من أقصى بيحان إلى أدنى بئر علي، ومن مشارف مرخة السفلى إلى ذوئبات عرم حبان تكبر الأفراح بحجم الأعياد الخالدة «الأضحى و30 نوفمبر»،وتتوهج محافظة شبوة في كل حارة ومدينة وصحراء وسهل وجبل بأيام لا تتكرر في العام سوى مرة واحدة. شعائر عظيمة الشتاء يلبس الفضاء، والرمال مسترخية باطمئنان بعد هدنة فصلية قطعتها مع الرياح، فيما البحر ينتفخ أحياناً ويبسط ريشه المزرقة أحياناً أخرى، والعيد صبغ بفرشاته الأشجار والأزهار والسهول والجبال والملامح فبدت أكثر زهاء وحيوية وتجديداً. وتبقى الأسواق مهبط الضجيج الموسيقي، يقول الأخ منصور سالم مكشح الخليفي بهذه المناسبة الغالية: حين يأتي عيد الأضحى أستمد فرحتي من بسمات الأطفال، واقطف سعادت من أفواه الأغاني، ووثبات الرقص، وأموسق أحاسيسي، في عودة المغتربين وازدحام الأسواق، وأسمع الأضاحي في ثغاء الشياه، وحين تجف بعض الأشياء حولي أعود إلى الزمن القريب الذي كانت تنحر فيه الأضاحي من البداية الأولى للعشر من ذي الحجة، ويرافق هذا النحر ترويد التلبية للخالق سبحانه وتعالى،واستشعار عظمة شعائره المقدسة التي ترافق هذه المناسبة، مع العلم أن الأضحية في تلك الأيام الخوالي كانت بالإضافة إلى مشاركة الحجيج تمثل عطفاً وإحساناً للفقراء والمساكين كما كانت تشكل ترابطاً أخوياً بين أفراد الأسرة الواحدة على امتداد قرى متباعدة. جماليات منقرضة ويضيف الأخ منصور سالم في سياق حديثه بعد أن أطلق زفرة طويلة قائلاً: أهم الأشياء التي انقرضت ويحزن عليها القلب حزناً متواصلاً تلك الاحتفالات والأهازيج والزغاريد والأفراح التي كانت ترافق الحجيج إلى نقطة الانطلاقة الأولى في محافظة شبوة، تسبقها السهرات الليلية عند الشخص المسافر إلى الحج، وارتجال الأشعار الدينية والأناشيد، وقد كانت القرية برمتها ترافق الحجيج، ثم يقتعدون الزمان منتظرين قدومهم، وعند عودة الحجاج يكبر الاحتفال،ويتحول الناس إلى أطفال في أفراحهم،وكأنهم ولدوا من جديد، فتذبح الذبائح وتقام الولائم على شرفها، والحجيج بدورهم يقومون بتوزيع الهدايا على الجميع كالمسابح «جمع مسبحة»،والكوافي وغيرها، والأهم من ذلك توزيع ماء زمزم على كل فرد، ويعد هذا الأخير «ماء زمزم» هو من أهم الهدايا،حيث يعتقد الكثير وبالأخص البسطاء أن هذه الشربة العذبة هي التذكرة والطريق الأولى الميسرة لأداء مناسك الحج، والخطوة بشرف الاستقبال والوداع كما هي العادة، وهناك الكثير من قصائد التمني لأداء فريضة محت الذاكرة أغلبها. «تقاليد حسنة» ويختتم منصور الخليفي حديثه بالقول: قرية باسويد التي أعيشها وتعيشني،وأسكنها وتسكنني مازالت متشبثة ببعض التقاليد الحسنة التي ترافق عيد الأضحى المبارك، ومن هذه العادات اتفاق الأسر من قبل العيد بأيام على توزيع جدول الأضاحي، حيث يوزع الجميع على أيام العيد، وفي اليوم الأول يتم نحر أضحية الذي يتم اختياره ويكون غداء الأقارب مجتمعين عنده، واليوم الثاني عند آخر، وهكذا يستمر الحال حتى ينتهي العيد، والحمد لله فإن هذه العادة الجميلة تصنع التراحم والتقارب بين القلوب، وتنمي المحبة الايمانية الصادقة، وتزيل الاحقاد والضغائن بين القلوب، إذ تتحول القرية والقرى المجاورة إلى أسرة واحدة يجمعهم الشعيرة الدينية المقدسة، والقرابة والمحبة في الله، وأنني أتمنى من الخالق سبحانه وتعالى أن يديم علينا العادات والتقاليد الحميدة التي توطد التآخي بين أفراد المجتمع وتنشر ثقافة المحبة الصادقة. طقوس فرائحية تمتد المسافات فتمتد معها العزيمة،ويبقى لكل مديرية من مديريات محافظة شبوة طابعها الفرائحي الخاص، وكذلك لكل منطقة من مناطقها المترامية الأطراف، ويستقر بي المقام في مديرية الصعيد بأزقتها العبقة بأريج مبانيها الطينية، وتراثها المغروس في قلب التاريخ، وشموخها في سقف السماء، وواديها الممتد إلى أعماق التاريخ السحيق،ويقول المبدع المسرحي رمزي الهيج ابن هذه المدينة الرائعة: إننا ننتظر عيد الأضحى المبارك بفارغ الصبر لنمارس فيه طقوسنا الجميلة التي تغسل القلب من همومه العالقة به، حيث يحول مدينة الصعيد إلى سيمفونية ملائكية يزغرد في أفيائها الصغار والكبار، ويعانق فضاءها أولئك الغائبون في بحار الاغتراب، فيكتمل كل شيء خلال هذه الأيام والليالي، المأتلقة بالأغاريد النادرة، والمتمعن في قسمات هذه المدينة الصعيدية الفاتنة ينبهر بالتغير الذي يطرأ عليها خلال الأيام والليالي التي تسبق يوم عرفة،حيث تكتسي الملامح أبهى الحلل، فيتحول المكان إلى زهور وفراشات لايهدأ طيرانها وفوحات عطرها. مصادفة سعيدة ويختتم رمزي الهيج حديثه بالقول: من المصادفات السعيدة أن يلتقي عيد الأضحى وعيد الثلاثين من نوفمبر، حيث تتضاعف الأفراح، وترقص القلوب، وتمتزج المشاعر الفياضة الإلهية بالأحاسيس الوطنية، فيزغرد ألف ألف عصفور بين الضلوع،وتكتسي الأكوان بالحلل المزركشة،وإنني أدعو الله من خلال هذين المناسبتين أن يجنب بلادنا كل مكروه وأن يرحم شهدائنا الأبرار، وأن يجعل يمننا الحبيب دائمة التقدم والازدهار. عيد مكتمل من سوق الوحدة إلى جولة النصب ثغاء وبيع وشراء،وتقفز السرعة إلى مدينة العرم في حبان ليكتمل العيد بازدحام المعزات والشياه، وأجساد هزيلة متمنطقة سلاحها تقود هذه الحيوانات، ووحده الشتاء لايرحم السيقان الهزيلة المكشوفة، يقول أحد البدو الطوال النحال كالبنادق القديمة إن عيد الأضحى لاطعم له بلا صياح حيوانات،ويضيف في سياق حديثه وهو يطارد بقامته الممدودة شياهه: هذا هو الموسم الذي يستطيع من خلاله الرعاة استرداد أتعابهم وشقائهم بالسعر المرتفع لهذه الحيوانات، ويعد هذا الموسم الخصب هو الوحيد الذي يساويهم مع تجار الملابس أو على الأقل يقربهم منهم،ويأكل الضجيج أكثر حروفه، فأمشي الهوينى محدقاً في الملامح البدائية تارة، والجبال الصلداء تارة أخرى، وصراخ الشياه مرة ثالثة. آنستنا ياعيد يسقط الليل جمرة من فحم تتشظى نجومه،ويحط رحالي في مديرية عسيلان، فأعاين من خلال المصابيح المقفرة معالم تصنعها المصابيح وخيالي، ويبقى قصر الشريف حسين الخاوي على عروشه هو وحده المنتظر لعيد يشعل صمته المقبري، ويسافر البصر من خلال الذاكرة إلى وهادٍ تتلألأ فيها المواقد البدوية كالنجوم في السماء.. كان ذلك هو العيد بطريقتهم الخاصة، وبلا شعور والباص يغادر بطريقتهم المكان وجدتني أردد عباس المطاع: