الحمد لله الذي منَّ علينا وبلغنا شهر رمضان المبارك، لأن الكثير من الناس عاشوا شهر رمضان السابق لكنه عاد وما عادوا لأنهم ذهبوا إلى المحطة التي لا رجعة منها ولا عمل فيها وفي الحقيقة يحق لمن حقق الله له أمله وبلغه شهر الخير والرحمة والبركة أن ترتاح نفسه ويبتهج قلبه فرحاً بهذا الشهر الكريم شهر تتضاعف فيه الأجور للعاملين ليوم البعث والنشور وينبغي لكل عاقل أن يشمر بجد واجتهاد ويستغل مواسم النفحات لشحن روحه بما يعينها حتى تصل إلى جنة القربات. فكثير من أصحاب العقول النيرة عرفوا أن الحياة رغم ما فيها من الأكدار والآلام والهموم إلا أنها نقطة انطلاق نحو الآخرة ففي هذه الدنيا يتسنى للمرء أن يحدد الوجهة التي إليها يكون مصيره المحتوم وما على المرء إلا أن يستخدم كل الإمكانات التي وهبه الله إياها ويحرص عليها وعلى سلامتها وعلى إمدادها بما يرقى بها نحو الغاية والهدف المنشود فمثلاً نعمة العقل الذي ميزنا الله به لو تفكرت فيه قليلاً لوجدت أن الله خلقه بصورة معقدة لا يعلم مداها إلا الله فجعله الله في أعلى مكان في الجسم وأحاطه بعظام قوية تحميه كما جعله وسط ثلاثة أغشية تحتضنه وتحميه كما جعل له مضخة تضخ له الدم وما فيه من غذاء وأكسجين كل تلك العناية والاهتمام تقود الإنسان العاقل إلى أن الله سبحانه وتعالى ما كرم هذا العقل إلا لأنه القائد الموصل إلى معرفة الله جل في علاه وبهذا العقل يسمو الإنسان إلى مرتبة عالية من الخشية لله والحب والإجلال وكما نعلم أن الله سبحانه وتعالى خلق الجسم وجعل له غذاءه الخاص به حتى يبقى حياً صامداً ضد الأسقام والتغيرات. كذلك العقل جعل الله له مادة حياة تنيره وتبقيه حياً مستنير القراءة والتعلم وكما أن الجسم يضعف إذا قل غذاءه كذلك العقل يصاب بالضعف والوهن إذا أهمله صاحبه. فكثير من الناس تجده مهتماً بتعويض جسمه بما يحتاجه في هذا الشهر الكريم من طعام وشراب. لكنه قليل الحرص على تغذية هذا العقل التغذية السليمة والمرتبة والنافعة فها هي أيام الشهر المبارك قد أطللت وبدأت الأجسام تجوع وتحتاج للغذاء الذي هو أساس قوتها وأساس نشاطها. كذلك العقول يجب أن لا تنسى في خضم انشغالات الحياة لأنها أيضاً تجوع وتحتاج لمادة حياتها ومصدر تنويرها. لأن الكثير يقضون ليالي رمضان بالسهر والسمر وكثرة القيل والقال دون فائدة حتى يداهمهم وقت السحور ثم تراهم وقد استسلموا للنوم في أغلب ساعات النهار وكأنهم إنما غيروا نمط حياتهم فقلبوا الليل نهاراً والنهار ليلاً للنوم والراحة والكسل. أخي القارئ الكريم ليكن لك في هذا الشهر الكريم محطات صادقة تقف فيها مع نفسك بصدق. فامسك الذي مر هل أنت راض عما ادخرت فيه من أعمال الخير لوقت الحاجة. ويومك الذي أنت فيه هل تراه أحسن من أمسك الذي مر ورحل عنك ويوم غد القادم هل تراك واصل إليه ومتفرغٌ له. ولتعلم أخي الحبيب أن الله سبحانه وتعالى قد جعل لنا محطاتٍ ثلاث في شهر رمضان لكي نستغلها حق الاستغلال. فأوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار فتزود من محطة الرحمة إلى محطة المغفرة وليكن لك من محطتي الرحمة والمغفرة ما يؤهلك للفوز الحقيقي في محطة العتق من النار لأن الذي يزحزح عن النار ويدخل الجنة فذلك السعيد الذي فاز فوزاً عظيماً، وليكن شهر رمضان بداية الانطلاقة الصادقة نحو التميز والسمو والرقي إلى الغاية المنشودة وهي تقوى الله وحبه وخشيته والقرب منه سبحانه وتعالى وتلك هي أسمى الغايات فليحاول كل واحد منا أن يبذر بذرة السعادة في قلوب الخلق لكي يجني ثمارها من الخالق وكثيرة هي بذور الخير في هذا الشهر الكريم كتفريج الكرب عن مكروب أو مسح الدمع من عين يتيم أو مساعدة المساكين والفقراء أو... ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق. وليبادر الجميع إلى إشعال الشموع بدلاً من لعن الظلام وذرف الدموع، فمن عاش لنفسه وهمه عاش وحيداً كئيباً ومن عاش للناس وكان مهتماً بأمر المسلمين عاش أمة يذوق الطعم الحقيقي للسعادة ومن عاش بلا هدف عاش كئيباً تائهاً تتخبطه السُبل وتتجاذبه الظنون في بحر الظلمات.