قررت إحدى الشركات في أوروبا أن تستبدل عمال النظافة الأميين منهم بعمال متعلمين يتقنون القراءة والكتابة، وقد اتضح فيما بعد أن فيها عاملاً واحداً فقط أمياً، فاستقبل قرار فصله بكثير من الامتعاض والتذمر.. والمسكين بدلا من البحث عن عمل له، قام بإعارة أذنه لزملائه الذين بدأوا يتندرون به ويندبون حظه العاثر، كيف يطرد من عمله وقد أمضى فيه كثيراً من سنوات عمره يخدم في هذه الشركة بحجة عدم اتقانه للقراءة والكتابة، ما يعني ذهاب كل ذلك هباءً منثوراً، وكم كان خطأه فادحاً وأحمقاً يوم أعار أذنه للشامتين الحاسدين الذين يعيشون على الحسد، ولكنه وفي لحظة كاد هؤلاء يفسدون عليه ما بقي له من حياة تنبه لخطر هؤلاء المفلسين وكأنه يسمع منادياً ينادي عليه وقد شعر بهواء كلامهم المزعج «الباب الذي يأتيك منه الريح سده واستريح» لكنه ومع ذلك يبقى هو العليم بمصيره بعد قرار فصله، والبطالة التي تنتظره، سمع النداء الذي به قائلاً: لا تعش كابوس الماضي وتحت مظلة الفائت، انقذ نفسك من شبح المستقبل، أتريد بتذكرك وضعك في الشركة أن ترد النهر إلى مصبه، والشمس إلى مطلعها، والطفل إلى بطن أمه، إنك بتفاعلك مع الماضي، وقلقك من المستقبل واحتراقك بناريهما تعيش وضعاً مأساوياً رهيباً لا مناص لك من الاصطلاء به أو الاكتواء بحره. ففكر الرجل ملياً للخروج من أزمته وانتهى به تفكيره إلى أن يتدبر أمره بقليل من المال، وعقد النية في افتتاح مشروع صغير يتمثل في حانوت متنقل على قارعة الطريق أو أحد الشوارع الذي يراه مناسباً يبيع فيه أنواعاً من السجائر. ولمحدودية الربح وقلته والذي يجنيه من ذلك قرر أن يفتح لنفسه رصيداً توفيرياً في أحد البنوك الذي أنشئ أصلاً لمحدودي الدخل. بدأ في ذلك لعلمه أن القراءة في دفتر الماضي الذاهب حتى وإن كان سعيداً فيه ضياع للحاضر وضرب من ضروب العبث والفوضى، وتمزيق للجهد وإرهاق للقدرة والطاقة، ونسف للساعة الراهنة والأعمال الآنية. وفعلا بدأ بعد ذلك في جمع القليل مما يفيض ربحاً من حانوته الصغير ويذهب به إلى البنك ويأخذ على ذلك سندات إيصال ولا يعلم شيئاً عن مقدار ما جمعه وتراكم من مال لأنه لا يسأل ولأنه أيضا غير مجيد للقراءة أو الكتابة ، وذات يوم ذهب ليسأل عن مقدار ماله الذي جمعه فتبين له من المسئول أن ماله أصبح وفيراً، ورصيده كبيراً. سأله المسئول؟ وهل كنت لا تدري كم هو رصيدك حتى تسألني؟ أجابه الرجل بالنفي قائلاً له: لا سأله المسئول : لماذا وأنت تملك الكثير من المال؟ قال لأني لا أتقن القراءة والكتابة. تعجب مسئول البنك وقال له: لقد جمعت هذا المال الوفير وأنت لا تجيد القراءة والكتابة كيف لو أنك كنت تستطيع إتقان ذلك سيكون حالك أحسن، فرد عليه: لو كنت أجيد القراءة والكتابة لكان مكاني الطبيعي هو داخل الشركة أعمل في تنظيفها.. يا لجمال جوابه، وروعة تجربته، وصواب حكمته. ولا يعني هذا أننا ندعو إلى الجهل أو أننا معه في أن يبقى الإنسان على جهله فلا يتعلم. إن ما ندعو إليه هو ألا نعيش الماضي لنتوجس من الحاضر حتى وإن كان الماضي سلبياً مظلماً تميز بليله القاتم، فقد ظهر ومن خلال التجربة والعلم يقيناً أن الوقوف أمام مرآة الماضي لتلمس التجاعيد، ومعاينة القسمات المتصابية مما لا طائل منه، لأنه قد يعيق السير ويؤخره ولربما يوقفه. وهنا أود الإشارة إلى أن الإدارة قيادة إلى الريادة، وما بين القيادة والريادة مسافات شاسعة، ومراحل متعددة من العمل المتواصل والجهد المتفاني والإخلاص الرائع، عنوانه العام الإرادة، عنوان يقرب المسافات ويختصر المراحل، ويطوي الطريق سيراً حميداً لا تعيقه العثرات وإن برزت إخفاقات يتلافاها صدق العمل، وتجملها المهمة المتوفرة، وتتجاوزها إرادة الإبداع. إخفاقات نقطة انطلاق هي كبوصلة السير تحدد معالمه إذا اهتزت شوكتها ما يعني وقوفها على معلم بارز، وهكذا أهل الفطنة هم، إذا حصلت لهم كبوة أو سقطوا في مستزل هفوة اندفعوا ثانية واضعين نصب أعينهم مواطن الزلل لتجنبها، وعلى كل واحد أن لا يتأثر من القول القبيح أمام إخفاقاتنا، والكلام السيئ الذي يقال فيك فإنه يؤذي قائله ولا يؤذيك سب أعدائك لك وشتم حسادك يساوي قيمتك، لأنك أصبحت شيئاً مذكوراً، أو رجلاً مهماً، فسر في طريقك ثابت الخطوة وإن تعثر الطريق بك فلا تلتفت.