بين تأكيد أندريه بروتون بأن الشعر هو من سيُعيدنا إلى «ينابيع الكرامة الإنسانية»، واعتبار المتنبّي الشعرَ من «مكارم الأخلاق» (يا مَن تُعيِّرني بأني شاعرٌ عيَّرتني بمكارمِ الأخلاقِ) مساحةٌ كافية لطرح السؤال عن قيمة الشعر. بين «الكرامة» و«المكرمة»، في المعنى الأصفى للكلمتَين، نتساءل إذا كانت قيمة الشعر تتغيّر بين زمن وآخر. أو بالأحرى: هل قيمة الشعر في ذاته أم في زمنه؟ هل اختلاف دوره بين عصر وآخر يُغيِّر من قيمته، بل هل يمكن أصلاً أن يكون للشعر دور فعلي غير دوره التخييلي الأزلي؟ بريشت رأى في الشعر سلاحاً يمكن استخدامه لمواجهة النازية، وفرويد استعمله كقرينة نفسيّة. أبو تمّام والبحتري نظرا إليه كقيمة فنّية بحتة، وأبو نواس استعمله كأداة نقدية. بشار بن برد جعله تحدّياً للنص المقدَّس (سورة الحشر)، والمعرّي تحدّياً لصاحب النص المقدَّس. امرؤ القيس رضعه كثدي، والأعشى شربه ككأس. أبو فراس استعمله كنافذة في السجن (الروميات)، وسان جون بيرس كمفتاح. أدونيس صيّره وعاء للمعرفة، وشوقي أبي شقرا ملعباً للغة. محمود درويش استعمله كآلة موسيقية، ومحمد الماغوط كمشرط. بول شاوول رآه كحقل تجارب، ووديع سعادة كحقل أفيون. سعيد عقل كفيزياء، أنسي الحاج ككيمياء. أمجد ناصر كبداوة أنطولوجية، وشوقي عبد الأمير كرقعة شطرنج. عباس بيضون كبيولوجيا، وعبد القادر الجنابي كنظرية. الحلاّج كطريق للجسد، وابن عربي كطريق للروح. طاغور كابن للريف، وبودلير كابن للمدينة. إليوت كمرثية، والخنساء كنَدب. سركون بولص كانعكاس ثقافي، والسيّاب كانعكاس حسّي. نازك الملائكة كمزالق فنّية، وخزعل الماجدي كمزالق ميثولوجية. سعدي يوسف كأناة، وسميح القاسم كتهوُّر. سليم بركات كفتوّة، وألفرد دي موسيه كوهن. صلاح جاهين كحكمة، وطلال حيدر كلمسة. أحمد فؤاد نجم كمظاهرة، وأمل دنقل كمعركة. صلاح عبد الصبور كسهرة هادئة، ومظفّر النوّاب كاجتماع غاضب. منذر مصري كلقطة، وصدقي إسماعيل كنكتة. شوقي بزيع كأغنية، ومحمد علي شمس الدين كنشيد. الجواهري كماضٍ، ولوتريامون كمستقبل. أحمد عبد المعطي حجازي كتعويذة، وتوفيق صايغ كحجاب. عقيل علي وجان دمو كتسكُّع، وبلند الحيدري كمنفى. أحمد شوقي كجزالة، والأخطل الصغير كعذوبة. محمود حسن إسماعيل كريشة، وأمين نخلة كمحبرة. فهد العسكر كملجأ للهرب، وعرار كسطح للنوم. بدوي الجبل كموقف إنساني، والقروي كموقف قومي. محمد عمران كرحلة، وفايز خضّور كجَولة. جوزيف نجيم كسرير، ونزيه أبو عفش كمحراب. الياس أبو شبكة كتفّاحة، وعلي محمود طه كفم. عروة بن الورد والشنفرى كسخط، ولبيد كمصالحة. نزار قبّاني كسرير، ودعد حداد كقبر. إدغار آلان بو كقوس قزح، ورامبو كقوس نصر... ونستطيع الاستطراد أكثر لإظهار أن النظرة المختلفة إلى الشعر والفهم المختلف للشعر و«الاستعمال» المختلف للشعر، كلّ ذلك لم يُغيِّر شيئاً من ماهيّته وملمسه، حين يكون شعراً حقيقياً، سواء كُتبَ في الكهف أو في قاعة مُكيَّفة. فلقد ظلّ الشعر في جوهره واحداً، وما اختلف فيه أنه لمع في حقب أكثر من أخرى. ولكن ماذا عن جمهور الشعر؟ هل يصحّ الكلام السابق عليه؟ هل فعلاً هو خارج جوهر الشعر؟ هل هو مجرّد لمعان؟ اليوم يرى البعض (الشعراء تحديداً) أن بقاء الشعر بلا جمهور يصقل جوهر الشعر. يجعل هذا الجوهر أكثر صفاءً. لكن هذا الرأي كان يمكن أخذه بنيّة حسنة لو لم يصدر عن شعراء لا جمهور لهم. وفي الحقيقة لا أرى أن الشعر بفقدان الجمهور يصبح أكثر أصالة، أو يغدو من معدن أنفس، والسبب أن وجود جمهور حقيقي أمر ضروري لتجربة الشاعر. ناهيك بأن كبار الشعراء - وحتى اليوم - هم من الشعراء الذين لم يَعدموا جمهوراً ينصت إليهم ويشتري دواوينهم ويحضر أمسياتهم. وليس أبشع من ذلك السبب الواهي الذي يُقدِّمه البعض لتبرير شعبية محمد الماغوط، وهو شاعر قصيدة النثر، قائلين بأن السبب يكمن في «سهولة» هذا الشعر! طيّب. ولكنْ شعر فؤاد رفقة سهل أيضاً. والواقع أن «خبث» مثل تلك الادعاءات نستطيع معاينته من خلال ملاحظة شبه متكرّرة، أسجِّلها على الشكل الآتي: لا يستخدم أصحاب تلك النظريات كلمة «قارئ» - في معرض الغمز - بل كلمة «جمهور»! في محاولة لتسطيح تجربة الشاعر الجماهيري - المقروء، وللقول إن نزار قباني أقرب إلى عبد الحليم حافظ من عمر بن أبي ربيعة، وإن محمود درويش أقرب إلى الملعب البلدي من طاولة الكتابة. الذين يذمّون نجاح شاعر يقولون عنه: «جماهيري»، ولا يقولون: «مقروء»! لكن لماذا يُقال «جمهور» ولا يُقال «قرّاء» حين يكون الكلامُ على تجارب مهمَّة؟ هذا السؤال يفضح مقصد مَن يريد المماهاة - عن نيّة سيئة - بين جمهور الشعر والجماهير الأخرى: جمهور السياسة وجمهور خطبة الجمعة وجمهور هيفاء وهبي... لكن هل يمكن حقاً تشبيه جمهور الشعر برعاع تلك الجماهير التي طالما هجاها الشعراء منذ الأزل (مثلما نافقها بعض الشعراء أيضاً)؟ اليوم، مشكلة الشعر أنه لا يملك بنية تحتيّة (دور نشر، توزيع حقيقي، إعلام منحاز إليه، نقّاد حيويّون...). الزمن تغيّر، وباتت مثل هذه الأدوات من بديهيات نجاح أيّ نوع أدبي ورواجه. فالرواية لم تصل إلى ما وصلت إليه لولا هذه البنية التحتية الضخمة والتي يُضاف إليها العديد من الجوائز الخاصّة بفن الرواية. إذاً، إنشاء مثل هذه البنية التحتيّة هو الكفيل بإعطاء الفرصة للشعر للانتشار مجدَّداً، وهو الكفيل بتكذيب تلك المقولة السطحية عن أن الزمن «زمن الرواية». لا أشك في أن الشعر بلا قارئ (لا أريد استخدام كلمة «جمهور») يخسر كثيراً. جوهر الشعر ثابت لا يتغيّر. صحيح. ولكنه بلا قارئ سيعلوه الغبار. سيكون لؤلؤة بغير بريق. نعم، الجمهور من تلك اللمعات التي تحدَّثتُ عنها قبل قليل، ولكنْ اللمعات «البنيوية»، أو بالأصح علينا القول: اللمعات الجوهرية. ثم من يجرؤ على القول إن الجوهر لا يجب أن يلمع؟