من يرى (عمتي) يعطيها خمسين سنة. (تمضي) في الصباح مهرولة، وبعد الغداء (متفرطة)، ممسكة (بجمنة القهوة) في يدها اليمنى، ومخفية تحت الستارة الملطخة ببقع ملونة: القات، (التمباك) المعجون بالماء الجاهز للدس (بالبوري) المستعد لاستقبال جمرات النار، فإذا أخذت نفساً أخذته (قصبة المداعة) إلى التمباك، سوف ينفد منه إلى الجمرات، ولن ينفد منها، سوف ينفخها، فتشعل التمباك، فيعود دخانه إليها، تبلعه، ومابقى منه تفرقه في الهواء. نفس طويل لم تهزه السنون. قالت: تزوجت بعد مقتل الإمام يحيى بسنة، وأنجبت ابني البكر بعد سنتين من زواجي.. رمقتني بعينها التي ظهرت من وجهها للحظات، ثم قالت: وأنت احسب.. قلت (مصدقاً عيني، مكذباً السنين): خمسين سنة.... ردت (بنزق): خلي الجنان. احسب سوا. تركت عيني، فتركت الجنان، وذهبت أقلب السنين، الواحدة فوق الأخرى، ثم قلت متردداً خشية من الغلط، ومن غضبها ): قولى خمسة وسبعين عاماً.. أدارت لي ظهرها، ومضت وهي تقول: قولي، قال العمر.. صدقت يارجال، اللعلمي من أنت.. وقفت بعد عدة خطوات، ووقفت بعد أن سمعت صوتها.. قالت: أمانة ما أنته من هانا.. ماجيت تعمل.. قلت (مبتسماً): مثلكم.. ردت (دهشة): خلي الجنان.. أو أنت مرة، الرجال بتمضي في الوظيفة.. قلت ( لم تفارقني الابتسامة): والنسوان بيمضين في الوظيفة مثل الرجال.. ردت (متذكرة): صدقت.. بنت ابني تمضي كل يوم، لكن ماهو ش مثلي بتمضي فوق اسمها، وأنا امضي عند الجيران.. قلت وبعدا.. قالت: أنا أرجع البيت قبل الغداء، وهي ترجع وقت الغداء، مثل أبوها. أطرقت للحظات، ثم قالت (متنهدة، تنهيدة خفيفة): أنا أمضي (بلاش) وهي تمضي (بزلط) خيرة الله.. كان قلي، ما جيت تعمل.. عادت الابتسامة، ثم قلت : قد قلت.. مثلكم.. امضي، طابت نفسكم.. رمقتني بنظرة حادة، ثم أدارت لي ظهرها ومضت، وهي تقول: قدوه الجنان، قد الرجال ذي تمضي مثل النسوان بالصبح.. اللعلمي أيش معنى (تمضي).. تمضي فوق اسمها كيف، أمضي.. نهاية الحديث، يوم أن التقيتها صدفة ذات صباح الحال ذهبت إلى شوارعها تخرجني عن حاضري، فإذا خرجت خرج مابي من ضيق، هو ضيق الزمان والمكان، من تركتهما ورائي، يفصلني عنهما سور أن ضاق أهله بجزء منه، لم أضق به، في مخيلتي، كيف كان فتعيده كما كان.. التقيتها ثانية صدفة، قبل العصر بدقائق، ليس للحال موعد، فإذا حل ذهبت.. بادرتني المرة الأولى بالسلام، وبادرتني بالثانية بالسؤال: هو أنت..؟! قلت السلام عليكم.. قالت وعليكم السلام.. هو أنت.. ماجيت تعمل..؟ قلت (مبتسماً...بخبث): مثلكم ردت (بغيظ مكتوم لمحته بعينها، وملوحة بالجمنة أتمام وجهي) أنا سارحة أتفرط... هيا قلي قد به رجال تتفرط.. رديت: قصدي.. جيت اتمشى.. ردت (مبتسمة، صنع النقاب ساقية بعرض فمها) قل أمضي أحسن.. ومابتقيلش.. قلت: أحياناً.. قالت: خيرة الله.. خاطرك أدارت ظهرها ومضت.. وقفت مكاني، منتظراً صوتها، كان لي بعد خطوات.. قالت (متعجبة) عادك ببقعتك.. ولا أين أنت، فأنت ببقعتك، زكيني عقلي.. وقلي زعم ليش قالوا المره بتتفرط، وعلى الرجال: بيقل .. وإلا أقلك: مره ثانية قد تأخرت. اعتدت عليها، وجدت فيها جدتي التي لم أعرفها.. عدت إلى المنجد، حفظت معنى كلمتي مضى، وفرط ، كثير من الكلمات نعرف معانيها لكننا لا نستطيع أن نعبر عنها استعداداً للإجابة على استفسارها.. فإذا ضاق الحال رحلته إلى الزمن الذي لقيتها فيه، وإذا اقترب شددت الرحال إلى المكان. أحببت المكان حبي لها، والمكان وجهان لعملة واحة، جدتي التي لم اعرفها.. أقف في أول المكان، وأنظر إلى آخره، فإذا كان بدونها سقط نصفه.. أذرع كأني أذرع نصفه، فإذا بدت أكتمل المكان.. في كل مرة تقول، وتكرر أحياناً ما قالت، وانتظر أن تسألني ما سألته، فلم تسألني إلا في اللقاء الأخير. المضي، والتفرطة رحلة يومية لم تنقطع منذ تزوجت.. تمضي بعد أن يذهب زوجها للعمل في الدكان، يبيع ويشتري.. جولة حرة صباحية، تنتقل من بيت إلى بيت، بضع دقائق وفي كل بيت، تتبادل مع صاحبته أطراف الحديث، فإذا كان جديداً طال، وأطول إذا كان مثيراً.. تتحدث مع صاحبته عن البيت الثاني.. قالت (ضاحكة، كانت الأولى، فكان لها رجع صدى لضحكة جدتي التي لم أعرفها): وهي تعرف، أنحنا بنتخابر عليها، وعارفه ذي يتخابرين علي.. قلت مبتسماً: كل واحدة تحش على الثانية.. قالت: هوذا انته داري.. كانت تعرف كيف تنظم وقتها، فإذا عاد زوجها كان الغداء جاهزاً.. إذا كان غيرها هدفاً لتمضيتها، مثلها، ولكنها تمضي وإن مضت إليها واحدة أو اثنتان، أو أكثر، لابد أن تمضي، إلا إذا، فإذا زال ما بعد إذا عادت تمضي... وإذا انتهت من تنظيف عدة الغداء خرجت تتفرط. التفرطة: بقعة تجلس عليها في مكان اتسع لغيرها، وزمن اتسع للحديث الطويل، فاتسع لتعاطي القات وتدخين المداعة، وإذا أرادت المتفرطة، تكتفي بتبادل أطراف الحديث.. أرادت عمتي، قبل تعاطي القات احتساء القهوة من الجمنة التي جلبتها معها.. قالت يقول أيش ماقالوا طعم قهوة (الجمنة) ثاني.. وتعود إلى بيتها قبل المغرب، انتهت التفرطة، لكنها موعودة بها في اليوم التالي، فإذا حل دورها كان عندها، وإذا انجبت، كانت هدفاً للتفرطة.. أنجبت ثلاثة ذكور، وثلاثة إناث.. الأول: يبيع ويشتري، فتح الله عليه.. قالت: عمر له بيت، لو تبصر كيفوه.. والثاني: درس وتوظف، وماله شي قوي، لو تبصر البيت ذي عمره لا تقل (مابيت إلا بيت الآخرة) .. قالوا (احمر عين).. والثالث هو درس وتوظف، لكن يرحم، جالس معي في بيت أبوه الله يرحمه.. قالوا (أخبل)، اللعلمي أيش الفرق وهم من بطن واحده.. ولا رضيت أفلت بيتي، ولو بيوتهم كيف ماكانت.. إذا جلست مع واحد أسبوع، أغير أجنن، لا تمضيه ولا تفرطه كل واحد مغلق بابه، وبيني وبينك، وهانا قد الوقت تغير.. من خرج من بيته خرج، والموجودين، كل واحد حامل الدنيا فوق رأسه، لا عد التمضيه تمضيه، ولا التفرطه، تفرطه، مابلا قديه في عروقي التمضيه، ماعد إلا أنا وبالنادر من كانت مثلي.. ماالتفرطه قدوه الجنان. مرة ولدي ذي خرج من بيت أبوه، الموظف، تتفرط لا آخر الليل وتبكر راقده، لا ماتقومها الشغالة تتغدى، وبعده تتفرط، ولا عمل ولا مهره، قديه مفسده.. هيا اسمع: يوم كنت عنده، قلت أمضي، دقيت أول باب: جاوبتني الشغالة، كوديه تتكلم عربي.. قالت لي: مافي حد.. مدام نايمه.. مدوها لا عد قامت.. قلت أمضي للبيت الثاني، بدي لي رجال قال لي: ماتشتي.. قلت أشتي أهل البيت قال (الله لا ستره): مابحد ..هيا اجزعي.. جزعت راسه.. دقيت البيت الثالث، جاوبتني مره: من.. قلت: افتحوا، ردت مثلي (لا لحقها خير): افتحوا من أنتي.. قلت جارتكم، جيت امضي عندكم.. ردت وهي بتضحك (أمرها إلى الله): أو أنتي موظفه عندي، ومانيش داريه.. قلت: جيت اجلس معاكم نتجابر.. قالت: أنيت لش، فرحه بنفسش، مع السلامه عيدي لك الله واحده مثلش، ماني معي عمل. الوقت قد تغير ياولدي، قدوه شوم.. أطرقت كادت أن تجهش بالبكاء.. كان حديثها طويلاً، لم يسبق مثله، وخاتمته، كادت أن تجهش بالبكاء، فكدت أن أضمها إلى صدري، كنت استنشقت عبير جدتي، لكني تراجعت فهي عمتي التي لا أعرف اسمها، كم هممت أن أسألها عن اسمها، خشيت من ردة فعلها، ولم أنادها بعمتي، خشيت أن أفقد سحر جدتي.. وكان طويلاً، كأن وراءه مفاجأة، فزيت وهي تقول: سألتك مرة مامعنى تمضية؟ تنفست الصعداء، كم ألحت علي إجابته.. قلت (مبتهجاً): تمضي من مضى ومضيا الشيء: ذهب وخلا. وماهو الشيء؟ كل مافي الأرض أشياء، أنا وأنت أشياء والزمن شيء. وأنا أمضي، فإذا بالزمن يمضي، فيمضي علي: ذهب يوم من عمرك، وابنت ابني، وابني، وانت تمضون قبالة أسمائكم، فيقول الزمن سوف يذهب يوم من عمركم، فإذا كان الإمضاء الثاني: ذهب يوم من عمركم، فإذا حققتم في يومكم؟ سألت ابنت ابني: ماذا فعلت.. قالت مدري.. كأنه لا فرق بيني وبينكم. مضيت وتمضون، ماأتعسني بكم.. كنت أستمع مشدوهاً، تحدثت بلغة جديدة، ارتقت إلى مقام الحديث قلت (متعجباً): تتحدثين بلغة جديدة! وسألتك عن الفرق بين المتفرطة والمقيل.. وهي تتحدث، شعرت بأني صغير أمامها، فخشيت أن أصغر أكثر. قلت (باستخفاف): لا فرق.. لافرق.. ردت بحزم: قلت ماهو الفرق.. لم أستطع أن أطلق تنهدة منتظرة، فقلت (مهزوماً): كأنه لا فرق، للكلمتين نفس المعنى.. المتفرطة من فرط، أي: قصر في الأمر وضيعه حتى فات.. قاطعتني... قالت: وأنا كنت أقصر في الزمن وضيعته حتى فات.. مقيل. النائم في القائلة، أي في منتصف النهار.. أطلقت ضحكتها الثانية، كانت ساخرة، فخفت من غضب جدتي.. ثم قالت: وأنتم تخزنون القات.. مغالطة الرجال وأنانيتهم. جيرتم المعني فمحقتم المعنى. النائم ينام ويقوم نشيطاً، والمخزن يخزن، ويقوم منهكاً، ومهموماً.. ينام (ببلاش) ويخزن بمال. ونحن نقصر، ونضيع.. أنتم المقصرون والمضيعون، بيدكم الحل والعقد.. صمتت للحظات، صمتت بإرادتها، ولم أنطق ببنت شفه بإرادتها، أخرسني حديثها.. ثم دارت حول نفسها، دورة الغاضبة، وكأنها لا تريد أن تراني بعد هذه أبداً وقفت للحظات أخرى، وقد أعطتني ظهرها، كأنها تقول: لن تراني بعد هذه أبداً.. رفعت يدها إلى السماء، ثم قالت (مهرولة): والله مامفرطين إلا الرجال، قصروا، وضيعوا، أمرهم إلى الله.. أمرهم... ربما صدق ظني، غابت، لن أقول أبداً، ربما لا يصدق ظني، قد تظهر ثانية.