يقول الدكتور زكي نجيب محمود «رحمه الله»، في تجديد الفكر العربي: «سلطان الماضي على الحاضر هو بمثابة السيطرة يفرضها الموتى على الأحياء.. إن للزمن جلالاً أيما جلال.. فما أسرع ما يتحول الأمر عند الإنسان من إعجاب بالقديم إلى تقديس له يوهمه بأن ذلك القديم معصوم من الخطأ...».. والعادات والتقاليد، وفق هذا المنظور، هي سيطرة الموتى على الأحياء من زاوية معينة.. فما العادات والتقاليد، بصفة عامة، إلا سلوكيات لبشر في الماضي، عاشوا في ظل ظروف معينة دفعت إلى تبني هذا السلوك أو ذلك، سواء من أجل ذات الحياة، أم من أجل ضرورات اجتماعية ذات علاقة بالحياة ذاتها في التحليل الأخير، أو مجرد خيار كان متاحاً ضمن خيارات أخرى.. ولكن المشكلة ليست في السلوكيات، ماضيها وحاضرها، بقدر ما هي في الثبات، ومن ثم القداسة، التي تضفى على سلوكيات معينة بعد أن تنتفي ظروفها، ولكنها تبقى مؤثرة، بل ومسيِّرة للعقل والسلوك اللاحق.. والخطر - هنا - يكمن في أن الظرف المتغير يحتاج إلى سلوك متغير.. قبل ذلك، فإن الظرف المتغير يحتاج إلى «ذهنية» تتقبل التغير ومن ثم تكون قادرة على التعامل معه.. والنظرة التقديسية للعادات والتقاليد تقف حاجزاً أمام الذهن وقدرته على التعامل مع متغيرات العالم من حوله، وبالتالي تتحول إلى عائق يقف أمام السلوك المناسب في الظرف المناسب. ذلك لايعني الدعوة إلى نفي العادات والتقاليد نفياً مطلقاً، فذاك موقف إلى السذاجة أقرب.. فكل مجتمع، مهما كان مكانه أو زمانه أو أسلوب حركته، يقوم في بنائه وحركته على بنية من العادات والتقاليد والأعراف، ونحو ذلك من مكونات ثقافية.. فالمجتمع بطبيعته ليس مجرد جمع من الناس يعيشون معاً، ولكنه كيان بشري متفاعل مع بعضه البعض، يمتد في المكان والزمان معاً من جراء ذلك التفاعل. ولكن موضوع حديثنا - هنا - هو تلك النظرة التقديسية للعادات والتقاليد، وكأنها ليست صناعة بشرية بل وحياً إلهياً لاتجوز مساءلته.. فالمسألة ليست حدية بحيث تكون مع التقاليد أو ضدها، بقدر ما هي نظرة نقدية يجب أن تسود، تجاه كل ما هو فعل بشري، وذلك من أجل حركة المجتمع نفسه. فالذي يرفض العادات والتقاليد جملة وتفصيلاً، إما أن يكون واهماً أو يكون حالماً، وفي كثير من الأحيان يختلط الوهم بالحلم.. وبعيداً عن الوهم والحلم، يكون بعيداً عن الواقع الاجتماعي وحركته الفعلية.. والذي يقبل العادات والتقاليد على إجمالها، ويقف منها موقفاً تقديسياً، هو حجر عثرة في طريق حركة المجتمع، وفي ذلك كل الخطر على المجتمع ذاته في نهاية المطاف. الموقف النقدي من مسألة العادات والتقاليد هو الموقف الذي يربط الأسباب بمسبباتها من ناحية، ويستطيع التمييز بين ما هو جزء من بنية المجتمع «في هذه اللحظة، وهذه النقطة»، وما هو مجرد محاكاة لسلوك سابق لم يعد له ما يبرره هنا والآن.. ومثل هذا الموقف النقدي ليس مجرد رفاه فكري يدور في أروقة ودوائر «المثقفين المحترفين» المغلقة، ولكنه مسألة حياتية تتوقف عليها حياة مجتمع من عدمه. بطبيعة الحال لايمكن أن يطالب الإنسان البسيط بموقف نقدي واضح، كالذي يطالب به المثقف، أو المنشغل بالهم الثقافي عامة، ولكن المثقف مطالب بنشر هذا الوعي النقدي، من خلال التفاعل مع المجتمع بصفته جزءاً منه، وليس وصياً عليه، أو حكماً في قضاياه، كما هو حال المثقف العربي بصفة عامة لاتخلو من استثناءات. وعندما يقال: إن مثل هذه المسألة قضية حياتية ملحة، فإنه ليس هناك مبالغة في الأمر.. فمن المعلوم أن الثقافة العامة لأي مجتمع تحدد في النهاية حركة هذا المجتمع من خلال تأطير سلوك أفراده وجماعاته ومؤسساته.. فالفعل هو في النهاية موقف وقرار ذهني، قبل أن يتحول إلى سلوك ملموس. ولسنا - هنا - في مجال مناقشة الأصل المعرفي أو الاجتماعي «الإبستمولوجي والسوسيولوجي» لأفكارنا، وتلك المفاهيم المسيطرة على الذهن، بقدر ما هو تقرير حقيقة اجتماعية معاشة بغض النظر عن أصلها، وإلا غرقنا في أحجية البيضة والدجاجة من جديد. والعادات والتقاليد، والموقف منها «تقديسي أو نقدي»، هي جزء من الثقافة العامة للجماعة.. وبصفتها تلك، فإنها تقيد السلوك أو تطلقه، وبناءً على أحد الحالين تتحدد حركة المجتمع: إما ركوداً أو انطلاقاً. فمثلاً، تعتبر التنمية الاقتصادية اليوم، والتنمية بشكل عام، حجر الرحى في أي نقاش أو خطاب يناقش العلاقة بين الشعوب في الخارج، والعلاقة بين مكونات المجتمع في الداخل، بما يكفل استقرار الداخل والخارج معاً.. فتحقيق مستوى معيشي يحترم الحد الأدنى من آدمية الإنسان، ركن أساسي في تحقيق السلام الاجتماعي والدولي في ذات الوقت.. ولكن كيف يمكن تحقيق التنمية؟ سيكون الجواب بالطبع بالتنمية المستمرة.. ولكن كيف يمكن تحقيق التنمية؟ هنا سيدلي كل مختص بدلوه: سيتحدث الاقتصادي عن الموارد وإدارتها، والادخار والاستثمار، والخصخصة و«العمعمة »، ونحو ذلك.. وسيتحدث عالم الاجتماع عن التنظيم الاجتماعي، وكيف يكون، والمجتمع المدني وحركته، وهكذا.. وسيتحدث عالم السياسة عن العلاقة بين الدولة والمجتمع، والتنظيم السياسي وكيف يكون، وعلاقة الحاكم بالمحكوم، وهكذا.. وسيتحدث القانوني عن المؤطرات القانونية الضرورية لأي فعل وعلاقة.. وكل ذلك شيء طيب وعظيم، ولكنه يبقى حديثاً عن عوامل ومتغيرات تقع خارج الذات.. ليتحدث الجميع عن المتطلبات الموضوعية للتنمية، ولكن هناك عاملاً معيناً إن لم يتوافر، فلا قيمة لأي شيء موضوعي. ذلك هو إرادة التنمية، والموقف الذهني «فردياً كان أو جماعياً» من قضية التغيير مثلاً، التي هي جوهر التنمية.. فقد يتوافر في بلد مّا كل ما يتحدث عن الاقتصاديون من عوامل موضوعية للانطلاق، ولكن الثقافة السائدة ومفاهيمها المسيطرة على العقول، تقف دون الاستفادة من العوامل الموضوعية المتاحة. وفي هذا المجال، يتساءل المفكر والسياسي الفرنسي ألان بيرفيت: «لماذا تستطيع الهند الجنوبية إطعام 385 شخصاً في الكيلومتر المربع الواحد، في حين أن أفريقيا الاستوائية التي تسخو عليها الطبيعة بالمطر، والشبيهة بها من حيث مناخها وطبيعة أراضيها وتضاريسها، تكاد لاتستطيع أن تضمن إطعام أربعة أشخاص من سكانها في الكيلومتر المربع الواحد؟». ويمكن أن يُطرح السؤال بصورة عكسية حول الحالة اليابانية مثلاً، فيقال: «وكيف حققت اليابان سيادة اقتصادية عالمية، وهي الفقيرة في كل الموارد الطبيعية تقريباً؟».. قد يكون لنوعية التنظيم الاجتماعي والسياسي دور في ذلك، وقد تكون الموارد الطبيعية ونحوها حافزاً لتحقيق التنمية، ولكن كل ذلك يبقى المناخ الملائم، ولكن المناخ بذاته لايحقق شيئاً. قد تملك البذرة المناسبة، في المكان المناسب، وفي الوقت المناسب، وفي ظل ظروف بيئية مناسبة، ولكنك لاتملك الرغبة في الزرع، أو تحتقر الزراعة، أو أي موقف ذهني آخر.. هنا لن يكون لأي شيء قيمة، طالما أن «الإرادة» مفقودة.. وإرادة الشيء موقف ذهني قبل أي شيء آخر.. والموقف الذهني هو جزء من الثقافة السائدة، سواء كانت عادات وتقاليد، أم أشياء أخرى. وعلى ذلك فالثقافة عموماً، والعادات والتقاليد خصوصاً، هي سلاح ذو حدين: فإمَّا أن يكون عائقاً، وإمَّا أن يكون حافزاً في حركة المجتمع.. ولكن تحديد ما إذا كانت عائقاً أو حافزاً، يستلزم بداية موقفاً نقدياً منها، ليس بالتقديسي المتخوف، ولا بالعبثي غير المسؤول. وفي مجتمعاتنا العربية عموماً نحن أحوج ما نكون إلى مثل هذا الموقف النقدي، حيث «سلطة الأموات على الأحياء» - وفق تعبيرات الدكتور زكي نجيب محمود - تصل في أثرها السلبي إلى مدى بعيد، سواء كانت هذه السلطة عبارة عن توجيه مباشر، كما في «الثقافة الرفيعة»، أم كانت متجسدة في عادات وتقاليد ذات توجيه غير مباشر، ولكن أكثر ثباتاً وتأثيراً بالنسبة لعامة الناس بالتحديد.. وحين التطرق لمسألة العادات والتقاليد، تبرز قضية خطيرة وفي غاية الأهمية بالنسبة لمجتمعاتنا العربية عموماً.. وبذلك نعني اختلاط العادات والتقاليد بالدين، سواء بجهد البعض المباشر، أم بعدم وعي الكل الاجتماعي الذي تصل عنده درجة التقديس لهذه العادات والتقاليد بحيث تصبح جزءاً من الدين، وهي ليست كذلك.. فالدين في الخاتمة وحي رباني، والثقافة عموماً فعل بشري تاريخي.. كما أن بعض التيارات السياسية والفكرية تحاول في كثير من الأحيان «سواء بوعي أم دون وعي، بشكل مباشر أم غير مباشر»، أن تربط بين مفاهيم وقوالب ثقافية معينة، ومن ضمنها عادات وتقاليد محددة، وبين مسألة «الهوية».. بحيث يصبح التخلي عن هذا المفهوم كما يُقدم، أو ذلك التقليد، تخلياً عن الهوية ذاتها، اختلاط مفاهيم ومقولات الثقافة العامة بمسائل مثل الدين والهوية، يحول المجتمع إلى كتلة عاجزة عن الحركة، حتى لو أرادت.. وهي لن تريد طالما أن الإرادة ذاتها فعل ثقافي يستلزم موقفاً ذهنياً يقف هذا الخلط غير المبرر في وجهه. وهنا يبرز دور المثقف الإيجابي في موقفه النقدي، وتفاعله مع المجتمع الذي يعيش فيه.. إنه دور المحلل والناقد الذي يبين أوجه النقص والخلل، حتى لو لم تتقبله الأكثرية في وقت من الأوقات، وهي لن تتقبله طالما أنها واقعة تحت سلطة الأموات. ولكن في النهاية، فإن البذرة الجيدة ستجد مجالاً للنمو ولو بعد حين، والمثقف هو الذي يبذر البذرة الطيبة ولاينتظر أن يأكل من ثمرها بالضرورة.. فإذا كانوا غرسوا فأكلنا، فنحن نغرس فيأكلون.. ولكن الفرق بيننا وبينهم هو أن غرسنا يجب أن يكون أطيب، وهذا هو جوهر القضية، وإلا نكون قد فقدنا مبرر الحياة ذاتها.