درجت العواصم العربية على هذا التقليد الثقافي والأدبي منذ ظهور تقليد ثقافي له عنوانه العريض هو “عاصمة للثقافة” ومنذ بدء هذا التقليد والثقافة العربية تتنقل بين عاصمة عربية وأخرى مقدمة تنويعات عديدة من أنشطتها الثقافية.. وهذا التقليد بحد ذاته يمثل من الناحية الشكلية - التي يراها البعض بهرجة لا أكثر- وجهاً حضارياًَ تعريفياً بفنون وآداب وأشعار العرب وله أهمية في خدمة الإنسان العربي ورفع مستوى وعيه الثقافي والحضاري.. لكن الأمر المهم الذي يتوجب عدم إغفاله هو: مضمون هذه الفعاليات، أي ما تقدمه من غذاءٍ فكري على المستويين العربي والإنساني، فهذا هو جوهر القضية، ومن خلاله تقاس نجاحات تلك الفعاليات من إخفاقاتها. فالظاهر للعيان أن هذه المهرجانات أو هذه الفعاليات يراها المثقف والأديب والشاعر والفنان العربي مجرد ظاهرة احتفائية احتفالية لا تمس صميم قضايا المواطن العربي، ولا تشكل محوراً ثقافياً حوارياً يساعد في حل قضايا الواقع بكل تداخلاتها وتفرعاتها وتنويعاتها. هذا من جانب سياسي اقتصادي اجتماعي، أما من جانب ثقافي أدبي إبداعي فهو لا يقارب بين واقع الأمة العربية وطموحاتها فهذا هو المسار الغائب في مجمل الأنشطة الثقافية للعواصم العربية، التي تطرح في كل موسم وعام حسب ترتيبها الأبجدي عاصمة للثقافة العربية، ولربما كانت بعض تلك الفعاليات مشابهة لبعضها أو مكررة لما قدمته بعضها، أو مغايره نسبياً لما قدم في عواصم سابقة. لكن هذا ليس الضروري، لأن الضروري موضوعياً هو تطور نسق الثقافة التي يراد تعميمها في الواقع العربي الذي لايزال يجتر ثقافة القرون الأولى واعتقادات منحرفة، ومحاولات جديدة تستنهض الوعي للانفلات من أغلال الفقر والجوع والمرض والجهل والظلم والتخلف، وهذه المحاولات الثقافية الجديدة هي أيضاًَ مازالت ممسكه بخاصية التقليد، ولو بشكله ومضامينه الجديدة. فهي إما متأثرة بالتحولات الحضارية الجديدة، وتحاول تتبع خطاها ثقافة وفكراً وعلماً وإنجازاً، أو أنها تراهن على تجاوز ثقافة الماضي المتخلف بأدوات غير واقعية ولا مقنعة موضوعياً. أي أنها لم تحدد خيارها بنفسها خصوصاً عندما تطرح خيار الآخر المتطور خيارها وتنسى أو تتغافل عند تباينات واضحة تحكم الواقعين “العالمي المتطور.. والمحلي العربي المتخلف”. إن مسألة التأثر الحضاري يعد ظاهرة ثقافية صحية لأي أمة من الأمم الساعية إلى تجاوز تحدياتها الحضارية وتحقيق تطلعاتها المنشودة.. لكن هذا التأثير إذا قاد الوعي والفكر والثقافة إلى التماهي بحضارة الآخرين تماهياً يؤدي إلى تلاشي الذات بذوات أخرى فإنه يتحول لحالة مرضية تصاب بها الثقافة المتلقية الاستهلاكية الميالة إلى “تبعية ما” لتثبت حضورها الإنساني والحضاري، ولكن بأدوات غير مجدية في فعلها الحضاري. وإذا كانت كل ثقافة إنسانية تريد إثبات استقلاليتها وتميزها، فالأحرى بالثقافة العربية أن تكون رائدة في هذا المساق أو المسار.. أي أنها يجب أن تشق طريقها صوب التطور والتجديد والتنوع والتعدد في أفق من الحرية والوعي والإسهام الفعال في تغيير واقعها إلى الأفضل. إننا إذا قارنا بين ثقافتنا العربية قديمها وجديدها، والثقافة الأوروبية أو اللاتينية أو الأمريكية أو الصينية واليابانية أو الروسية، فسنجد ثقافتنا مازالت تدور في دوائرها المغلقة. نفس القضايا المطروحة منذ أبن رشد والفارابي والحلاج وابن عربي، ومحمد عبده ورشيد رضا ولطفي السيد وطه حسين والعقاد وأدونيس والجابري وقسطنطين زريق، ولازلنا عند اعتاب شعر الجاهلية للنابغة وطرفة والخنساء ثم شعر الإسلام لحسان وكعب والمتنبي والشريف الرضي والجواهري والسياب ودرويش وأحمد شوقي وجبران وحافظ إبراهيم والشابي والبردوني والزبيري والمقالح. أي لازالت موضوعاتنا “هي هي” لم تتغير لم تتجدد ولم تتطور ولو أن الذين أشرنا إليهم يستحقون دراسة أعمالهم وبحثها والإشادة بأجودها في كل حين، لكن يجب أن لا نغفل أن هناك الدور الفاعل للثقافة.. أعني بذلك الدور الفاعل على المستوى الحضاري أي نقل الأمة من تخلفها إلى حالة موازية للآخر تقدماً وتطوراً ونماءً. إما إذا ما بقينا في هذا الحال فستصبح فعاليات “عاصمة للثقافة العربية” تقليداً موسمياً يحمل شكلاً كبيراً جداً بمضمون ضئيل الجدوى. كانت صنعاء عاصمة وبعدها دمشق والسودان والقدس وحالياً الدوحة عاصمة للثقافة العربية، فهل تستطيع الدوحة أن تكون أكثر تميزاً من شقيقاتها العربيات فتأتي بمالم يستطعه الأوائل؟؟ نتمنى لها ذلك.