إهداء : إلى الدجرة (2) التي تبتسم لي نهاراً.. وتأكل لحمي الليل نياً أول من استخدمته كملكد خالته زوجة أبيه. طحنت فيه كل أنواع الحبوب والبهارات، التراب، والأحجار، والأشواك، أوقات فراغها، ضجرها، جنونها.. انبساطها.. الهواء والفراغ. حتى أبوه طحن فيه “ قاته”(3) وبعض انكسارات، وأحزان مستكينة، كثير من هرمه، بمافيه بعض المأكولات اليابسة التي لا يستطيع فكه المهترئ أن يأكلها. استلفته الجارة القريبة، الجارة التي تسكن في آخر الشارع، ثم جارات الحارة، والحارات المجاورة طحنّ كل شيء عندهن برغم امتلاكهن (ملاكد) خاصة بهن،لكنهن كما قلن أن (ملاكدهن) لا تعرف ذلك الرنين الذي يمتعهن ويجعل عملية الطحن تتم بيسر. عرفت، القرى، والمدن القريبة والبعيدة عن هذا الملكد الرنان الذي يلكد كل شيء دون متاعب، تهافتوا عليه، طحنوا فيه كل ما يخطر وما لا يخطر على البال.. وخزنوا الأشياء المطبوخة للأيام العصيبة وغير العصيبة. سمع سلطان(تنكا بلاد النامس) عن هذا الملكد فقال لوزيره: لقد سئمت هذه الملاكد الصدئة والصهدة إنها لم تعد قادرة على إشباعي أيها الوزير.. بل لقد أصبحت أصواتها تزعجني أريد أن أتسلى بملكد من نوع خاص هلا دللتني على ذلك الملكد الذي انتشر صيته، وعظم شأنه في كل أرجاء ( تنكتي ) . أيها الوزير: بسرعة ائتوني به.. فحتماً سيبعد عني الكلل والملل، فقد قيل عنه الكثير والكثير ، ويكفي أنه ( ملكد رنان ) ، (طنان) ، (حنان) و(فنان) أيضاً. وكان له ذلك. طحن السلطان فيه كل أشيائه.. وكان معجباً به أيما إعجاب بل أصبح كطفل لم تسعه الفرحة بحصوله على لعبة جديدة وزاد من إعجابه المجنون أن صب كل الصخب والقلاقل مع الفلافل.. وكان الطحن عالي الجودة. برغم أن الملكد أصدر تأوهات متباعدة لم ينتبه إليها سلطان (تنكا) وهو في ذروة الفرح .. وأصبح سلطان (تنكا) لا يفارق الملكد يصطحبه في كل صولاته وجولاته.. بل وقيل أنه ابتعد عن شؤون الحكم فانتشرت أحاديث في أرجاء تنكا أن التدهور سيطالها لا محالة . في يوم قائض من أيام شهر الصيام. سر (الملكد) أحد أصدقائه من أنه تعب من عيشته تلك… ولا بد من الرفض لحياة (الملاكد) .. صرخ في وجهه صديقه (الملكد) القديم. وتقافزت بقية (الملاكد) للزعيق والصراخ في وجهه قائلين: “ (الملاكد) لا ترفض عيشتها. هي خلقت (للكد) فقط.. ومن يرفض فالموت جزاؤه.. أفهمت”. خاف (الملكد) من الموت، واستمر في (اللكد) والطحن ليستعيد رنينه.. فطحن الضحكات والنهدات، وأشعاراً جميلة وهدهدات وألعاباً كانت تطوف الغدير. وبصوت كليل.. حَدّثَ الملكد أصدقاءه مرة أخرى بأنه لم يعد يحتمل، فالموت عنده أفضل من الحياة التي يعيشها وتعيشها بقية (الملاكد) .. رثوا لحاله.. هدأوه.. وقالوا له كان الأحرى بك أن ترفض مثل تلك العيشة منذ أن طحنت على رأسك خالتك لماذا لم ترفض في ذلك الوقت؟ هدئ الآن من روعك. وواصل حياتك، فالآن مستحيل أن ترفض، وتقول لا.. فقد تعود الجميع على (اللكد) بك ، وحتى أنت قد تعودت على (اللكد) فجسدك خلق للكد فقط . فأقلع عن أفكارك المتهورة وإلا … - تململ ومسح دموعه.. قائلاً قد رفضت يا أصدقائي من قبل فكنتم تسودون الدنيا في وجهي قائلين: نحن لا نرفض طبائعنا لا نخرج عن جلودنا..أصولنا.. فصولنا.. احتد صوته.. انتفض وقال : “ أنا الآن أرفض عيشة (الملاكد) .. ولن أواصل” . حتى لو دفعت حياتي..! قرار سلطاني ( تنكوي ) رفيع المستوى: قررنا بعد قرارات المصادقة مع دول الجوار والدول الصديقة والشقيقة، ودول الصداع و القذاع .. أن يتم استئجار (الملكد) الرنان لهذه الدول حتى ينتهوا من كل أعمالهم، وخاصة فعالياتهم الوطنية.. ويجدد استئجاره عند الطلب. لا…لا.. كفى يا تنكا.. كفوا يا دول الصداع.. و القذاع هكذا صرخ( الملكد ) وأصدر صيحات باكية.. دامية كان بكاؤه مراً مثل مرارة حياته.. لم ينم تلك الليلة ..خرج إلى أرض فسيحة .. انتظر بزوغ الشمس.. وعندما شعر بضوئها، ودفئها ، وقف دامعاً يناجيها. يا عين الشمس يا عين الشمس يا عين الشمس أعطيك (ملكد) الحمير، وأنت اعطيني شعاعاً من شعاعات أولادك الصغار. لملم نفسه، ورمى بجسده نحو عين الشمس.. ولدقائق هوت به.. كانت شمساً ألقة حارة.. شعشعت أضواؤها كل الزوايا والخبايا والحفر. 1998م (1) الملكد: الهاون. (2) الدجرة: كائن أسطوري يتغذى على لحوم البشر أو ما تسمى بالسعلاة. (3) القات: نبات يمضغه اليمنيون في وقت القيلولة .