ما زال التلاميذ في مديرية البريقة يعانون، ومعاناتهم تلك لم تقتصر عليهم، بل تعتدت إلى ذويهم، كما أنها لم تتوقف عند معضلة تأخر التحاقهم بمسيرة التعليم التي انطلقت عجلتها في سبتمبر الماضي كما هو حال مدارس العالم، بل امتدت لتنسحب على الأسر والعائلات وأولياء الأمور, محور المعاناة التي نحن بصددها تكمن في استمرار تواجد نازحي محافظة أبين في مدارس البريقة، كما هو الحال في بقية مدارس مديريات محافظة عدن، وعلى الأخص المدارس الابتدائية في المراحل الدراسية الأولى. حيث لم ينتظم التلاميذ - من الصف الأول وحتى الرابع الابتدائي - إلا في الأسبوع الأخير من شهر نوفمبر الماضي وبداية شهر ديسمبر من العام 2011م؛ وذلك بسبب الوعود التي كان أولياء الأمور يتلقونها بقرب إخلاء المدارس من النازحين، خاصةً وأن أولياء الأمور تحرص أن يدرس أطفالهم في مدارس قريبة من مساكنهم بحكم صغر سنهم، غير أن تلك الوعود لم تتحقق وطال الأمر بالأطفال خارج مقاعد العلم. ولما طال الأمر لم يكن أمام أولياء الأمور سوى اللجوء إلى المجلس المحلي بالمديرية ليضع حداً لمعاناة أطفالهم وتأخر التحاقهم بمسيرة التعليم، فبدأت الحلول تتوالى والاقتراحات تتوالى في اجتماعات أعضاء المحلي مع أولياء الأمور والتربويين وعقدت العديد من الاجتماعات الأسبوعية في مقر المديرية، كان يتم الإعلان عنها عقب كل صلاة جمعة حتى يتسنى اجتماع أولياء الأمور وعقال الحارات، وبعد العديد من اللقاءات استقرت الاقتراحات على إرسال التلاميذ إلى مدارس تبعد كثيراً عن مساكنهم كحلول عاجلة للحاق بمسيرة العام الدراسي، بالإضافة إلى حلول أخرى تقضي بضم بعض الصفوف الابتدائية مع صفوف الثانوية في بعض المدارس؛ نظراً لوجود فصول شاغرة في المدارس الكبيرة المباني. ورغم تلك الحلول التي قدمت وتم تنفيذها بالفعل وانتظام التلاميذ في الدراسة، إلا أن المعاناة ما زالت مستمرة بحسب أولياء الأمور الذين حرصوا على الاطمئنان على أبنائهم مع توفير الأجواء المناسبة لتعليمهم، بسبب انبثاق عدد من المشاكل المتعلقة بتلك الحلول.. (الجمهورية) تلمست عن كثب كل تلك المعاناة، والتقت بالمسئولين والآباء والأمهات والتربويين لاستعراض الموضوع لتساعد القائمين على الشأن التعليمي والتربوي في عدن للخروج برؤى وحلول ممكنة لإنهاء تلك الإشكاليات.. لقاءات مطولة راوي عبد العزيز عضو المجلس المحلي لشئون الخدمات الاجتماعية وخطيب جامع ابن القيم استعرض خطوات وضع الحلول للمشكلة بقوله: مع مرور الوقت استشعرنا خطورة استمرار بقاء الأطفال خارج مدارسهم، ومع تكرار شكاوى المواطنين حفاظاً منهم على مصلحة ومستقبل أبنائهم، قمنا بالتنسيق مع مكتب التربية والتعليم بالمديرية بعمل لقاءات لمناقشة الوضع وتلك اللقاءات أخذت وقتها قبل أن تتوصل إلى نتيجة، حيث بدأت تقريباً من بداية شهر سبتمبر الماضي ولم يكتب لها النجاح إلا في أواخر نوفمبر. مدارس بديلة ويضيف عضو المجلس المحلي: كما تم دعوة أولياء الأمور إلى مكتب مدير المديرية لدراسة آرائهم، بالإضافة إلى جهود عدد من التربويين المتعاونين في المديرية، وكانت بعض المقترحات تقول بالتنسيق مع النازحين الموجودين في مدرسة الذاري بمنطقة ال C. CLASS باعتبارها المدرسة المخصصة للصفوف الابتدائية، وكونها قريبة من الحارات ومساكن التلاميذ صغار السن؛ لكي يتم تحويل النازحين إلى مدرسة أخرى تقع على أطراف المديرية، وهذه المدرسة المشار إليها بعيدة جداً عن منازل الأطفال حتى إنها كانت بديلاً لإكمال التلاميذ دراستهم فيها غير أن أولياء الأمور رفضوا ذلك بسبب بعد المدرسة والمخاطر التي قد يتعرض لها الأطفال. ولم يؤد التنسيق مع النازحين إلى أي حل بحسب راوي عبد العزيز عضو المجلس المحلي، مشيراً إلى أن تنسيقاً تم مع مديري بعض المدارس الثانوية وأخرى خاصة بطلبة الإعدادي، لاستيعاب التلاميذ الصغار وهو ما تم بالفعل. حل تم تطبيقه من جانبه قال التربوي ومدير مدرسة المسيلة محمد سلطان محمد وهو مدير إحدى المدارس الإعدادية التي تم فيها استيعاب طلبة الصفين الأول والثاني الابتدائي: الحل الذي تم التوصل إليه هو حل اعتمده مكتب التربية والتعليم بمحافظة عدن في اجتماعات مع قيادة المحافظة في مناسبات مبكرة لانطلاق العام الدراسي وتم تطبيقه في مديريات محافظة عدن، مشيراً إلى أن مدرسة المسيلة يتواجد فيها طالبات الثانوية صباحاً، وطلبة الإعدادية مساءً، بالإضافة إلى التلاميذ المضافين مؤخراً. مشاكل الأطفال أولياء الأمور ورغم تقبلهم للحل والمقترحات وانطلاق العام الدراسي بالنسبة لأبنائهم في المدارس البديلة، إلا أنهم يرون استمرار المعاناة، وهذه المرة بإشكاليات استحدثتها المقترحات الحديثة، فلم تكن تلك المدارس البديلة حلاً مثالياً لا من حيث البيئة ولا من حيث القرب من المساكن كما كان سابقاً. عبد السلام الحميري ولي أمر يقول: صحيح أن استمرار أبنائنا في تلقي العلم هو الأهم، لكن اختلاط الأطفال بطلاب أكبر منهم سناً في نفس المدرسة يعرض أولئك الأطفال للإساءة حيناً، وتعلم تصرفات وسلوكيات لا تتناسب وأعمارهم أحياناً أخرى، وكما نعلم أن الطفل في الصف الأول أو الثاني يكون متعلقاً ببيئته السابقة التي اعتاد عليها طيلة سنواته السابقة، وفجأة يصطدم بتغيير البيئة، ومشاهدة تصرفات من أشخاص أكبر منه سناً لم يعتد عليها.. ويستطرد عبد السلام: غير أن ما يخفف من مخاوفنا وجود تربويين في تلك المدارس يشهد لهم بالخبرة وحسن تسيير الأمور والتعامل مع مثل هذه الظروف بعقلانية، متمنياً أن تنتهي أزمة النازحين في أبين ويعود الأطفال إلى مدارسهم والنازحون إلى منازلهم. جوانب نفسية أروى ياسين شمسان أستاذة علم النفس وولية أمر، تؤكد تغير الأمور النفسية والتقبل للتغير في نفسيات الأطفال في هذه السن المبكرة، وتقول: إن التغير صعب في هذه السن الصغيرة، فالطفل أكثر تعلقاً ببيته أكثر من المدرسة، وبعد سنوات يكون متعلقاً بأصدقائه القدامى أكثر من الأصدقاء الجدد، وبمربية الحضانة أكثر من المعلم في المدرسة، إلا أن الخطر الحقيقي على الأطفال ليس في البيئة؛ لأنها دائمة التغير ومن الطبيعي أن يتأقلم الطفل مع هذا التغير ولكن الخطورة والمشكلة تكمن في مشاركة المدرسة مع من هم في سن أكبر منهم، وذلك ينسحب على الأداء الدراسي والتحصيل العلمي، والتأثير على السلوكيات، وهنا يكمن دور الآباء والأمهات وتبرز أهميته في القيام بزيارات متتالية في أوقات وفترات متباعدة لمتتابعة أطفالهم وتحفيزهم وتشجيعهم، وإشعارهم بأنهم معهم، كما تفيد هذه الزيارات في التعرف عن قرب على أي مشاكل قد يصادفها الطفل في بيئته الجديدة والتي قد يخفيها عن والديه في البيت وتنعكس سلباً على الطفل. إشكاليات مالية إشكالية أخرى يسوقها ولي أمر آخر هو محمود أحمد اليافعي، وتكمن هذه الإشكالية في المسافة البعيدة للمدرسة عن مساكن الأطفال وبالتالي اضطرار استئجار باصات وحافلات لتوفير المواصلات للأطفال للذهاب لمدارسهم والعودة بهم، وهذا الإجراء - بحسب محمود اليافعي - كان بدافع الخوف على الأطفال الصغار؛ نظراً لبعد المسافة واحتمالية ضياع الأطفال أو تعرضهم للمخاطر. ويضيف: وكل ذلك بسبب الوضع الذي تعيشه البلاد والغياب الأمني الذي يضع العائلات تحت الضغط والخوف على أبنائهم. مشكلة أخرى يشير إليها: بالإضافة إلى أن الحل المتمثل في توفير باصات وحافلات لنقل الأطفال يصدم بتباين قدرات العائلات على توفير مصاريف تلك الحافلات شهرياً؛ الأمر الذي يشكل معضلة مالية أخرى تضاف إلى كل ما سبق. المشكلة الأم ما سبق يجعل معاناة المسيرة التعليمية للأطفال الصغار في مديرية البريقة مستمرة ومضطردة، في سياق يقودنا من مشكلة إلى أخرى، في ظل عدم إيجاد حلول للمشكلة الأساسية، وهي تواجد النازحين في المدارس، خاصة تلك المخصصة للصفوف الدنيا.