اول ما اذهلني وانا استمتع بقراءة كتاب في سبيل التحديث والتنمية للدكتور حسن مكي الخبير الاقتصادي ورئيس وزراء اليمن الأسبق الذي يسرد فيه بعضاً من ذكريات حياته ويتناول الاحداث العاصفة التي مرت بها اليمن والمنطقة العربية حاجة اليمنيين واهل الجزيرة العربية في تلك الفترة إلى المغامرة والغربة الطويلة بحثاً عن المعرفة، والصراع مع قسوة الحياة وطوق العزلة وصعوبة الاتصال، فلا تأتي المعرفة الا ثمرة معاناة طويلة إذ يصف المشاق التي واجهها حين أراد الالتحاق بالدراسة في لبنان سنة 1974م وكيف عانى وصحبه حتى الخروج من السجن الكبير من شمال اليمن إلى عدن، ومن هناك بحراً إلى مصر ومنها إلى لبنان، ربما في آخر رحلة على قطار الشرق إلى لبنان عبر فلسطين. وتبدأ مرحلة جديدة من معانقة فضاء المعرفة، أولاً في لبنان ثم في مصر ثم في ايطاليا، خلال رحلة استغرقت 13 سنة لم يعد المؤلف خلالها إلى اليمن سوى مرة واحدة حتى عاد في مطلع الستينات إلى يمن ينام منعزلاً قبل نحو ألف سنة ومن زمن المدينة التي تخرج فيها وهو انتقال صعب بين زمنين، يحتاج المرء إلى ان يبذل جهوداً خارقة للتوفيق بين متناقضات جمة، ليشق طريقه بقدر أقل من الصعوبات دون يأس ودون فقدان اتزان. وفجأة ينتقل إلى زمن العواصف بعد تفجر الأوضاع من حوله ليجد نفسه في ظرف أيام في بؤرة ملتهبة من بؤر الحرب الباردة في القرن العشرين، بعد ان تغير النظام السياسي إلى النقيض وقدمت قوات عبدالناصر إلى جبال اليمن التي اعيت الاتراك العثمانيين، وأصبح العالم كله يتصارع في بلد كان قبل أسابيع منسياً، وإذا بالنظام الجديد الراغب في اطلاق عملية تنمية دون موارد مالية وبشرية ودون ثروات طبيعية، وقبل كل شيء دون استقرار، ليجد نفسه في أمس الحاجة إلى جهود حفنة قليلة من متعلمين قدموا للتو من الخارج قبل ان يراكموا قدراً كافياً من الخبرة ولم يكن امامهم سوى اللجوء إلى الخبرة المصرية المجانية، فسعوا لاقناع سلطة جديدة يمسك بها العسكر بحكم الحرب المستعرة، ألا تقتصر المساعدة المصرية على الجنود والأسلحة للاستعانة بالمصريين في تأسيس نهضة تعليمية وثقافية وتنموية في بلد كان يبدأ كل شيء من الصفر، ومن هنا ارتبط المؤلف بالتحديث والتنمية حتى الآن. والكتاب صفحة مهمة من ذاكرة القرن العشرين، يمثل جيل الكبار بالمعنى المعرفي والسياسي، اولئك الذين لم يولدوا وكل شيء متاح، ولكنهم تمردوا على الظروف المستحيلة وشقوا طريقهم بعزم ومثابرة، وعبروا من زمن غابر إلى العصر الراهن بعنفوان ونلمس في الكتاب اصداء احداث كبيرة، مثل نكبة فلسطين سنة 1948م وحريق القاهرة سنة 1951م وثورة يوليو في مصر وجهود الاحرار اليمنيين للتغيير، ومحاولة اغتيال الامام سنة 1961م في الحديدة وموته متأثراً بهذه المحاولة، لتتغير أوضاع البلاد فجأة ويصبح المؤلف من أهم المسئولين في المجال الاقتصادي والسياسي والديبلوماسي حتى تولى رئاسة الوزارة، ويصبح شاهداً على تقلبات الأوضاع متمسكاً بالدعوة إلى المصالحة لتوفير الاستقرار الضروري لانطلاق التنمية.