ما توقفت قصيدة النثر عن إرباك القراء و الناقدين معا ً، منذ ظهورها «رسميا في القرن التاسع عشر في فرنسا مع شارل بودلير ، حين نشر Paris Spleen سنة 1869، كقصيدة نثر ، و التي قال فيها M.Riffaterre : “ نوع أدبي يحمل إردافا ً خُلفيا ً كإسم» . و مع ذلك فإن بودلير نفسه شاء أن يقدّم التعريف الأول لهذا النوع “ كأعجوبة النثر الشعري ، موسيقي ّ ، و مع ذلك دون وزن ، ومن دون قافية . مِطواع ، إلا أنه صارم ٌ و عاصف ٌ إلى حد يتماثل فيه مع نبضات الروح العاطفية ، مع اليقظة الحالمة في مدّها و جزرها ، و مع وخزات الضمير “ .و يبدو أن بودلير بعد هذا التعريف الرومانسي المبهم ، قد فتح الباب لنزعة أدبية سيعزّها و يدللها شعراء في الشرق و الغرب ، كنوع مثالي به يملأون رغبتهم القوية في تعقيدات تركيبية و تأنقات أسلوبية ، حتى أن أية محاولة تعريف واحد كلي ٍّ لهذا النوع ستنتهي بالفشل . أما تعريفRiffaterre فيحمل إشكالية الشعر و النثر منذ أن ظهر الشعر و النثر . فيتضارب مفهوماهما المعجميان التقليديان في أسئلةٍ أقلّها : كيف يكون النثر شعرا ً ؟ و العكس : كيف يكون الشعر نثرا ً ؟ والأصح : كيف نستخرج من النثر شعرا ً ؟ .هذا إذا سلّمنا أننا نملك معايير النثر والشعر و مفاهيمهما المحددة . وإذا سلّمنا أننا نمسك بناصية الأدب الذي لا يزال غامضا ً، حتى أن أحداً اليوم ، لم يعد يكلّف نفسه مشقة البحث عن تعريفات جديدة له . يقول ميخائيل نعيمة : “ اللغة في القاموس مومياء . أما على ألسنة الناس و شفاههم فكيان حي يزخر بأمواج الأفكار و الخيالات ، و يلتهب بكل أصناف الميول و الإحساسات “ فلا عجب إذا ً ، إذا قرأنا عن النحو في قصيدة هي ألفية ابن مالك الشهيرة . و لا عجب إذا عرف القارىء أن طبيباً لبنانياً كتب أطروحته في الأمراض الجلدية شعرا ً، و باللغة التشيكية ، وزنا ً و قافية ً . الشعر و النثر صنعتان كلاميتان تتقاطعان وتتمازجان ، تنزلقان باستمرار، الواحدة نحو الأخرى , كمن عاقبهما على قشرة موز. و حتى لا نغالي في استحالة التعريف ، فإننا نستطيع القول أن قصيدة النثر تبدو للوهلة الأولى مركّباً يستطيع إن يحتوي بعض أو كل ميزات الغنائية . عدا أنه مكتوب نثراً – بالرغم من أنه لا يُعد ّ كذلك – على مساحة الصفحة . هذا المركّب يختلف عن النثر الشعري بقصره و تضامّه . و عن النثر الحر بانعدام الوقفات ( الانقطاعات ) في السطر الواحد ( باعتباره بديلا ً عن البيت أو الجملة ) ، و عن المقطع النثري القصير بما فيه من ايقاعات واضحة ، و تأثيرات صوتية ومجاز و تخيّلات و كثافة في التعبير . و قد يحمل أحيانا ً قوافي داخلية و تعاقب إيقاعات ٍ ( أوزان ) سريعة . و يمتد طوله عامة ، من نصف صفحة (مقطع أو مقطعين) ، إلى صفحتين أو ثلاث. هذه الميزات تنطبق على القصيدة النثرية الغربية كما تنطبق على القصيدة النثرية العربية ، والتي سمّاها بعض الدارسين ب «شعر الحداثة» ، أو « الشعر المعاصر» . و هما تسميتان طغيا إبّان وبعد الإخفاقات و الانكسارات و النكسات العربية الكبرى سياسيا ً و اجتماعيا ً في أواخر الخمسينيات والستينيات . فولدت قصيدة النثر العربية من رحِمَي ِ السياسة و المجتمع المهترئين العقيمين آنذاك ، ثائرة ، رافضة ، فاضحة ، هاجمة ، مدمّرة ، محطمة الشكل اللغوي و المضمون التراثي . تغذّيها الثقافة الغربية ولا سيما الفرنسية كما عند أنسي الحاج وبول شاوول . وبرزت رؤيوية سريالية . و أحيانا ً كثيرة ً، هلوسية ، هذرية ، فوضوية عابثة ، لا تهدف إلى شيء ، سوى ربما ، إلى جمالية الغريب و المألوف و اللامنطق . إلا أن قصيدة النثر العربية اليوم ، وبعد تجربة دامت أكثر من أربعين سنة ، تبدو أكثر نضجا ً والتصاقا ً بالحياة ، تبدو أكثر شفافية ً و هدوءاً . تغلب عليها المعاناة الغنائية من دون أن تتخلى عن نبرتها الثورية المبطنة بالألم ، حيث تتداخل فيها التأثيرات الحضارية و الثقافية . لقد باتت ملاذا ً لطالبي المساحات الحرة ، حيث لا قوانين و لا معايير تعبيرية مُلتزمة و مُلزمة . هي ملاذ يوافق الحس العربي من حيث : 1 - أيدولوجية الفوضى : فوضى في السياسة والمجتمع والاقتصاد . و حتى في الفنون ، و أهمها فوضى الغناء و انحطاطه ، فحدّث ولا حرج . يقابلها فوضى القصيدة : التراكم و الغموض والإغراب . و فوضى الشكل : كتابة أفقية ثم عمودية ، ثم انحدارية مائلة ، متقطّعة : هل يذكر النهر ؟ كانوا يسمونه وردة الميتين و يمشون خلف المياه إلى آخر العمر ها هو يمضي بطيئا ً إنها – أي القصيدة – شِعر ٌ أشعث ، كالشعر الأشعث : مغبرّة ، متغيرة ، متلبدة و منتشرة . 2 - الضغط : و منه الاقتصادي و الديني و الذكوري . يقابله كبت ٌ كلامي و انقطاع فجائي أحيانا ً، وضغط في المعاني و عدم اكتمال الصورة . 3 - الرفض : الداخلي غير المُعلن و مخالفة الواقع . فالقصيدة رفضية ، غاضبة ، مغلّفة بالانزياح نحو الممنوع و المُحرّم بلغة اللبس و الإبهام تارة ً ، و بالجرأة و الوقاحة و العُجمة و السوقية طورا ً Vulgarism حتى في قصائد النساء الشاعرات اللواتي سفرن عن وجوههن و لغتهن ّ في آن ٍ معاً. 4 - حال العُدم ( الفقدان) و العَدَم (ضد الوجود) ، لحلّ معضلة الإنسان العربي . أنتجت قصيدة العبثية و اللامنطق و الهلوسة . متخذة ً من الدفق الخيالي والرؤيوي ركيزة الإبداع . كل هذا و أكثر ساهم و رفد قصيدة النثر . و عندنا ، أن البحث عن مبررات و عوامل خارجية لتعريف هذا النوع الأدبي ، لا يكفي و لا يمكن تعميمه . فإن بعض كتّاب قصيدة النثر ، ممن خلقوا لأنفسهم عالما ً خارج عالم السياسة و الاقتصاد و الدين ، قدّموا إبداعات ٍ يمكن تصنيفها في باب الفن للفن ، و عارهم النزعة الجمالية . و على هذا ، فإن أفضل مقاربة علمية عملية لقصيدة النثر ، هي تلك المبنية على تعاليم الألسنية ، بحيث يتفكك هذا المركّب إلى عناصره اللغوية الأساسية : من الأصوات (الإيقاعات) ، إلى الحقول المعجمية ، إلى الوظائف الكلامية ، إلى الأنماط النصية ... و في رأينا أن هذا النوع Genre تمكن دراسته من خلال المقارنة بين الأنواع الكلامية الأخرى : النثر والشعر و النثر الشعري و الشعر الحر . لأن قصيدة النثر توصّلت إلى التعبير عن روح الشعر متخطية ً القواعد الشكلية المتعارف عليها للنظم التقليدي . و يُنظر ُ من حيث التخصص - في : كتابة المقطع والكلام المنقطع ( غير المُنهى ) ، و استقلالية النص الذاتية . كما يُبحث ُ في التماسك ووحدة المقطع ، و الكثافة و الفعل الشعري القوي . و الهندسة المشغولة : البناء – التطوّر – التوازي – الأصداء وتأثير الانغلاق . و تنوّع الأنماط الكلامية و أشكال الكتابة : السردي ، الوصفي ، الحواري و التأملي ... و أيضا ً في تنوّع التصنيف: الغنائي و الملحمي والخارق . ولا ننسى الكتابة الشعرية ( الأسلوب) : الصور و الإيماء و الإيجاز و الغموض ، و اللمح والمجاز و عدم الملاءمة الدلالية ، و القيمة الرمزية والتشكيلية ... و بعد ُ، فإننا نستذكر قول ستيفان مالارمي Stephane Mallarme وقد أحسن الإصابة : “ الشعر في كل مكان من اللغة ، في كل مكان حيث الإيقاع ، ففي ما نسميه النثر ، شعر من كل إيقاع ٍ يمكن تصوّره ، و بعضه رائع ٌ . في الواقع ليس هناك من نثر : هناك الألف باء ، ثم الأشكال الشعرية ، أقل أو أكثر صرامة ً ، و أقل أو أكثر إطنابا ً . ففي كل محاولة تعبيرية ( أسلوب ) أصول شعرية». قصيدة النثر هي هذا الشعر في لغة ما . هي حاضرة حضور الأنواع الأخرى التي سبقت و لا تزال . وستكون في لغةٍ أخرى . ما دام هناك مادةٌ هي اللغة ، وما دام هناك صانع ٌ / شاعرٌ / فنانٌ / ثائر.