتى أني خرجت منه محطّم القوى، ولقد أقمت بعده بحوالي عشرين يوماً في مصر في حالة من الانهيار، لايزورني النوم خلالها إلا لماماً.
ولقد استمرت هذه الحالة من الانهيار، وصحبتني لدى عودتي إلى جيبوتي، فعشت ثلاثة أشهر في معاناة كنت أفضّل أي لون من ألوان المرض عليها.. وكان قد سبق ثلاثة الأشهر هذه شهران من الطراز نفسه، وبذلك أكون قد عشت خمسة أشهر من الانهيار.
مكثت في جيبوتي عشرة أشهر لا أستطيع أن أغادر لا إلى فرنسا ولا إلى اليمن ولا إلى مصر للأسباب التي عرفها القارىء في الفصل السابق.. في هذا الوقت سحبت الولايات المتحدة الأمريكية تمويل السد العالي، فقام الرئيس جمال عبدالناصر بتأميم قناة السويس، الأمر الذي أقام بريطانيا وفرنسا ولم يقعدهما، كان رئيس وزراء بريطانيا آنذاك مستر إيدن الذي خلف تشرشل، وفي فرنسا مسيو جيمولية، وكلاهما حاقدان على العرب فاتفقا على العدوان على مصر بالتنسيق مع اسرائيل، وكان العدوان الثلاثي المشهور على مصر.. وقصة هذا العدوان مثبتة في كتب التاريخ بوقائعها وأحداثها.. ولكن قصة من قصص هذا العدوان ماتزال ماثلة في وجداني محفورة في أعماقي، لا أعتقد أن أحداً يستطيع أن يرويها كما سأفعل أنا، لسبب بسيط هو أني كنت واحداً من شخوص هذه القصة ولانقول من أبطالها.. ولتكن هذه القصة في جملة قصص أخرى، أثبتّها في هذا الكتاب تأريخاً لما أهمله التاريخ.
قصة الفرقاطة «دمياط»
تبدأ القصة عندما وقعت المواجهة بين البارجة الحربية البريطانية «نيوفودلاند» وبين الفرقاطة المصرية «دمياط» فكانت النتيجة تعطّل البارجة البريطانية وغرق الفرقاطة دمياط، وكان على ظهر هذه الفرقاطة 144 بحاراً غرق منهم اثنان وسبعون بحاراً وانتشلت البارجة البريطانية اثنين وسبعين، وحملتهم كأسرى وهي متجهة إلى عدن، ولكنها خافت أن تنزل هؤلاء الأسرى وفيهم جرحى إلى عدن، وعدن آنذاك في حالة غليان ومظاهرات تهتف «عاش عبدالناصر يسقط الاستعمار»، فتابعت طريقها حتى وصلت إلى جيبوتي تمشي على ريشة واحدة بعد أن أعطبت مدافع الفرقاطة دمياط ريشتها الثانية، توفقت البارحة «نيوفودلاند» في جيبوتي أكثر من شهرين، وأنزلت الأسرى المصريين ووضعتهم في ساحل بجانب المدرسة الفرنسية وأحاطتهم بالأسلاك الشائكة.. هنا تحركت القومية العربية في أعماقي، وأحسست أن من الواجب علي أن أبذل المساعدة، أياً كانت هذه المساعدة، فبحثت عن أطفال من الصوماليين أو اليمنيين بأي ثمن ليتسللوا إلى هؤلاء الأسرى، ويقدموا لهم أية خدمة ممكنة، بينما تسللت أنا إلى المستشفى الفرنسي بحجة الترجمة لقنصل الإمام أحمد ولا أقول اليمن وهو هاشم بن هاشم فقد كانت وسيلة للاطلاع والاحتكاك بالجرحى المصريين الذين ادخلوا ذلك المشفى، ولا أنسى أن أحد الضباط المصريين وكان مجبساً في ساقه، حين عرف أن هاشم هو قنصل اليمن، قال لي أريد أن أتحدث إلى هذا القنصل ليبلغ أهلي في مصر أني مازلت حياً، فتحدثت إلى هاشم بن هاشم هذا الذي أصبح بعد ثورة 26 سبتمبر وزيراً للإعلام للملكيين، وأخبرته برغبة الضابط المصري، فرد بلهجة سخيفة: «مَعْ مَعْ لا أريد هذا.. لا أريدهم»..
إلى جانب هذا الرجل السيء الذكر، كان هناك سكرتير القنصلية الرجل الشريف الحر الذي سجن طويلاً في سجون حجة ووشحة وغيرهما إنه الشيخ ناشر عبدالرحمن العريقي الذي كان يعيش تحت تهديد دائم من هاشم بن هاشم الذي يحقد عليه حقداً كبيراً فلماذا كان هاشم بن هاشم يحقد على الشيخ ناشر ويتألم منه؟
عرفت فيما بعد أنه كانت هناك وكالة إسرائيلية تهتبل الفرص لكي تستخرج جوازات سفر يمنية لجواسيس إسرائيلين، توزعهم على المملكة العربية السعودية واليمن ومصر، وكان هاشم بن هاشم هذا يزودهم بهذه الجوازات.. ولما كان الشيخ ناشر يعرف هذه الحقيقة فقد كان عُرضة لحقد ذلك الحاقد.
وقد قال لي الشيخ المرحوم التاجر المليونير آنذاك الذي أفنى حياته وماله علي حسين الوجيه أخو أحمد حسين الوجيه الذي احترق في الطائرة الذاهبة إلى تشيكوسلوفاكيا من روما مع الشهيد محمد عبدالله العمري والدكتور عبدالرحمن رافع ومحمد الحجري أخي عبدالله الحجري الذي كان رئيساً للوزراء في اليمن واغتيل في لندن مع زوجته والوزير المفوض عبدالله الحمامي في سيارته بيد فلسطينية عربية.. قال لي ذلك الشيخ: إن هاشم بن هاشم لم يكن مقتنعاً في جيبوتي، كان يريد أن يكون سفيراً في أوروبا أو أي مكان آخر مهما كانت الوسيلة وأنه يحقد على الكون، وقال لي علي حسين الوجيه: أخاف على ناشر عبدالرحمن، أخاف أن يعتدي عليه بالضرب أو بالإهانة في مكتبه، أرجو أن تبقى معه كمترجم ولو أدفع لك المرتب، فقلت له: أنا لا أحتاج إلى مرتب، يكفيني أني أحرس ناشر عبدالرحمن.
تحت ضغط من المظاهرات الصغيرة التي يقوم بها طلاب المدارس الابتدائية وهم يهتفون «فيف ناصر» أي يعيش ناصر، اضطر الفرنسيون إلى نقل ثمانية من الضباط المصريين إلى منطقة أخرى محاطة بالأسلاك الشائكة.. من هنا بدأت تشتبك خيوط القصة.
الجاسوس أحمد عبدالله جرادي
جاء إلي أحمد عبدالله جرادي الذي كنت أعرفه من قبل، وأعرف أخاه حسين عبدالله جرادي الذي لا يزال يعيش في الحديدة، البطل حسن عبدالله جرادي والعملاق والشريف الحر الذي ضحى بكل شيء.. أقول جاء إلي أحمد عبدالله جرادي ولم أكن أتصور أن يتحول إلى جاسوس قذر منحط، وقال لي: ما رأيك يا محمد أني أستطعت أن أرسل أولادي بين الأسلاك الشائكة ليأتوا بالرسائل؟ وجاءوني بالرسائل من الضباط المصريين الثمانية.
فقلت له: آتني بها.
فقال لي: لا يهمك، أنا سوف أغامر.
وكان دائماً كلما راودني الشك في صدقه يقسم لي بالله وبأولاده الثمانية أنه شريف وعربي وأصيل ومغامر.
وذات يوم قررت أنا وأحمد عبدالله جرادي مع أحد الربابنة أن نعمل على إخراج الأسرى إلى الساحل الذي يسمونه «بلعوص»، وقد أرسلت شخصاً إلى نائب القنصل علي بن علي السقاف رحمه الله، وقلت له أن يبلغ البكباشي أحمد حلمي الملحق العسكري بالسفارة المصرية في أديس أبابا، وكنت قد عرفته حين جاء إلى جيبوتي وهو لا يعرفني، بأن اثنين وسبعين أسيراً مصرياً من بحارة الفرقاطة دمياط موجودون في جيبوتي.
أحمد عبدالله جرادي استغل الفرصة لكي يبرز على محمد دحان في العمل المخابراتي، وكانا يتنافسان في هذا المجال- ففتح رسالة التوصية التي أرسلتها معه إلى القنصل اليمني.
اكتشف ذلك، واكتشفت أنه نزل في قطار واحد مع الجاسوس الخطير محمد دحان المتعدد الوجوه الذي كان بعثياً وشيوعياً وماركسياً وماوياً صينياً التقيته في الصين وهذا له قصة أخرى، وقد انتهى من كل شيء ولا أدري إن كان ما زال حياً.. ثم اكتشفت أيضاً أنه يسير ليلاً مع ناشر عبدالرحمن، وحاولت أن أنبه ناشر، ولكنه كان أيضاً لا يصدق أحداً.. وأنا اعتبره وطنياً وعربياً قلباً وقالباً.. فقد أغراهُ أحمد عبدالله جرادي بأن يكتب للضباط المصريين فكتب، وكتبوا له، وقام الخائن بإرسالها إلى المخابرات الفرنسية لتأخذ طريقها.. هكذا كان، مما دفع الفرنسيين بعد اكتشاف الرسائل إلى أن يصدقوا هاشم بن هاشم ويسفروا ناشر عبدالرحمن.. فكيف سفروه؟
كيف سفّروا ناشر عبدالرحمن؟
ذهبت ذات يوم في الساعة العاشرة إلى مكتب القنصل هاشم بن هاشم، هذا الذي يقيم الآن في بريطانيا مع أنه كان بعد الثورة وزير إعلام للملكيين وكان شبه أمي، أقول: حين دخلت مكتبه شعر بأني وصلت في وقت غير مناسب فقال لي: اسمع يامحمد اذهب إلى قهوة عبدالكريم الضوارني، وسآتيك إلى هناك.. لأنه وصل آنذاك نائب مدير المخابرات الفرنسية، ولم أكن أعرفه.. كان يقول له: اكسلنس صاحب السعادة، أنا جئت حسب طلبك، فقال لي: انصرف واتصل بشخص آخر نذل جداً اسمه عمر عبدالرحمن الضوارني- أي المتضور وليس من ضوران- ليترجم له.
بعد ساعة من الزمن عدت إلى القنصلية فلم أجد أحداً، ثم اكتشفت في الميناء أن إدارة المخابرات الفرنسية وهاشم بن هاشم يأخذون ناشر عبدالرحمن إلى سفينة شراعية ذات 3طن وهو لا يملك مليماً واحداً، وليس عليه سوى قميص وبنطلون لتسفيره.
في تلك الليلة وصل محمد نعمان الشهيد في لبنان رحمه الله رغم أن ناشر كان لا يحبه.. هكذا الدنيا.. فاسألني عن القصة، فذهبت وإياه في سيارة مقفصة إلى منطقة البساتين، اسمها «حُمْبُلي»، وكان معنا ناصر علي عثمان، وهو حالياً مستشار لبنك اندوسويس، وأحمد محمد الحاج العريقي الرجل الحر وابنه فهمي الحاج الآن وزيراً في جيبوتي، فأخبرنا محمد نعمان بما حدث من هاشم بن هاشم، وفي اليوم التالي سافر محمد نعمان إلى عدن وهناك عمل برقية رائعة إلى صوت العرب بأن القنصل اليمني هاشم بن هاشم المتعاون مع المخابرات الفرنسية قد سفر سكرتير القنصلية الذي وظفه الإمام أحمد إلى آخر ما هنالك من الكلمات المنمقة.. وسفره بالبنطلون والقميص ليس إلا.
وهناك في باب المندب أو في المخا التقى ناشر مصادفة بالأخ علي محمد سعيد أنعم هذا الإنسان الذي يعجز قلمي ولساني عن وصفه، فاحتضنه وأرسله إلى تعز إلى الإمام أحمد.. ولقد أبرق الإمام أحمد وأبرق إلى هاشم بن هاشم ليصل إلى اليمن لأن صوت العرب أذاعت مراراً عن فعلته بسبب الأستاذ الشهيد محمد نعمان، ولكن هاشم بن هاشم لم يسعه إلا أن يعين عبدالكريم الضوراني قنصلاً فخرياً وفر إلى أثيوبيا ومنها إلى السعودية وهذه لها قصة أخرى أيضاً.
الإمام أحمد أرسل آنذاك الشهيد أحمد حسين الوجيه ليحقق في الأمر وإذا بالمخابرات الفرنسية والوالي آنذاك «قبل أن يكون مندوباً سامياً» يرونه الأوراق والرسائل من ناشر للمصريين ومن المصريين لناشر ومن كان يحملها هو أحمدعبدالله جرادي الذي لا يزال يعيش وفمه الآن بين فكيه، هذا عاقبه الله وسيتناصل كما تتناصل العُفًّاية «العقرب»، كما نقول.
وعرفت أيضاً أن محمد دحان كان قد أخذ جواز سفر يمني، فقمت بعرقلته لأنه كان يود أن يذهب إلى المملكة العربية السعودية كمخابرات للفرنسيين والاسرائيليين، فعملت على أن يسحب منه الجواز في أديس أبابا بواسطة المرحوم إبراهيم سعيد العطار الذي كان قد عرف أنه جاسوس، ولكني علمت أن محمد دحان قد فهم، ولم أكن أدري أنه فهم من الجرادي، وقد سمعته ذات ليلة وهو ثمل يقول: الذين خربوا مستقبلي هما اثنان ناشر عبد الرحمن وقد ذهب، ومحمد عبدالواسع الأصبحي وسوف يلقى مصيره.. فإلى أين أذهب؟ فرنسا انتهيت منها، وفي جيبوتي أنا في خطر، وفي اليمن الخطر ينتظرني أيضاً، ولكن لا بد من صنعاء.
قبل مغادرتي جيبوتي التقيت المرحوم أحمد حسين الوجيه في فندق «بالاس هوتيل»، وأخبرته بنبذة عما حدث لناشر، وأعطيته صورة رديئة عن أحمد عبدالله جرادي ومحمد دحان الذي كان مشهوراً في جيبوتي أنه جاسوس، وكان يفاخر بأنه يعمل لدى المخابرات الفرنسية في «ديزيم بيرو» أي المكتب الثاني..
وليلة سفري من جيبوتي إلى عدن اصطحبت معي إلى المنزل أحمد عبدالله جرادي، وألقيت عليه أسئلة بوليسية، قلت له: يا أحمد أنا أعطيتك رسالتين رسالة توصية لك ورسالة لنائب القنصل وهو من أخوالي علي بن علي السقاف، وعندما عدت قلت لي بأنك مزقت الرسالة أو بلعتها عندما حدث التفتيش على الحدود الإثيوبية الفرنسية، وقد سألت أحمد خميس، وهو زميلي طبعاً، هل وصلتك أجوبة من أصدقائك الذي أرسلت إليهم الرسائل مع الجرادي، قال: نعم، فلماذا لم يسع رسالتي التي كانت توصية لك ما وسع رسالة الأستاذ أحمد خميس؟
أنت قلت لي أنك مزّقت الرسالة خوفاً من التفتيش،أنا لم أكتب سياسة ولم أتحدث عن بريطانيا ولا فرنسا ولا أثيوبيا وأنت لم توصل الرسالة،فاتضح لي أنك فتحت الرسالة وقرأتها..هذا جانب.
وقلت لي أنك التقيت الاستاذ ابراهيم سعيد العطار ولم تلتقه،هذا أكيد...فارتبك.
ثم قلت له: سألتك ذات يوم هل دخلت الميناء والتقيت قائد البارجة البريطانية نيوفودلاند،ونزلتما معاً والتقيتما بالأسرى المصريين الضباط الثمانية فقلت لي: لم أطلع الباخرة،واتضح لي عكس ذلك.
قال:أنت قلت لي الباخرة ولم تقل البارجة.
فقلت له :سميت لك اسم نيوفودلاند.
قال: نعم ،رافقت قائد البارجة إلى الأسرى المصريين وشكرني على الترجمة وطمأنهم.
قلت له: قائد البارجة البريطانية كان إنساناً يسألهم عن حالتهم وهو الذي انتشلهم من البحر ولم يتركهم ليغرقوا وأنت ذهبت معه لكي ترسل ما ترسل إلى جهات معينة، أليس كذلك؟
فارتبك.
فقلت له أخيراً:غداً أنت مدعو عندي للغداء ،ولكن انصحك،وأوهمته وخوفته ، قلت له:أنصحك بأن لاتسافر إلى اليمن أو إلى المملكة العربية السعودية فهناك خطر دائم عليك،ربما من آخرين،وربما من موظفي الإمام الذين أرسلهم لاستلام القنصلية ،ولم أقل له أحمد حسين،فارتبك.
أخيراً، قال: إذن نتحدث غداً،الغداء عندك الظهر الساعة الواحدة .وفي صباح اليوم التالي في الساعة الثامنة صباحاً غادرت مطار جيبوتي إلى عدن.
هنا لابد لي من أن أذكر بالخير إنساناً هو «جامع أو علي» وكان يعمل في المخابرات الفرنسية،ولكنّا كنّا أصدقاء.وجيبوتي آنذاك صغيرة،فقال لي: اسمع يامحمد عبدالواسع نحن أكلنا عيشاً وملحاً.. أنا تعرفني في المخابرات..أنت إنسان طيب لاتؤذي أحداً..اسمع، الكومندان برنييه «مدير المكتب الثاني» يبحث عنك ،أي سلّط عليك آخرين، أما محمد دحان فهو يريد أن يهلكك..أنا أنصحك، «أخرجلك» بر محمد «أي بر العرب»،بلاد العرب رُحلك.
هذا إنسان طيب لم أنسه عندما تعينت بعد ثلاثين سنة سفيراً في جيبوتي ،زرت قبره رحمه الله.
في عدن ظللت ما يقرب من عشرين يوماً،وقد أرسلت إلى نائب القنصل السيد علي بن علي السقّاف رسالة مع صور لي بواسطة الاستاذ الكبير محمد حسين عبدالله سلام الموجود الآن حالياً في تعز،أن يرسل لي جواز سفر يمني من أديس أبابا،فأرسل لي الجواز..وعندها تسللت ودخلت إلى اليمن إلى قريتي في بلاد الأصابح.
وفي اليمن لم أعد خائفاً لأن الإمام كان يحكم اليمن بعقلية القرون الوسطى: يعتمد على مخبرين متطوعين أو يرسل عيوناً لمن يشك فيهم..قعدت خمسة أشهر في الأصابح ومنها قلت «قارب الشر تأمن» وذهبت إلى تعز مقر الإمام أحمد..ولم أقم فيها سوى خمسة أيام ومنها إلى المخا ثم إلى المملكة العربية السعودية لتبدأ قصة جديدة.
كان وصولي إلى جدة في المملكة العربية السعودية فيه كثير من التهوّر والطيش والمغامرة ،فثمّة أمور كثيرة كانت مجهولة بالنسبة إلي وهي الأمور الحساسة التي تحدد إقامتي وحياتي في هذه البلاد،من هذه الأمور


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.