عاش المعمر غالب نصر محمد الحيدري زمناً طويلاً يقول إنه يقارب ال«150» عاماً، لكن ملامحه وقدرته على الحركة والسير توحيان أنه لم يغادر عامه المئة حتى الآن. .. لا أعرف إن كانت الإحصائية تشملني أيضاً.. وما بتُّ أعرفه الآن تحديداً يقول: إن 54% من الحاصلين على تعليم جامعي يعانون البطالة!.. «الحيدري» كان بإمكانه أن يكون شاهداً على أكثر من عصر وعهد عاشته اليمن، غير أن حظه العاثر لم يمكنه من التعليم، وفرص كسب عيشه الضئيلة جداً أيضاً شغلته عن انتهاز فرصة لا تتأتى لغيره ليكن مؤرخاً يدوّن أحداثاًَ شكلت ملامح هذا الوطن وأخرى غيرتها تماماً. قبيل مغادرة الاحتلال العثماني لبلادنا ابتكر المعمر الحيدري طريقة استخدمها لقتل الجنود الأتراك، ويقول متباهياً: «قتلت سبعة اتراك بواسطة حجر كنت اربطها بخيط وتسمى مضيفة» وهكذا حتى خروج الأتراك، ففرحت البلاد بأكملها بذلك وذبحوا وأعدّوا الولائم، ودخلت اليمن عهداً جديداً؛ الإمام يحيى، المنتصر الكبير على المحتل العثماني أصبح إماماً حاكماً لشمال البلاد؛ بينما يقبع جنوب الوطن الغالي تحت نير المستعمر البريطاني البغيض.. أسس الإمام يحيى ومن بعده وريثه الإمام أحمد نظاماً إمامياً كهنونياً غاشماً جعل اليمن أرضاً وإنساناً يعيش حقبة ظلامية بعيدة تماماً عن الحياة الجديدة النهضوية التعليمية التي بدأت تستفيد منها الشعوب العربية القريبة منا.. على العموم الحاج غالب لايزال يواصل حياته منذ تلك العهود، واليوم كما بالأمس مع بعض فروق بسيطة تراه يتنقل بين القرى يبيع عطوراً و«زمام» وهي زينة نساء القرى حسب قوله، وأشياء أخرى، وسبب تنقله هو بطنه التي قال بأنها "جعثته جعث". لا يريد الاعتراف بأنه «شيبة» وزوجاته الأربع التي سئمهن فطلقهن بعد أن أنجبن له أربعة أولاد وثلاث بنات، لم يؤثرن على صحته فهو لايزال يسير بخطى ثابتة، ويدخن سيجارته بأنفاس عميقة ويمتلك ذاكرة حديدية ما شاء الله!. للحيدري حكايات كثيرة؛ غير أن قصة علاج زوجته الثالثة التي أنجبت له أولاده هي المفضلة لديه، حيث يقول: لم تنجب لي زوجتاي الأولتان، أما الثالثة وبعد انتظار طويل دون فائدة ففكرت بالذهاب إلى مشعوذ في منطقة التهايم أيام الإمام أحمد للعلاج.. الغريب أن المشعوذ بمجرد أن رأني سارع بارتجال أبيات شعرية تبين سبب مجيئي، يقول فيها: لا تغني على مال ولا على ماشية أنت تغني على ولد إمكبديه وقد دلوا عليك أربعة في الملقيه مرتك قصير إما قامه أخت كبير وهي هرفيه «أي مجنونة» لأنهن بينهن ماردو يتنقل من اختها إمكبير. إلى مرتك ويلقط إمذرية ثم بعد ذلك قال لي أحكم عليك بسبعة ريالات تنزل تمسحها عليها حتى تحصل على ذرية.. وبالفعل أنعم الله عليّ بالأولاد». الحيدري وهو يعبر عامه المئة بسنوات يعلم الله وحده عددها، يعيش الماضي خاصته بتفاصيله البسيطة.. يحرص على أكل الزوم والحلص والعسل باللبن، ويرتدي مقطبه ومحشته التي يتأزر بها منذ أن اشتراها في عهد الإمام يحيى.. عُدة عمله المكونة من «شوال» يضع كل مقتنياته وأغراضه الشخصية حتى بضاعته فيه. بساطة ملبسه لا تعني أنه لم يكن أنيقاً، فبمقياس اللباس التعزي القديم يبدو «الحيدري» رجلاً أنيقاً. وتبقى من أغراض هذا العجوز سكينه المتهالكه فعل الزمن وكثرة الاستخدام.. تلك السكينة لطالما اعتبرها رفيقته في حله وترحاله يؤمن نفسه بها، وأيضاً بها يحلق ذقنه بصورة مستمرة؛ ألم أقل لكم إنه رجل أنيق؟!. للمعمر غالب نصر محمد الحيدري، وهو من سكنة منطقة المجاعشة بمديرية مقبنة، روح مرحة وحكايات تختزل الماضي في ذاكرته وتنقلها لنا بمنتهى اللطف والمتعة. هل تصدقون أنه اليوم وقد بلغ به العمر عتياً لايزال يبحث عن مصدر رزقه بين قرى متناثرة يحفظ دروبها جيداً؛ وهي بدورها تشتاق لوقع خطواته التي اعتادتها. صاحب العمر الكبير حفظه الله تجاهلته لجنة الضمان الاجتماعي في المسح الأخير.. تجاهله عقال منطقته والأمناء الشرعيون.. ويعتب كثيراً على الشيخ محمد عبدالقادر عبده فرحان قائلاً: إنه: «أبى أن يسجلنا!!».