يمثل الرمز أحد أهم تحديات الحداثة في شعر عبد الله البردوني، لاسيما في دواوينه الأخيرة: “ترجمة رملية لأعراس الغبار”، “كائنات الشوق الآخر”، “رواغ المصابيح”، “جوَّاب العصور”، و”رجعة الحكيم ابن زايد”. وعلى الرغم من أنَّ الرمز قد مثل خاصية حداثية في نصوص البردوني، إلاَّ أنه في المقابل قد كان إحدى معضلات قراءة هذه النصوص؛ إذ وقف القارىء حائراً، مشوش الرؤية، حيال فك رموز الخطاب واستنطاق دلالته. تفترض قراءة الرمز ألاَّ تحوِّل منهجها إلى نظام يشبه العرافة والتنجيم، وألا يتحول القارىء إلى مجرد (كاهن) جلُّ عمله تفسير نية الكاتب، ومقصدية الخطاب الأدبي المرمز؛ فبالتركيز على دلالة الرمز تُحلُّ ضمناً، بمجرد المساس بكيفية صياغته الفنية في الخطاب القار فيه. يقع نص “رجعة الحكيم ابن زايد” ضمن ديوان البردوني الأخير الذي حمل التسمية نفسها. وهو نص رمزي قناعي، جعل البردوني من حكيم اليمن الشهير: علي بن زايد قناعاً له، ضامَّاً صوته إليه، متوارياً فيه، انطلاقاً من قاعدة التقنع: “لا أكون حتى تكون أنت أنا”؛ إذ يختفي صوت الشاعر، ويظهر صوت قناعه، مستثمراً بنية الخطاب في إنضاج دلالة معاصرة؛ وهكذا يتحول الرمز القناعي إلى رؤية فنية. القصيدة الكلاسيكية: حضور الرمز، وصراع الكتابة تستعصي صياغة الرمز على القصيدة الكلاسيكية، إذ تصعب عملية تطويعه وتحويله إلى رؤية شعرية؛ وذلك لأمرين: الأول: كون الرمز عالقاً بمفهومه (القَبْلي) المتخم بحمولة ضخمة من المؤثرات: اللغوية، الدينية، التاريخية، والأسطورية. الثاني: محدودية رقعة الخطاب الشعري الكلاسيكي، اللغوية والصوتية والبصرية، وخضوع هذه الرقعة المحدودة لقوانين صارمة، أهمها قانون “العَروض” الخليلي. هكذا يمكن تصور وعورة الكتابة الشعرية المرمزة عند عبد الله البردوني، وإجهاد مهارته كمبدع يمارس إكراهات على اللغة والجنس الأدبي، دافعاً بالقصيدة إلى أن تكون كائناً هجيناً من خطابات أجناسية أخرى، كالملحمة، والسرد والدراما. التحوّل الفني للرمز في نص “رجعة الحكيم بن زايد” ثمة نمطان لتحول الرمز في نص “رجعة الحكيم”: النمط الأول: التحول الفني: يقصد بالتحول الفني: عملية صياغة الرمز، وتحويل واقعه فنياً إلى رؤية نصية خاضعة لاشتراطات الجنس الأدبي للنص المرمز. في نص “رجعية الحكيم بن زايد” يمارس البردوني أشكالاً خطابية متعددة لإخضاع الرمز وتحويله، كالتفكيك والإعادة في هذه الأبيات: أنا “علي” وأبي “زايد” خفِّضْ لنا الأعلى، خذ الأزيدا أولاد من؟ سلنا بأسمائنا لو كنت يوماً جامعاً مفردا هل حلّت السبع هنا، أو هنا؟ سل “وردةً” عنهن، أو سل “هدى” يظهر التفكيك لاسم الرمز في البيت الأول بحذف “بن”، والفصل بين الاسمين: “علي” الابن، و”زايد” الأب، ثم إعادة البناء بصيغة تعريفية لهما: أنا “علي” وأبي “زايد”، ليتحول الرمز فنياً من دلالته على حكيم اليمن (علي بن زايد) إلى دلالة العلو الحضاري، والزيادة؛ أي: الإفاضة على حدود الشيء، التي تعني “الترف الحضاري”، بهدف التنديد بتعطيل إرادة الحاضر. من خلال الاتكاء على أمجاد الماضي؛ لهذا يقول في الشطر الأخير من البيت: خفض لنا الأعلى خذ الأزيدا. أما البيت الثالث، فإنه يشير إلى تفكيك الرمز، وإعادة بنائه من خلال موروث الرمز (الحِكْمي): “أينما حلت السبع حليت”، بقول البردوني: هل حلت السبع هنا، أو هنا؟... النمط الثاني: التحول الدلالي: والتحول الدلالي للرمز في نص “رجعة الحكيم ابن زايد” يتحقق من خلال مظهرين، هما: - معارضة الرمز، بنفي عالمه التاريخي والأسطوري؛ كهذا البيت الذي ينفي موت “ابن زايد”، ويبشر برجعته، بقوله: طلعت مما كان قبري الذي كان قبوراً نوَّماً سُهّدا ف”رجعة” الموتى، ممثلين بالحكيم، هو نفي لليقين بموته في ذاكرة القارئ. - مسايرة الرمز: وتحدث عندما يتبنى الخطاب المرمز واقع الرمز، ويتحول النص إلى رؤية فنية محاذية، أو محتذية، كما في هذه الأبيات من نص “رجعية الحكيم ابن زايد”: يا منكثيات، ابنتي “بدرة” عادت وسموا عودها أحمدا قلتنّ عنها مرغت لحيتي “وما عدا إذ ذاك مما بدا” أما تأكدتنّ من ذبحها من ذا نفى هذا؟ ومن أكدا؟ إن الموقف التصالحي مع الرمز في الأبيات السابقة سببه أن واقع فتاة هذا العصر لايزال يستنسخ واقع “بدرة” في الماضي، ويتلبسه كما هو؛ فإلى الآن ولاتزال الفتاة هي الضحية التي تتوجه التقاليد الاجتماعية لإدانتها وحدها. البنى التناصية في نص”رجعة الحكيم ابن زايد”: يصاغ الرمز في نص “رجعة الحكيم ابن زايد” ضمن البنى الآتية: بنية الموجهات النصية والموجهات النصية: مجموعة من العناصر تساهم في الإعانة على قراءة النص وتفسيره ونتناول من هذه الموجهات في نص “رجعة الحكيم ابن زايد” ما يأتي: عتبة العنوان: عنوان النص يشير إلى الرمز، أو إلى جزء منه، بقوله “الحكيم بن زايد”، وهو اختصار لاسم الرمز: علي بن زايد، يعمم شخصية الحكيم(الرمز) على أي إنسان في عصرنا. العنوان أول بنية تستضيف الرمز في النص، وهي بنية ذات سياق خبري، وذات دلالة إبلاغية (إنبائية). وإذا ما تناصَّ العنوان (رجعة الحكيم) مع ما يعنونه، نجد أن الدلالة الإنبائية للعنوان، المبشرة (المخبرة) ب”رجعة ابن زايد”، تتساير مع سيرورة ال”رجعة”، التي تديرها خارطة الخطاب الشعري للنص (رجعة الحكيم بن زايد) بدءاً بوقائع موغلة في تاريخ اليمن، أو تاريخ الرمز، وانتهاءً بأحدث وقائع التاريخ اليمني الحديث: الوحدة اليمنية. بنية الرمز الكلي(القناع): يتحقق التقنع في نص ال”رجعة” بالاندغام الصوتي بين البردوني و”ابن زايد”، أو ما يسمى -كما أشير سابقاً- بالتقمص لشخصية القناع وإنطاقها. لقد أنطق البردوني “الحكيم ابن زايد” بسياقات خطابية متعددة، أهمها: 1. الحوار: وينقسم إلى: - خارجي: وهو ذو طابع جدالي، مناظراتي، محاجج، يجسد النزعة الفلسفية (الحكمية) للرمز، كهذا الحوار الذي يجريه البردوني مع نساء “منكث” على لسان القناع: صرتن بعدي مالكاً ثانياً وترفض التزويج إن قيدا من عددت منكنّ أزواجها؟ قل عدوت زوجات من عددا كم كان في دار أبي “بدرة”؟. جاوزتُ من ثنى ومن وحدا - داخلي: وهو ذو نزعة اغترابية، يعبر عن ذات الشاعر المقصية عن زمنها. “عباصر” اليوم عليها الدجى صبح كحيل لا يرى من هدى أحجارها اليوم قصورٌ على “صنعا” توشي كبر من شيدا ما أنكرتني قيل عاد الذي كان يبيع القاز والإثمدا 2. السؤال: السؤال خصوصاً، والإنشاء عموماً، بنية مهيمنة على النص (الرجعة)، إذ يستحوذ سياق السؤال على ما يقارب أربعين بيتاً في النص. بالسؤال يناقش البردوني مع “الحكيم بن زايد” واقع هذا الأخير: أمنكث هذا أرى دوره ولا أشم الزرع والحصدا أو يتصفحان معاً وقائع التاريخ، حاملين همَّاً تصحيحياً يبلسم نقاط الفشل: هل سوَّد البيحاني القردعي مكراً؟ متى ساد الذي سودا؟ هل قلت لما لجنوا أحسنوا؟ قلت: غراب يلتقي بالحدا أين أنا؟ نصفي انطوى في الذي هنَّا، ونصفي في الذي زغردا 3. الشرط: يتكرر سياق الشرط، بالأداة “لو” خصوصاً، ليجسِّد التساير مع النزعة الفلسفية (المنطقية) لنص “رجعة الحكيم ابن زايد”، كون الشرط خاصية تعبيرية عن قضايا المنطق، وفي ذلك دليل على الطابع الجدالي للغة (الحكيم ابن زايد- القناع) الممتدة في النص: لو كنت في “ردفان” أعلنتها أزرى براميه كما سددا لو كنت في “السبعين” سألت عن ماهية الجدوى ومرمى الجدا وتكرار الشرط ب”لو” تحديداً يشير إلى فكر اعتزالي حر، مشتعل بوسواس السؤال، مولعٌ بالمحظور في الفكر الاستسلامي (القدري(. ثانياً: بنية الزمن: تتجلى بنية الزمن بحركة رمز الحكيم بن زايد. ويسير الزمن باطراد مع هذه الحركة. ينقسم الزمن في النص إلى: - حقيقي: يتمثل بوقائع التاريخ وشخصياته، ويتجه باطراد معها من الماضي إلى الحاضر: ذكرت عن عادٍ، أفضْ، قيل لي في النحو أضنوا “ماخلا” “ماعدا” وقوله: عن وحدة الشطرين ماذا؟ وهل أفقت من سكرين كي أشهدا؟ - فني (نصي): يتجلى في السياق الحدثي للخطاب الشعري في النص. وهو نادرٌ في النص، يقتصر على حادث رجعة الحكيم. أقتادُ جناً من حليب السهى يبيّضون “العنسي الأسودا” أهفو إلى من لست أدري وهل أجيب صوتاً، أو أنادي الصدى؟ أختار نهجاً ما مشت خوذةٌ عليه، لا والٍ إليه اغتدى يلاحظ أن الموقف من الزمن هنا هو نفسه الذي سبق توضيحه، وهو موقف ينأى عن التصفح العابر، ويؤكد أهمية تصحيح التاريخ، ومداواة الحاضر في ضوئه؛ فما “تبييض” الأسود العنسي بتغيير لون بشرته، بل بترميم ندوب الماضي، من خلال فعالٍ حسان محمودة في الحاضر “تُبيِّض الوجوه”! ثالثاً: بنية الرمز الجزئي: يتجلى الرمز الجزئي في بنى متعددة لا حصر لها في نص “رجعية الحكيم ابن زايد”. ومن أهم هذه البنى: 1. بنية المكان: يفوح النص (الرجعة) بأمكنة واقعية، وأسطورية وتاريخية. ويمكن عرض المكان بالمظهرين الآتيين: - شخصنة المكان: من خلال استنطاقه وتقويله، في لوزام تعبيرية ذات دلائل قولية، جاعلاً المكان حكيماً فيلسوفاً: قالت “جعارٌ”: كم ظروف دجت وما استبناك بها المرشدا - أسطرة المكان: يتم إنتاج المكان الأسطوري بإلباسه وصوفاً لا وجود لها في الواقع. ومن ذلك المكان الفني: هل جاد “حيكان” الربيع انه مخرب كان اسمه المفسدا “حيكان” واد في الجهاز اسمه هذا وخطوا تحته ملحدا 2. بنية الشخوص: وهي بنية كاظة في النص، من شخوص: التاريخ، والأسطورة، والدين، وأسماء الأعلام، وأسماء المدن... إلخ. أخيراً: هل كان نص “رجعية الحكيم ابن زايد” إيذاناً بميلاد عصر نقي يحكمهُ الفلاسفة والحكماء؟ وهل تصلح الفلسفة النقية ما أفسده الساسة والطائشون والطغاة؟