لا نريد هنا أن نضع تعريفاً جامعاً للشعر، ولا توصيفاً شاملاً لأنواع الشعراء، فذلك متعذر، إن لم يكن فوق مستوى الطاقة.. لهذا نقول: الشعر عامة هو استشراف شفاف لعالم جميل خال من الظلم والاضطهاد والفاقة والتجاوز.. فالشعر قد يكون ومضة في الظلام، ظلام الليالي الكالحات أو ظلام النفوس التي صنعت لذواتها اقبيتها الخاصة. الشعر تفان غريب عند الشعراء الحقيقيين، وليس انتهاز فرصة للفوز في سباق مراثون مطامع الحياة، وليس ديباجة فريدة لقصيدة تزين الأخطاء الإنسانية لتحولها طقوساً خاصة وعجيبة.. الشعر في اعتقادي إعادة الإنسانية إلى كينونتها البريئة.. والشعر تحريض إلى اعتناق الفضيلة مبدأ، والقيم الكريمة منهجاً يشع صفاءً ونبلاً.. وتحريض رائع للإنسانية حتى تظل مناصرة للحق بكل صوره الرائعة، فما لم يكن الشعر مشعل إضاءة في عالم سادر في الجهالة والغي، فإنه وسيلة تعبير عن شعور عارض.. سيظل الشعر حاملاً لمعان باهته عديمة الجدوى إن لم يرتق مراتب الكمال، لأنه كان في ماضيه وحاضره، وربما الآتي حالة اعتناق لأسمى أهداف الإنسانية، وأروع احلامها على السواء في عالم متخيل مفترض، أو عالم واقعي مأمول.. فما لم يكن الشعر هكذا محفزاً للعقل منوراً للعاطفة والوعي، مؤججاً للمشاعر السوية في كل الإنسانية، مجدداً لعاطفتها الخاملة، موقظاً لضمائرها الغافيه، إن لم يكن هكذا يصبح مجرد اهتبال فرصة سانحة للإمساك بحفنة زائلة وكمية من أوساخ الواقع البشري المرير تزيد صاحبها بدنياه إتساخاً، ولا ترفع منزلته، فمثلما كان الشعر قصيدة مديح وهجاء، وأفراح متلالئه، فقد كان أيضاً قصائد فروسية وشهامة وبكائيات تهدهد أحزان الأرواح المكلومة.. فحيث يكون حاجة إنسانية ماسة.. تكون النفوس وقتذاك قد أجدبت من مثلها.. وحيث يلام الشعراء المعذبون، الذين حملوا إنسانيتهم، وهموم سواهم، يتواجد أيضاً الشعراء الذين لا يتورعون من وصف القبح جمالاً، والصدق كذباً والفساد البشري اعتياداً، والانحراف استقامة ونهجاً صحيحاً، وحيث يخطئ الشاعر والمثقف، يصيب شاعر ومثقف يحاول أن يصنع عالماً يقدس المحبة كي يخرج من واقع التباغض البشري ما أمكنه إلى ذلك سبيلاً. يحاول شاعر أن يرسم واحة من الكلمات، ليعلم الإنسانية مبدأ رائعاً من مبادئ حب الجمال سواء في الطبيعة أم في مسلكيات الإنسان، كيفية الحب، كيفية التفاهم النفسي والتوافق العاطفي، كيفية التخاطب والتعرف على أنبل الأخلاق وأرفعها، وكيفية الحياة الإنسانية الصحيحة، حيث لا يجوع الإنسان، وعلى حساب جوعه يشبع آخرون لدرجة مفرطة، حيث لا يلهث المرضى وراء ثمن دواء لا يستطيعون شراءه حيث لا يصبح العوز مطية البعض للفوز بمكاسب في الغابة الإنسانية وبحيث لا تصير الحاجة مدعاة للمذلة، فهناك يكون للشعر وظيفة أدبية اجتماعية تهذب السلوك البشري في إخراجه من مطية الانحراف إلى جادة الصواب، يصبح الشعر هناك ضرورة توعوية للعقل والوجدان الإنساني، في زمن الماديات وتصارع الأهواء وتناقض الرغبات.. والشعر مهمته أدبية قبل أن يكون دفتر تعليمات اجتماعية تنظم شؤون الحياة.. الشعر موقظ للهمم الإنسانية، وملهم أخلاقياً لها إلى دورب الحق والحب والحرية والعدالة والجمال والفضيلة، وملامسة شفافة لوجدانيات الإنسانية المعذبة، وملامسة لمشاعرها مرة ولكنها ملامسة غنائية واعية، وإلى ذلك فالشعر بايجاز رحلة شاقة ورائعة داخل أعماق الإنسانية، فقد تصنع القصيدة املاً في النفوس اليائسة، وقد تصنع القصيدة فرحة في القلوب المحزونة، وقد توجد القصيدة واقعاً جميلاً حالماً متخيلاً قد يتحول لواقع مأمول يعاش عبر الفكرة الشعرية، أو عبر الواقع، بصورته الحقيقية، وقد تشق القصيدة طريقها صوب الحلم صوب الرؤيا صوب الفرح والسعادة والجمال الذي لا يوصف. أن الشعر ليس أجمله أكذبه، وإنما أصدقه وأروعه وأبدعه