صدور ثلاثة كتب جديدة للكاتب اليمني حميد عقبي عن دار دان للنشر والتوزيع بالقاهرة    عيد العمال العالمي في اليمن.. 10 سنوات من المعاناة بين البطالة وهدر الكرامة    العرادة والعليمي يلتقيان قيادة التكتل الوطني ويؤكدان على توحيد الصف لمواجهة الإرهاب الحوثي    حكومة صنعاء تمنع تدريس اللغة الانجليزية من الاول في المدارس الاهلية    فاضل وراجح يناقشان فعاليات أسبوع المرور العربي 2025    انخفاض أسعار الذهب إلى 3315.84 دولار للأوقية    الهجرة الدولية: أكثر من 52 ألف شخص لقوا حتفهم أثناء محاولتهم الفرار من بلدان تعج بالأزمات منذ 2014    وزير الصناعة يؤكد على عضوية اليمن الكاملة في مركز الاعتماد الخليجي    "خساسة بن مبارك".. حارب أكاديمي عدني وأستاذ قانون دولي    حرب الهيمنة الإقتصادية على الممرات المائية..    رئيس الوزراء يوجه باتخاذ حلول اسعافية لمعالجة انقطاع الكهرباء وتخفيف معاناة المواطنين    عرض سعودي في الصورة.. أسباب انهيار صفقة تدريب أنشيلوتي لمنتخب البرازيل    هل سمعتم بالجامعة الاسلامية في تل أبيب؟    عبدالله العليمي عضو مجلس القيادة يستقبل سفراء الاتحاد الأوروبي لدى بلادنا    وكالة: باكستان تستنفر قواتها البرية والبحرية تحسبا لتصعيد هندي    لأول مرة منذ مارس.. بريطانيا والولايات المتحدة تنفذان غارات مشتركة على اليمن    هدوء حذر في جرمانا السورية بعد التوصل لاتفاق بين الاهالي والسلطة    الوزير الزعوري يهنئ العمال بمناسبة عيدهم العالمي الأول من مايو    عن الصور والناس    حروب الحوثيين كضرورة للبقاء في مجتمع يرفضهم    أزمة الكهرباء تتفاقم في محافظات الجنوب ووعود الحكومة تبخرت    الأهلي السعودي يقصي مواطنه الهلال من الآسيوية.. ويعبر للنهائي الحلم    إغماءات وضيق تنفُّس بين الجماهير بعد مواجهة "الأهلي والهلال"    النصر السعودي و كاواساكي الياباني في نصف نهائي دوري أبطال آسيا    اعتقال موظفين بشركة النفط بصنعاء وناشطون يحذرون من اغلاق ملف البنزين المغشوش    الوجه الحقيقي للسلطة: ضعف الخدمات تجويع ممنهج وصمت مريب    درع الوطن اليمنية: معسكرات تجارية أم مؤسسة عسكرية    رسالة إلى قيادة الانتقالي: الى متى ونحن نكركر جمل؟!    غريم الشعب اليمني    مثلما انتهت الوحدة: انتهت الشراكة بالخيانة    جازم العريقي .. قدوة ومثال    دعوتا السامعي والديلمي للمصالحة والحوار صرخة اولى في مسار السلام    العقيق اليماني ارث ثقافي يتحدى الزمن    إب.. مليشيا الحوثي تتلاعب بمخصصات مشروع ممول من الاتحاد الأوروبي    مليشيا الحوثي تواصل احتجاز سفن وبحارة في ميناء رأس عيسى والحكومة تدين    معسرون خارج اهتمامات الزكاة    الاحتلال يواصل استهداف خيام النازحين وأوضاع خطيرة داخل مستشفيات غزة    نهاية حقبته مع الريال.. تقارير تكشف عن اتفاق بين أنشيلوتي والاتحاد البرازيلي    الدكتوراه للباحث همدان محسن من جامعة "سوامي" الهندية    الصحة العالمية:تسجيل27,517 إصابة و260 وفاة بالحصبة في اليمن خلال العام الماضي    اتحاد كرة القدم يعين النفيعي مدربا لمنتخب الشباب والسنيني للأولمبي    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    النقابة تدين مقتل المخرج مصعب الحطامي وتجدد مطالبتها بالتحقيق في جرائم قتل الصحفيين    برشلونة يتوج بكأس ملك إسبانيا بعد فوز ماراثوني على ريال مدريد    الأزمة القيادية.. عندما يصبح الماضي عائقاً أمام المستقبل    أطباء بلا حدود تعلق خدماتها في مستشفى بعمران بعد تعرض طاقمها لتهديدات حوثية    غضب عارم بعد خروج الأهلي المصري من بطولة أفريقيا    علامات مبكرة لفقدان السمع: لا تتجاهلها!    حضرموت اليوم قالت كلمتها لمن في عينيه قذى    القلة الصامدة و الكثرة الغثاء !    عصابات حوثية تمتهن المتاجرة بالآثار تعتدي على موقع أثري في إب    حضرموت والناقة.! "قصيدة "    حضرموت شجرة عملاقة مازالت تنتج ثمارها الطيبة    الأوقاف تحذر المنشآت المعتمدة في اليمن من عمليات التفويج غير المرخصة    ازدحام خانق في منفذ الوديعة وتعطيل السفر يومي 20 و21 أبريل    يا أئمة المساجد.. لا تبيعوا منابركم!    دور الشباب في صناعة التغيير وبناء المجتمعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شمال وجنوب
أنا والحياة سيرة ذاتية
نشر في الجمهورية يوم 08 - 03 - 2010

(إلى الأجيال المعاصرة والأجيال القادمة أهدي هذه السيرة الذاتية التي تعتبر ليست وقائع لحياة كاتبها فحسب، ولكن فيها وقائع من حياة شعبنا اليمني وصدى لبعض ما كان يجري من حولنا في أقطارنا العربية الشقيقة.
فإلى هؤلاء أقدِّم سيرتي الذاتية لعلهم يجدون فيها ما يفيدهم في حياتهم القادمة التي لاشك أنها ستكون أحسن من حياتنا الماضية)
كانت عدن حين وصولي إليها من حضرموت عام 1954م مليئة بأبناء المحافظات الشمالية يعملون في القطاعات المختلفة ميناء عدن والمتاجر والمخابز والمطاعم والشركات الكبرى وشركات مقاولات البناء وغير ذلك..
وفي كل ركن من أحياء مدينة عدن وكل زاوية تجدهم ينصبون سررهم ليناموا عليها ولربما افترشوا أرض الرصيف ليقضوا ليلهم وأضلعهم الهزيلة تكتوي بنيران حرارة الأرض التي من تحتهم وبالخصوص أيام الصيف، وكانت كل الطرق والقرى الواقعة على الأطراف كالشريجة والراهدة وقعطبة مفتوحة للجميع ذهاباً وإياباً ولكل أبناء اليمن ماعدا الأجانب طبعاً، ولكن بما أن الجذب حينها كان إلى المناطق الجنوبية وخاصة عدن فقد كان يفد إليها الكثير من أبناء المحافظات الشمالية إما خوفاً من بطش الإمام أو سعياً لطلب العمل ولم يفكر يومها أحد من المناطق الجنوبية بالاتجاه إلى المناطق الشمالية إلا فيما ندر كما أن عدن كانت حينها ملاذاً للأحرار الهاربين من بطش الإمامة الجائر.. هكذا كانت الأمور تمضي في تلك الأيام، لكن بعد ثورة السادس والعشرين من سبتمبر عام 1962م تغير كل شيء فقد تدفق مع قيام الثورة العديد من أبناء الجنوب إلى الشمال لنصرة الثورة عندما تكالبت عليها فلول الرجعية والإمامة وعندما استقرت الأحوال وبدأت التجارة تنتعش هناك أخذ أبناء الجنوب يتطلعون إلى زيارة المناطق الشمالية إما للعمل أو للسياحة أو للتعرف على بعض المدن والمحافظات، وهكذا أخذت أتطلع كغيري إلى زيارة صنعاء وتعز والحديدة ولكنني كنت في كل مرة أجابه بالرفض من قبل سلطات الثورة في الجنوب حيث لايسمح إلا لأبناء المحافظات الشمالية فقط، وقد تكرر طلبي عدة مرات، كنت أبكر من الفجر لأقبع مع المئات من المواطنين في حوش وزارة الداخلية بمدينة الشعب لنظل مرابطين في الشمس حتى الثانية ظهراً لنعود خالي الوفاض ثم انتقلنا بعد ذلك لنعسكر أمام معهد البيحاني بكريتر عندما انتقلت وزارة الداخلية إليه، وفي كل المحاولات الست التي تقدمت فيها بالسفر إلى الشمال كنت أقابل بالرفض، المرة التي فلت فيها من قبضتهم كانت هي زيارتي إلى بومباي بالهند عام 1979م لمرافقة أحد أقربائي المريض فعند عودتي منها اغتنمت فرصة وجودي حراً خارج المناطق الجنوبية وقمت بزيارة صنعاء والحديدة وإب وتعز، وعلى الرغم من قصر زيارتي لكل من صنعاء وتعز وإب ماعدا الحديدة التي مكثت فيها أسبوعين إلا أنني حققت رغبتي في زيارة تلك المناطق التي كنا محرومين من الوصول إليها وأذكر أنني حين وصلت من الهند إلى مطار صنعاء لقيت بعض المصاعب فبينما خرج من المطار كل ركاب الطائرة الذين وصلوا معي من الهند وجميعهم من الهنود فقد كنت الوحيد من أبناء الجنوب الذي حط رحاله في صنعاء لهذا فقد احتجزت من قبل مسئولي الأمن بالمطار.. فقد كانت الأحوال الأمنية حينها متدهورة بين الشمال والجنوب وكان وصولي على إثر المصادمات العسكرية التي جرت بين الشطرين على الحدود وهكذا انعكست المثل القائل “يعملوها الصغار ويقعوا فيها الكبار” ليصبح “يعملوها الكبار ويقعوا فيها الصغار” وهكذا وجدت نفسي كبش فداء لتلك المماحكات المفتعلة بين الشطرين ولم ينته حجزي إلا بعد أن استدعيت أحد الإخوة من الشمال وهو صديقي الذي كان يعمل معي بمتجر “رويال” بعدن وكان حينها موجوداً في صنعاء ليضمن علي وبعد أن كتبت لهم موجزاً لسيرتي وتعهدت بحسن السلوك أفرجوا عني وساعتها تحركت إلى الحديدة وأجلت زيارتي لصنعاء إلى حين العودة إلى عدن فكنت قد وصلت يومها وأنا متعب من تلك الرحلة التي قمت بها إلى بومباي بعد وفاة الشخص الذي ذهبت مرافقاً له لعلاجه، وبعد مكوثي عدة أيام بالحديدة استعدت فيها صحتي قمت بزيارة تعز بمعية صديقي ذاك بسيارة صاحب متجر رويال الذي كان حينها قد انتقل بمكتبه التجاري إلى الحديدة بعد استقلال الجنوب وإنشاء القطاع العام بالدولة ليحل محل القطاع الخاص في الاستيراد..
هكذا وفي عصر ذات يوم اتجهنا إلى تعز وكان وصولنا في المساء فلم نلحق لأن نتجول طويلاً بالمدينة إلا لمدة ساعة واحدة، ولهذا فقد تناولنا العشاء وأوينا إلى أحد الفنادق وكان يقع على ربوة تشرف على مدينة تعز وأذكر أن البرد في تلك الليلة كان شديداً وأن ماء الحمامات كان يوضع في كوز من الفخار ولهذا وجدت صعوبة بالغة باستعماله فقد كنا في شهر ديسمبر عام 1979م، في الصباح بدأ الجو يدفأ لكن ما أدفأنا حقيقة هو ذلك الإفطار الدسم.. ثم انطلقنا بعد ذلك إلى إب وفي طريقنا مررنا بوادي يقال له وادي “الجنات” وقد قيل لنا إن الأسرى والمساجين في أيام الإمام عندما يمرون بجانبه وهم في طريقهم إلى صنعاء يفلتون من بين الجنود ويختفون بذلك الوادي وكنا حين وصولنا إليه قد سمعنا هدير شلال من الماء كان يتدفق إليه من أعلى ولهذا توقفنا لمشاهدة ذلك المنظر البديع الذي لم نألفه عندنا في عدن ثم انطلقنا بعد استراحة قصيرة واتجهنا إلى مدينة إب وعند مرورنا لفت نظري تجمع الجماهير حول ميدان كرة القدم كانت تقام فيه مباراة بين فريقين وهو حدث غريب أن أشاهد مباراة تقام في الصباح على غير ماكنت أعرفه من أن المباريات تقام في العصر، قضينا الظهيرة عند أحد زبائن صاحب العمل الذي كان زبوناً لمكتبنا بعدن قبل الاستقلال ثم تحول بعد الاستقلال إلى إب وقبيل المغرب عدنا إلى الحديدة لنصل إليها في وقت متأخر من الليل وقد لاحظت ونحن نمر بين متاجر الأقمشة تلك الضجة التي تحدثها مولدات الكهرباء التي لايخلو أي متجر منها فالكهرباء كانت ضعيفة في ذلك العهد بل تكاد تكون متوقفة أكثر ساعات اليوم.
كانت هذه أولى زياراتي لما كنا نسميه بالشمال الحبيب ولكن بعد سنوات من تلك الزيارة وعندما بدأت التجارة تنتعش هناك، هذا الانتعاش أغرى الكثير من مواطني المناطق الجنوبية بزيارة المناطق الشمالية وقد تقدمت من جديد إلى وزارة الداخلية بعدة طلبات وجلست أياماً أتردد مع المئات من المواطنين على حوش وزارة الداخلية الذي أمام معهد البيحاني بكريتر وكنت في كل مرة ألاقي كلمة ممنوع على طرف كل رسالة أتقدم بها حتى أربت تلك الرسائل على ست رسائل.. المرة الثانية التي أفلت من هذه الممنوعات هي زيارتي إلى تعز وذلك عام 1985م عندما أوفدتنا قيادة فرع اتحاد الأدباء بعدن ولم أكن حتى ذلك التاريخ عضواً فيه ونزلنا ضيوفاً على فرع الاتحاد بتعز وكان في تلك الفترة قد بدأ التقارب السياسي بين الشطرين وكان يرأس فرع الاتحاد بعدن أيامها المرحوم إسماعيل الشيباني وكنت حينها قد قمت بإعادة طبع مجموعتي الثانية “ثورة البركان” بدار الهمداني وبدأ اسمي ينتشر في الأوساط الأدبية، هذه الزيارة كانت تضم إلى جانبي صديقي الأديب الكبير المرحوم حسين سالم باصديق والصديق القاص الأستاذ علي صالح عبدالله وعند وصولنا في حوالي الثانية عشرة ظهراً إلى الشريجة كان باستقبالنا فيها بعض الإخوة من فرع اتحاد تعز وقد أخذ رجال الأمن كل مانحمله من رسائل وأوراق ومجموعات قصصية كنا أخذناها معنا لإهدائها إلى بعض أعضاء الفرع ومع أن بعض أعضاء فرع تعز تدخلوا وحاولوا أن يقنعوهم بأننا وفد رسمي إلا أن جهودهم لم تفلح إلا في ان يعيدوا لنا بعض الأوراق التي كتبت عليها بعض القصص التي سنلقيها في زيارتنا تلك، وكان الفندق الذي نزلنا فيه هو نفس الفندق الذي قضينا فيه أنا وزميلي ليلة في زيارتي الأولى عام 79م وهو فندق “الإخوة” ولكن بعد أن تم تشييده من جديد على تلك الربوة التي تشرف على مدينة تعز بكاملها بعد أن توسع بنيانها وقد وقف أمام ذلك الفندق من الناحية المقابلة جبل صبر الأشم بجلاله وسحره.. في ليلة وصولنا حضرنا المقيل الذي أعد لنا بمقر فرع اتحاد تعز الذي يقع في منزل الشهيد رائد القصة اليمنية محمد عبدالولي وهناك تعرفنا على رئيس الفرع القاضي محمد عقيل الإرياني الذي ظل طوال إقامتنا بالفندق يزورنا كل صباح ويتفقد أحوالنا وابتسامة ودودة تملأ وجهه المتألق بالألفة والحب.
كما التقينا بالشاعر الكبير القاضي أحمد محمد المجاهد الذي توطدت صلتي به وأصبح من أعز أصدقائي بتعز، كذلك التقينا بالشاعر الشعبي والمناضل محمد الفتيح الذي كان ملح تلك الجلسة بتعليقاته الساخرة والمرة على الوضع حينذاك ثم التقينا ببقية الشباب النشيط والمتفتح للحياة وتحضرني الآن بعض الأسماء منهم: عزالدين سعيد وعبدالإله سلام وسلطان وغيرهم، وفي عصر اليوم الثاني قدمنا أمسية قصصية أقيمت بنادي الضباط وكانت تلك هي أول مرة ألقي فيها إحدى قصصي فلم أكن من قبل في عدن أدعى لمثل تلك الأمسيات ولم يدرج اسمي في أية أمسية تقام سواء أكانت بالفرع بعدن أم بأي من فروع باقي المحافظات ولهذا فقد كنت عند لقائي بالجماهير المحتشدة بتلك القاعة مرتبكاً إضافة إلى أنني كنت يومها مريضاً بالزكام وذلك على إثر الجو البارد الذي صدمني بتعز وكان بجانبي صديقي المرحوم حسين باصديق يشجعني ويدعوني إلى الثبات أمام ذلك الجمهور إلا أن جودة القصة التي استحوذت على أسماع الحاضرين وشدتهم إلي أنساني ارتباكي فانطلقت في قراءتي للقصة حتى ضجت القاعة بالتصفيق الحار مما حدا بالصديق محمد الفتيح إلى أن يتقدم إلي ليحتضني وليقول لي “لقد رقصت القاعة يا باوزير”.
في صباح اليوم الثالث لوصولنا تعز قمنا بزيارة إلى قصر الإمام أحمد وقد أصبح متحفاً بعد قيام ثورة 26 سبتمبر يضم آثاره ومخلفاته، دخلنا بوابة القصر لنمر عبر منعطفات عدة، قيل لنا إن الإمام هو الذي خططها عند بناء القصر وذلك إثر اختراع عجيب تفتق عنه ذهنه إذ كان يضع في كل منعطف بذلك الطريق مرآة تقابلها في المنعطف الذي يليه مرآة أخرى فتنقل صورة الداخل إلى القصر من مرآة لأخرى حتى تصل في نهاية المطاف إلى مجلس الإمام وذلك مخافة أن يؤخذ على حين غرة ويدخل القصر من يريد اغتياله فهو لايثق حتى بحرسه الخاص “رادار” يمني صنعه ذلك الرجل الداهية.
وعند اقترابنا من غرف القصر خرج إلينا الصديق محمد الفتيح هاشاً لاستقبالنا ليقوم بتعريفنا على محتويات ذلك المتحف وكان حينها موظفاً بذلك المتحف، دخلنا أولاً غرفة صغيرة مليئة بالنواظير المقربة بأحجام مختلفة وعندما سألنا عن سبب وجود كل تلك النواظير بتلك الغرفة شرح لنا الفتيح بأن هذه الغرفة تشرف على الساحة التي يتجمع بها حرسه “العكفة” ولهذا فهو يظل طول نهاره يراقب هؤلاء الحرس من خلال هذه النواظير المقربة التي توفر له مشاهدة كل حركات هؤلاء الحرس فإذا أشرفت الشمس على المغيب وتعذرت عليه المراقبة قام باستدعاء جملة من الحرس ممن جرت بينهم مشاجرات أو للاستفسار عن الوجوه الجديدة التي لم يرها من قبل بين الحرس وهكذا يفاجئهم بكل الأعمال التي صدرت منهم طول يومهم فيندهشوا ويؤمنوا بأن الإمام أحمد يعلم الغيب فيخروا ساجدين له ويلتمسوا منه أن يغفر لهم مابدر منهم، ثم انتقلنا إلى غرفة مجاورة كانت تتوسطها شاشة سينما وأمامها جهاز “سينما” في هذه الغرفة وعندما ينتصف الليل يدخل الإمام ويقول لمن حوله من الحرس بأنه سوف يحضر الجان وعندما يقفل عليه الباب يقوم بتشغيل جهاز “السينما” وغالباً ماتكون أفلاماً غربية وعندما يسمع الحرس تلك اللغة غير المفهومة لديهم ويسمعون أصوات صهيل الخيول يتأكدون من أن الإمام يحضر الجان فيرتعدوا من الخوف، ثم دخلنا غرفة أخرى كانت مليئة بالأدوات الطبية قيل لنا إنها الغرفة الخاصة بمعالجة الإمام وكانت بها تجهيزات مستشفى كامل وهي خاصة لمعالجة الإمام فقط ويشرف عليها طبيب إيطالي هذا بينما الشعب المليء بالأمراض لايوجد من يعالجه!!
كما رأينا بتلك الغرفة السرير “الهزاز” الخاص بالإمام الذي ينام عليه وعليه بعض قطع القماش الأبيض الملطخ بالدماء كانت تغطي جراحه بعد إصابته بالرصاص الذي أطلق عليه بمستشفى الحديدة والذي اودى بحياته بعد ذلك.
كما رأينا في غرفة أخرى آلة صك النقود التي كان يشرف عليها بنفسه وفي جانب آخر شاهدنا عدداً من الخناجر والسيوف التي أهديت له من بعض ملوك ورؤساء الدول العربية والتي نهبت أكثرها واستبدل بالجزء الآخر منها خناجر وسيوف عادية وكل ما استخلصناه من زيارة ذلك المتحف هو مايتمتع به الإمام من مكر ودهاء أمام شعب بسيط معظمه جاهل حرم عليه التعليم والمعرفة وأقفل عليه أسوار مدنه وذهنه حتى لايعرف شيئاً مما يدور خارج مملكته.
في عصر ذلك اليوم عدنا مرة أخرى إلى تلك القاعة لتقدم لنا الباحثة رؤوفة حسن محاضرة قيمة عن التنمية في اليمن أعقبتها نقاشات مستفيضة من قبل الحاضرين شارك فيها زميلنا علي صالح عبدالله.
وفي صباح اليوم الرابع وقد كان يوم جمعة كنا ضيوفاً فيها على الصديق أحمد محمد المجاهد الذي أخذنا بسيارته لزيارة إب، كان الجو يومها لطيفاً والسماء غائمة وكانت المناظر الجميلة تتواتر أمامنا لتعرض لنا سحر مدرجات إب ومرتفعاتها الخضراء البديعة وعندما وصلنا مدينة إب انطلقنا نجوس خلال الديار المرصوفة طرقاتها بالأحجار وقد رأينا كيف كان الأوائل يبنون منازلهم على المرتفعات ويخصصون بقية الأراضي للزراعة فقد كانوا حريصين على كل شبر من الأرض الصالحة للزراعة وليس كما نراه اليوم من تجريف لمساحات كبيرة من الأراضي الزراعية والبناء عليها!!
وعند اقتراب موعد صلاة الجمعة انطلقنا إلى مدينة “جبلة” لأداء الصلاة بمسجد السيدة أروى بنت أحمد وقد أدهشتنا مدينة جبلة الشامخة إلى السماء بمبانيها الفريدة المشيدة على جبل عال وبعد الصلاة عدنا إلى تعز لتناول وجبة الغداء عند الصديق أحمد المجاهد أعقبه مقيل قات تخللته مناقشات عن القصة والأدب عموماً، في يوم السبت مسك الختام وهو آخر أيام الزيارة زرنا إدارة صحيفة “الجمهورية” وقد كان باستقبالنا الأستاذ محمد عبدالرحمن المجاهد..
وفي المساء كان لنا لقاء مع الصحفي والقاص عز الدين سعيد أحمد وكان حينها مندوب الصحيفة حيث قدم لنا بعض الأسئلة عن القصة وعن الثقافة بصورة عامة وقد نشر ذلك اللقاء بصحيفة الجمهورية، والعجيب في الأمر أننا عند عودتنا إلى الحنوب وفي نقطة كرش أخذوا منا الكتب التي أهديت لنا في تعز ولم يسمحوا لنا إلا بكتاب تاريخي واحد!.
إلا أن الزيارة الثالثة وهي التي لازالت ماثلة في ذاكرتي حتى اليوم وأكثرها تعقيداً هي الزيارة التي قمت بها بعد تقارب الشطرين بالبطاقة الشخصية عند صدور القانون الخاص بتنقل المواطنين بين الشطرين بالبطاقة الشخصية وكانت حينها صنعاء تستعد للاحتفال بعيد الثورة وكنت الرجل الوحيد بالباص أما البقية فكانوا من النساء وحين وصولنا نقطة “يسلح” إذا بالجنود يهجمون على الباص وجعلوا يفتشوننا ويفتشون كل أمتعتنا ثم أخذوا بطائقنا وسلموها إلى المسؤول الأمني وأخذنا ننتظر إعادتها لنا كما هي العادة لكن وقتاً طويلاً مضى ولن تصلنا البطائق ستبقى لديهم وعلينا أن نستلمها غداً من مكتب الأمن بدار البشائر، أنا نفسي لم أعر قولهم أي اهتمام واعتبرت ذلك إجراء عادياً لكن النساء اللاتي كن معي أخذن يصرخن مطالبات بإعادة بطائقهن، ولم يسكتن إلا بعد أن أعيدت لهن البطائق، البطاقة الوحيدة التي بقيت لديهم هي بطاقتي وقد
أخبرني أحد المسؤولين أن المسألة بسيطة وأن علي أن أذهب غداً لاستلامها، وفي صباح اليوم الثاني ذهبت إلى “دار البشائر” فإذا على أبواب هذه “البشائر” جنود مدججون بالسلاح وعلى رؤوسهم خوذات فولاذية وكأنهم في حرب ضروس، دخلت من باب صغير بعد أن أحنيت رأسي لأمر عبر تلك الفتحة متحاشياً أن أصيب رأسي بعتبته العليا الواطئة لأدخل حوشاً صغيراً جلس به عشرات من المواطنين اليمنيين، وهم محشورون بداخله وقد لفهم الصمت فجلست بجانب آخر شخص منهم والتفت إليه أسأله:
متى أخذوا بطاقتك؟
قال في همس:
منذ أسبوع.
صعقت لدى سماعي ذلك وأدركت هول المصيبة فلقد كان مقرراً لي أن أغادر صنعاء إلى الحديدة في اليوم الثاني لأقضي بها يومين ثم أعود إلى عدن.. قمت واندفعت لأقف أمام طفل كان يجلس على مقعد أمام باب مقفول وطلبت مقابلة المسؤول فقال لي إنه غير موجود ولعله لا يعرف إلا هذه الكلمة يظل يرددها طول يومه فانصرفت خارجاً من ذلك الثقب الذي دخلت منه متحاشياً أن أحتك بخوذة ذلك الجندي القصير وعتبة الباب ثم قصدت أحد الأصدقاء وكنت أعرف أن له صلة ببعض رجال الأمن وشرحت له الأمر فقال لي إنه لا يستطيع أن يعمل لي شيئاً لأنه على غير وفاق معهم.. وما علي إلا أن أحاول مرة أخرى وأقتحم الباب إلى الداخل، فعدت وأنا في غاية الغضب وفتحت باب المكتب متجاهلاً ذلك الطفل الجالس أمامه ودخلت لأجد نفسي في غرفة صغيرة جداً لا تتعدى مساحتها مترين وقد أخذني العجب من ذلك القصر الذي كان كل شيء فيه صغيراً جداً وكأنني أعيش رواية “أليس في بلاد العجائب” وكان بالغرفة مكتب صغير جلس أمامه رجل أعور وقد وضع على عينه العوراء قطعة سوداء من الجلد رحب بي وأجلسني أمامه فجلست متحفزاً والشرر يتطاير من عيني.. لكن الرجل طمأنني عندما ذكرت له اسمي. وقال”إن بطاقتك في الحفظ والصون ولكن قبل تسليمها لك نريد منك بعض المعلومات فادخل إلى الداخل لتقابل المسؤول، واجتزت باباً صغيراً آخر لأدخل في غرفة في حجم الغرفة الأولى فإذا بي أمام رجل يرتدي بدلة إفرنجية وبيده مسبحة قصير القامة أبيض البشرة وفي عينيه زرقة باهتة.. وكانت ملامحه ودودة رحب بي وطلب لي شراب ليمون بعد أن رأى علامات الغضب والجهد على ملامحي وكأنه على دراية تامة بالمجهود الذي يلقاه كل من يقع بين يديه فطمأنتني هيئته الودودة تلك فتشجعت واندفعت قائلاً:
“ ما هذا الذي نلقاه منك يا أخ فلقد كنا نحلم لنزور بلدنا الشمال الحبيب وعندما نصل إليه نرى كل هذه الإجراءات التعسفية منكم؟”.
قال وهو يسلمني كوباً من عصير الليمون:
” معذرة يا أخ فهذه إجراءات السلطة لضبط الأمن فنحن على أبواب الاحتفال بعيد الثورة وستصل إلينا بعض الوفود من الدول العربية وليمكننا ضبط الأمن لذلك.. أما بالنسبة لك أنت فقد تقصينا عنك فوجدناك ذهباً صافياً وهاهي بطاقتك أمامي وكل ما نطلبه منك هو بعض المعلومات.. وعندما لم يجد ما يريده مني ولمس صدق حديثي سلمني بطاقتي وهو يقول لي:
“ إذا احتجت لأي خدمة فأنا تحت أمرك فإذا لاقيت أية صعوبة فاطلبني فوراً.
ثم ذكر لي المكان الذي يتواجد فيه.
وعند عودتي إلى عدن وفور وصولي المطار احتجزوا بطاقتي الشخصية ليقول لي المسؤول الأمني إن علي أن أعود غداً لاستلامها من المطار القديم ولم يسلموا لي البطاقة إلا بعد أن عرفوا جهلي بأمور كانوا يريدون معرفتها.
وبعد ذلك بعدة أشهر تمت الوحدة وأزيح كابوس التشطير إلى الأبد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.