على عجل من رؤى الضوء، يدركني مهرجان العصافير، فجر البنفسج، صبح تدلى على شجن للطفولة، كم كنت ألمحني لاهثاً في خطى والدي، واحتمال المسافات ينزاح في ظله، كنت أسأله: والدي!! والدي؛ أين نحن؟!، وما الآن؟!، هذا الصباح الجميل، دخان القرى، نكهة البن، عرس الفراشات، لحن الأزيز، طريق يضيق، يضيق، يزف لخوفي خطى الغول، أو بُقعاً لسُراة الظلام.. في الطريق إليه تضيق عيناك ذرعاً بزحام وتقارب الجبال، لكن النسيم يأتيك قبل أن تدرك نفسك رهينة للدهشة أمام مسرح الطبيعة الفاتنة لوادٍ يتحايل على شموخ الجبال منخرطاً صوب البحر، إنه وادي رماع، صباح يتجدد في ذاكرة الجمال والرقة. هناك حيث ابتهاج الينابيع، وانتعال الجبال الشاهقة لخشوع البساط المتسع، وقلق ماءٍ يتزاحم في السواقي والجداول، متنسماً رائحة النعناع «النِعَضْ» وشبق الطين في مخاض لمولد قصيدة خضراء تتبتل في فضاءات الضوء المغير الذي يتعرى له الجمال منذ الغبش. رماع.. الوادي الكفيل بإيقاظ عوالمك الظامئة لرشفة من كؤوس ناضحة بعليل الصباح والخضرة والماء.. وشيء من حلم يهوي في سحيق الشجن. وادي رماع.. التربة الخصبة والغيل الجاري وظل وارف لباسقات تشاكس شموخ الجبال.. وتتهجى انسياب الماء الذي يمعدن الحزن الجميل. رماع الإنسان الذي أتقن سفر النجوم وبشرى المواسم.. فعلق في جبينه اصفرار الماء وفي عينيه بريق السندس وفي عزمه حب العمل. رماع النبع والحياة وجهتك إليه ستكون في انطلاقك من «معبر» عبر خط اسفلتي يتجه غرباً «ذمار - الحديدة» جبال وقيعان معبر وضوران بتضاريسها البركانية هي الرافد الأساسي لينابيعه الرئيسة التي تنحدر مسرعة صوب الغرب متخللة مزارع وشعاباً تتزاحم فيها الأشجار من العلب والطنب والأثل وأشجار المانجو والموز والبرقوق. ستكون أنت منحدراً معه دون أن تدرك أن وادياً غيلاً يجري بين هذه الجبال.. وما إن تصل إلى منطقة تسمى «حباب» تحت جبل الشرق الشاهق شرق مدينة الشرق آنس حتى ترى المياه تجري بشمالك من بين أيكات الخضرة، ويختفي عنك الماء في الالتواءات.. إذا كنت غير قاصد مدينة عتمة أو وصاب. الأمر يختلف تماماً عند وصولك من الحديدة إلى مدينة الشرق عبر طريق «باجل - معبر» فما إن تتجه يميناً صوب الجنوب الغربي للمدينة حتى تدركك أسئلة الدهشة الممزوجة برائحة الخضرة والماء يتدفق في هذا السيل الصافي.. ووجهته وينابيعه.. وأنت تقترب منحدراً مع الماء نحو أقدام جبال عتمة وريمة ووصابين.. ستخرج هذه الأسئلة فصيحة لما معك من الصمت. هنا ستدرك سر سرعته.. وابتهاج الحياة من حوله، من إنسان وحيوان وزراعة.. مواكب الأبقار والأغنام تتجه صوب سوق مدينة الشرق عكس اتجاه الماء وأخرى تتجه مع الماء إلى سوق الاثنين والخميس والسبت والأحد.. هذه المواكب لتجار اعتادوا السفر لتسويق مواشيهم. أشجار من القصب «القرم» تفصل بين تربة الوادي وصخور الجبال.. رائحة النعناع والبن والطنب والعلب تنسنس عبر الفضاء الرحب وتزف للرعاة وقود العواطف الجياشة بالرقة. أصوات مضخات تصارع بأصدائها الالتواءات وأوكار النسور البعيدة.. الوادي يضيق رويداً رويداً حتى يصير بين جبلين تفصلهما أمتار لا تزيد عن 200 متر.. وخلاف على ذلك يتسع تدريجياً حتى يدهمك أفق بعيد من الاخضرار والمزارع والهضاب وأودية أخرى.. تتشكل روافد جديدة ثم يضيق من جديد كل ذلك وأنت ترقص مكرهاً أو راضياً على متن سيارة «شاص» تقطع مئات بل آلاف الكيلومترات دون أن تعلم أنت بتعب الرحلة وما يخبئه الماء لخداع الإطارات. هكذا ستكون قد عرفت أن هذا وادي رماع أحد أشهر الأودية في اليمن، وهي الميزة التي تحظى بها محافظة ذمار الواسعة.. إذ يبدأ من مشارف جهران غربي ضوران وجبال آنس وتتجه ينابيعه من جنوب ضوران وجبال آنس، المصنعة، وجبل الشرق، والمنار، وحمام علي، وصافية المهدي، يمر بمدينة الشرق ويفصل ريمة عن عتمة ووصابين وينزل إلى سوادة - المشرق حتى يأتي الرباط فيروي السهول المعروفة بالجروبة التابعة لناحية الحسينية، كما يروي السهول الشمالية لبيت الفقيه من فروعها ومنها يتجه غرباً إلى الساحل حتى تنتهي هذه الفروع جميعاً بوادي الجاح الذي يصب في البحر. الأسواق الشعبية على طول ضفاف الوادي تقام أسواق شعبية أسبوعية ما يقارب عشرة أسواق مختلفة موزعة حسب المناطق ومحاور الكثافة السكانية.. من هذه الأسواق «مدينة العبيد» وهي مدينة الشرق حالياً وتقع غرب جبل الشرق آنس.. وبفعل التطور المتسارع أصبحت ملتقى لثلاث محافظات هي الحديدة وريمة وذمار. قديماً كان يقام سوقها يوم الثلاثاء.. وحتى الآن لايزال يوم الثلاثاء من كل أسبوع هو سوقها الحقيقي رغم أنها أصبحت سوقاً نشطة على مدار الأسبوع.. وسوقها القديم الذي يزدحم في كل ثلاثاء يقسم إلى عدة أسواق، فهناك سوق المواشي «المرباع» حيث يلتقي التجار من مختلف المحافظات لشراء هذه المواشي وتصديرها إلى المحافظات والمدن الرئيسة.. وأيضاً سوق اللحم «المجزارة» وسوق الحبوب وسوق الفضيات وسوق المشاقر وغيرها من الأسواق. سوق الاثنين يقع على بعد حوالي 50 كيلومتراً من مدينة الشرق يتمركز على الضفة الغربية الشمالية للوادي في مديرية السلفية محافظة ريمة.. بينما سوق الخميس الذي يبعد عنه حوالي 30 كيلومتراً غرباً يقع في أسفل الجبل «المخدر» عتمة شرق ضفة الوادي - وهكذا - تتوزع الأسواق حسب أيام الأسبوع حتى تنتهي بالحسينية وبيت الفقيه التي لها أسواقها وطقوسها الخاصة. المحاصيل الزراعية عبورك في هذه الطريق سيكون أكثر دهشة إذا أدركت أنك خارج ذاكرة الفصول المتناقضة - خصوصاً في سنوات تكون ممطرة وخيّرة.. ولم يميز الخريف عن الشتاء، والربيع عن الصيف سوى المحاصيل الخضراء وأنواع الذرة المزروعة. ففي الخريف تزرع الذرة الحمراء العادية أو البيضاء، وفي الشتاء تزرع الذرة الشامية التي تكون مناسبة للطقس والبرودة. وفي الصيف يكثر الإخضرار الموجود على مر الفصول ليتسلق الهضاب والجبال والتلال، وفي الربيع يظهر على سفور الأشجار الخضراء ابتهاج الزهور والعطر يتدفق أريج المروج. إلى جانب هذه الزراعة المعروفة والموزعة على الفصول بكثرة زراعة الذرة الشامية في مختلف الفصول في بعض مناطق الوادي.. ويزرع في مختلفه الطماط والبطاط وغيرها من الخضروات، وتتميز محاصيل هذه المنتجات بجودتها من حيث الحجم والفائدة الغذائية؛ إذ تتميز عن غيرها في الأسواق المحلية التي تصدرها. وبالنسبة للفواكه تزرع المانجو والجوافة والموز بشكل كبير، وفي بعض الأحيان من سنوات الخير يفوق إنتاج وادي رماع من الموز كل المناطق المختلفة والمشهورة بزراعة الموز. كما يعتبر وادي رماع من أشهر وديان اليمن في زراعة البن والكاذي والشُقر على طول امتداده.