قصة مقتل الفقيه العالم سعيد بن جبير واحدة من صور المأساة المروعة في تاريخنا الإسلامي؛ إذ بين وقائع وتفاصيل هذه الجريمة تقرأ سادية حاكم مستبد وشبق وحش متعطش للدماء التي أسالها متلذذاً بلونها وجريانها!! سعيد بن جبير واحد من عظماء عصره الذين لقوا حتفهم(تعزيراً) للفكر والعلم الذي يحملونه والذي مثل مصدر قلق للمستبد لامفرَّ منه إلا بالقضاء على هذا وأمثاله. هرب سعيد بن جبير أولاً إلى أصبهان، وفيها استقر فترة حتى هزه الشوق لزيارة بيت الله الحرام فزارها حاجاً أو معتمراً، وكأنما أراد أن يودع البيت الحرام ويلقي عليه النظرة الأخيرة، ولما علم الحجاج بمقدم سعيد بن جبير إلى مكة كتب إلى واليه على مكة خالد بن عبدالله القسري أن ألق القبض على سعيد بن جبير وآخرين فقبض عليه وهو متعلق بأستار الكعبة، وتم إرساله إلى الكوفة. (ذكر عتاب بن بشر عن سالم الأفطس قال: أتي الحجاج بسعيد بن جبير وهو يريد الركوب وقد وضع إحدى رجليه في الغرز، فقال: والله لا أركب حتى تتبوأ مقعدك من النار، اضربوا عنقه، قال: والتبس الحجاج في عقله مكانه، فجعل يقول: قيودنا.. قيودنا، فظنوا أنه يريد القيود التي على سعيد، فقطعوا رجليه من أنصاف ساقيه وأخذوا القيود)(1). ويروى أن سعيدا أدخل على الحجاج وهو موثق بالحديد فنظر إليه الحجاج في غضب وقد استوى جالساً وكان متكئاً: ياعدو الله خرجت علينا مع عبدالرحمن بن الأشعث؟! قال سعيد: ما فعلت، ولكن أتيت بيت الله الحرام الذي من دخله كان آمناً فأخذت وأنا متعلق بأستار الكعبة. قال الحجاج: ما اسمك؟ قال سعيد: اسمي سعيد بن جبير. قال الحجاج: الشقي بن كسير. قال سعيد: أمي أعلم باسمي. قال الحجاج: شقيت وشقيت أمك. قال سعيد: الغيب يعلمه الله. قال الحجاج: لأوردنك حياض الموت. قال سعيد: أصابت أمي اسمي حقاً. قال الحجاج: لأبدلنك بالدنيا ناراً تتلضى. قال سعيد: لوعلمت أن ذلك بيدك لاتخذتك إلهاً. قال الحجاج: ماعلمك بمحمد(صلى الله عليه وسلم). قال سعيد: نبي ختم الله به الرسل، وصدق به الوحي، إمام الهدى ونبي الرحمة(صلى الله عليه وسلم) وعلى أهل بيته. قال الحجاج: ماقولك في الخلفاء؟ قال سعيد: خيرهم أرضاهم لخالقه. قال الحجاج: أي رجل أنا؟ قال سعيد: يوم القيامة تخبر أي رجل أنت. قال الحجاج: فأي رجل أنت؟ قال سعيد: أنا أهون على الله من أن أطلع على غيبه. قال الحجاج: ياسعيد مالك لم تضحك قط؟ قال سعيد: وكيف يضحك رجل مخلوق من طين، والطين تأكله النار، ولايدري إلى ما يصير إلى جنة أو نار. قال الحجاج: ماقولك في علي بن أبي طالب أفي الجنة هو أم في النار؟ قال سعيد: لو أدخلت الجنة وفيها أهلها، والنار وفيها أهلها لعلمت ياحجاج. قال الحجاج: الويل لك مني ياسعيد. قال سعيد: الويل لمن أبعد عن الجنة وأدخل النار. قال الحجاج: إني قاتلك. فضحك سعيد.. فقال الحجاج: ما أضحكك ياسعيد؟ قال سعيد: ضحكت من العجب. قال الحجاج: ماذاك العجب؟ قال سعيد: عجبت من تجرئك على الله وحلمه عليك. فأمر به الحجاج ليقتل. قال سعيد: (إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين). قال الحجاج: ياغلام قم إليه فاضرب به الأرض ضربة، ثم اعل صدره لتذبحه، فلما وضع السيف على حلقه قال سعيد: باسم الله، وعلى ملة الله، وملة رسوله(صلى الله عليه وسلم))(2). وذبحه الحجاج مضطجعاً، وليس له من ذنب، غير أنه لم يرض عن فساد بني أمية وطغيان الحجاج. ورحم الله ابن جبير فقد كان يقيم دائماً في جوف الكعبة ويقرأ بها القرآن وروي عنه أنه ختم القرآن مرتين ونصفاً في الصلاة في ليلة في الكعبة، وقال سفيان الثوري عن عمرو بن ميمون عن أبيه قال: مات سعيد بن جبير وما على وجه الأرض أحد إلا وهو محتاج إلى علمه)(3). وقال الحسن البصري رحمه الله: (اللهم أيت على فاسق ثقيف الحجاج والله لو أن من بين الشرق والمغرب اشتركوا في قتله لكبهم الله عزوجل في النار)(4). ولم يعش الحجاج كثيراً بعد فعلته هذه؛ إذ مات بعدها بأشهر، كما أنه لم يسلطه الله على أحد بعده وكان الحجاج إذا نام يراه في المنام يأخذ بمجامع ثوبه ويقول: ياعدو الله فيم قتلتني؟ فيقول الحجاج: مالي ولسعيد بن جبير، مالي ولسعيد بن جبير! هوامش 1 - البداية والنهاية لابن كثير85/9 2 - الكلمة والسيف صالح الورداني 79 3 - البداية والنهاية 85/9 4 - وفيات الأعيان لابن خلكان 374/2