هل محددات ثقافتنا الذاتية التاريخية، وعناصرها إجمالاً، هي بواعث دفينة للعنف والدم، وبالتالي فهي ستبقى دوماً وأبداً مصدراً لذهنية عنيفة، وسلوك دموي في حياتنا؟ أم على العكس من ذلك.. أي أن ثقافتنا، في خطوطها العامة، هي ثقافة تسامح وتعايش بين الأمم والشعوب في الخارج، وبين الجماعات المختلفة في الداخل؟ ونفس السؤال يمكن أن يطرح حول كل الثقافات الأخرى، فيكون التساؤل حول هذه الثقافة أو تلك مثلاً، وموقعها بين طرفي العنف والتسامح. الجواب الايديولوجي، أو الصادر عن منظور قطعي عموماً، لمثل هذه الأسئلة، واضح وصريح ومباشر، ولايحتمل إلا اجابة واحدة: إما هذا الطرف أو ذاك، ولا وسط أو احتمالات خلال ذلك.. فصاحب المنظور القطعي المناهض للغرب مثلاً، لايرى في الثقافة الغربية إلا كل آفة وعيب، بدءاً من السياسة، ووصولاً إلى المجتمع، مروراً بالمسلك الأخلاقي الشخصي للأفراد، ولافرق - هنا - بين قديم وحديث في هذه الثقافة، بل إن كل التاريخ الغربي يوضع عادة في جراب واحد، لا فرق - هنا- بين أيديولوجيا قطعية أو أخرى، فالثقافة الغربية هي التي أفرزت الصليبية والاستعمار والحروب الأهلية، ونشرت أمراض الجنس والعادات السيئة في العالم قديماً، وهي التي أفرزت الفاشية والنازية والشيوعية والصهيونية بالأمس القريب، وتنشر العلمانية والإباحية والأمبريالية والحروب وكل ما هو سيء في عالم اليوم. وسوف تنهار هذه الثقافة مهما طال الزمن أو قصر، لأنها سيئة في جوهرها.. وعلى العكس من ذلك، فإن الثقافة الذاتية، هي الكمال بعينه، وهي البديل الأبدي والسرمدي للثقافة الغربية المنحلة. وذو الهوى الغربي بعين واحدة، على الجانب الآخر لايرى في الثقافة الذاتية إجمالاً إلا كل مثبط للحركة الحرة والإبداع الخلاق، فهذه الثقافة هي التي قولبت كل شيء في الحياة الاجتماعية والثقافية، بقوالب جامدة لايمكن الخروج عليها أو منها، وحبست الفرد والجماعة في سجن عقلي تاريخي، بحيث انفصل عن حركة الدنيا من حوله، فتجاوزته هذه الدنيا.. وتاريخياً فإن هذه الثقافة هي ثقافة المحنة والاضطهاد والقمع والصراعات الفئوية الداخلية، التي حتى وإن هدأت، فإن جذورها باقية في المفاهيم المعششة في الأذهان. وإذا كان الغرب قد أفرز الاستعمار في الماضي، فإنه أفرز الديمقراطية الحديثة، وإذا كان الدم هو عنوان الغرب في السابق، فإن التقنية الجبارة هي اسمه المعاصر.. ونحن ننطلق من حيث تنتهي الأمور، لا من حيث ابتدأت، وفي النهاية يكمن المعنى. أي هاتين النظرتين هي الصح، وأيهما الخطأ؟ لقد أوردنا هذين الموقفين كمثال على الإجابات القطعية التي لاترى إلا الطرف من كل شيء، وإلا فإن المواقف المترددة بين هذين الطرفين كثيرة الحقيقة، كما تبدو من زاوية تحاول أن تكون موضوعية، هي أنه ليس هناك «صح» أو «خطأ» في هذا المجال، لأن القضية ليست من قضايا المنطق المجرد، بقدر ما هي من قضايا السلوك والذهن الذي يقف وراءه. فثقافتنا الذاتية ليست خيراً كلها، وليست كذلك شراً كلها.. بل إن مفاهيم الخير والشر لا مجال لتطبيقها في هذه المسألة، لأنها ليست مسألة في علم الأخلاق، كما أنها ليست من قضايا المنطق كما ذكر آنفاً.. فكل ثقافة تتكون من عناصر متداخلة متفاعلة في هيكل واحد، ويمكن القول: إن هذه العناصر هي «نصوص» الثقافة، المكتوبة والمتعارف عليها، إن صح التعبير، التي لايمكن أن تفهم بذاتها، بل من خلال السياق والنسق الاجتماعي والذهني الذي تعمل هذه الثقافة في ظله.. هذا السياق، وذاك النسق بالتالي، هو الذي يمنح معنى معيناً لهذا العنصر أو ذاك من عناصر الثقافة، فيجعلها العنصر ذاته معبراً عن التسامح مثلاً في فترة ما، وعن نقيضه في فترة أخرى، وذلك وفق اختلاف التفسير والتأويل لذات العنصر، وما ينبثق عنه من سلوك، وبناءً على عوامل وعناصر لا علاقة لها بالمسألة المعرفية البحتة.. فمثلاً، العبارة الشهيرة المنسوبة للسيد المسيح - عليه السلام- : «ما لقيصر لقيصر، وما لله لله» أُعطيت معنيين متناقضين في فترتين تاريخيتين مختلفتين. ففي فترة الصراع الأولى بين الكنيسة والأباطرة في أوروبا، انتصرت الكنيسة وأصبح البابا هو الذي يهيمن على (السيفين)، «الروح والجسد، مملكة الله ومملكة الإنسان» بصفته ممثل المسيح على الأرض، ووريث بطرس، وبالتالي تحول ما لله وما لقيصر للبابا جميعاً، وفق تأويل معين للنصوص المسيحية. وفي فترة لاحقة، وخلال فترة الصراع الثانية بين الكنيسة والملك، بصفته ممثل الدولة القومية الناشئة، تحولت المقولة إلى علمانية صريحة، بحيث أصبحت الكنيسة تابعة فعلياً لمؤسسة الدولة، أي مؤسسة قومية، وفقدت صفتها المفارقة للقوميات، وليس العكس كما كان في السابق، وما ثورة مارتن لوثر الدينية مثلاً إلا إعادة تفسير وتأويل للنصوص المسيحية في سياق اجتماعي وسياسي وثقافي وتاريخي مختلف. ولماذا نذهب بعيداً ولدينا في تاريخنا ذاته شواهد على مثل التحليل السابق؟ وبدون الولوج عميقاً في دهاليز التاريخ الغائرة، هناك حادثة شهيرة وبسيطة معروفة تكفي شاهداً، فعندما قُتل عمار بن ياسر «رضي الله عنه» في معركة صفين بين علي بن أبي طالب «كرم الله وجهه» ومعاوية بن أبي سفيان «رضي الله عنه»، ارتج على معسكر معاوية وأصابه الذهول.. فقد روي عن النبي «صلى الله عليه وسلم» أنه قال عن عمار: «تقتلك الفئة الباغية».. وعمار من جيش علي، وقد قُتل بيد جند معاوية، وكاد جيش معاوية أن يتشتت، فكانت نصيحة عمرو بن العاص لمعاوية أن يقول لجنده: إن من قَتل عمار بن ياسر هو الفئة التي أتت به، وليس من قام بفعل القتل، وفعل معاوية ذلك، وعاد التماسك إلى الجيش من جديد.. وهذه مجرد حادثة بسيطة قُصد بها الدلالة على اختلاف السياق الذي يبحث فيه عن معنى من خلال نص معين، وإلا فإن الشواهد أكثر وأعمق. المراد قوله - هنا - هو أن الثقافة وعناصرها المكونة، ونصوصها المؤسسة، لا تعني شيئاً بذاتها، ولكنها تأخذ المعنى الذي نعطيها إياه، وفقاً للنسق الاجتماعي والسياسي، والسياق الحدثي الذي نعيش في ظله، بل وحتى وفقاً للمعنى الشخصي المفرد في كثير من الأحيان، وهو ما لايهمنا في هذا المجال، فنحن نتحدث اجتماعياً وليس أدبياً.. مثل هذه المسألة معروفة في سوسيولوجيا المعرفة، ولكن قيمتها لاتصبح كاملة إلا حين يكون الوعي بها شاملاً وعاماً.. نعم قد يسيرنا هذا العنصر أو ذاك من عناصر الثقافة الذاتية بمقولات وأطروحات معينة، بشكل آلي أكثر الأحيان، ولكن حين ندرك حقيقتها وتتضح الصورة، نصبح نحن أسياد الموقف إلى حد بعيد، أو على وعي بحقيقة الموقف في أسوأ الأحوال، وكلا النتيجتين شيء طيب. المشكلة تبرز حين يحاول هذا الفريق أو ذاك، هذا الرأي أو ذاك، هذا التيار أو ذاك، أن يخرج المسألة الثقافية من إطارها التاريخي الحركي، ويعطيها معنى قطعياً أحادياً لا معنى سواه، عن طريق الابتسار والانتقاء لهذا العنصر أو ذاك من عناصر الثقافة، وتنحية ما سواه جانباً، أو عن طريق إعطاء تفسير أو تأويل يسير في الاتجاه المراد، ويفرض الثبات على هذاالتفسير أو التأويل، بصفته المعنى الوحيد والكامل، ملغياً تلك الحركية التي تقف وراء المعنى. فعناصر الثقافة عديدة متعددة بطبعها، واختلاف المعنى باختلاف السياق لذات العنصر مسألة مؤكدة تاريخياً واجتماعياً، وبالتالي فإنه ليس من الصعب على صاحب نظرة معينة أن يجد ما يريد في هذا الكيان المتعدد والثري، وهو الثقافة الذاتية لهذه الجماعة أو تلك، فإذا كان الهدف هو إثبات مبدأ التسامح في حياة الجماعة، كان من الممكن إثبات ذلك بعناصر من الثقافة الذاتية. وإذا كان الغرض هو إثبات رفض الجماعة للآخر، داخلياً كان أم خارجياً، كان من الممكن، والعكس صحيح، فآليات العزل والانتقاء والتنحية ونحوها، وكذلك آليات التفسير والتأويل تعمل في كل الاتجاهات، وحسب الاتجاه المطلوب ويقف في النهاية وراء كل ذلك الغاية المراد تحقيقها من هذه الجماعة أو تلك، سواء كانت غاية خاصة أم عامة. فالثقافة ليست مجرد نصوص وقواعد جامدة منفصلة عن المحيط الطبيعي والاجتماعي، بل هي عبارة عن «إيجاز» تجريدي لتجربة الجماعة، أي جماعة، التاريخية في التعامل مع زخم الحياة ومتغيراتها، أي المحيط الذي تعمل الجماعة في اطاره فما القاعدة، وما المبدأ إلا إيجاز تجريدي لتجربة غنية طويلة، وطالما أن التجارب تحمل الكثير من التنوع والاختلاف، فلابد أن يكون طابع الثقافة هو التنوع والتعدد، ولكن غايات الجماعات، الصغرى والكبرى، هي التي تجعلها أُحادية الاتجاه والمعنى، عن طريق تثبيت ما ليس ثابتاً من المعاني، أو التركيز على تجرية معينة دون بقية التجارب.. فالثقافة بإيجاز هي الحياة ذاتها، والحياة ديدنها الاختلاف والتعدد. ماذا يعني كل ذلك؟ بكل إيجاز، كل ذلك يعني أن ثقافة الجماعة هي ما تريده هذه الجماعة أن يكون وفقاً لمصالحها وما تراه مفيداً من أجل استمرار وجود وحيوية الجماعة محل الاعتبار، طالما أن أساس الثقافة هو تسهيل تعامل الجماعة مع محيطها، وفق قنوات من المبادئ والمعايير الهادفة إلى الحفاظ علىها، وليس تكتيفها بما قد يؤدي إلى نتيجة عكسية في النهاية. فالثقافة وعناصرها لم تتشكل إلا لخدمة الانسان، فرداً كان أو جماعة أو هما معاً، ولم يوجد الإنسان لخدمة الثقافة التي هي من نتاجه أصلاً خلال تاريخه وصراعه مع محيطه.. ومن هنا يبرز السؤال «الوجودي» الكبير: أي اتجاه نريد؟ وبالتالي أي ثقافة نريد؟ الإجابة المناسبة لهذا السؤال هي التي ستحدد في النهاية موقعنا بين الجماعات، وحيويتنا في هذه الحياة، وقبل ذلك كله وجودنا كجماعة.