ولد أبو علي الحسن بن الحسن بن الهيثم في مدينة البصرة بالعراق عام 354ه, ونشأ كما ينشأ فتيانها آنذاك غير أنه مافتئ شاباً يافعاً إلا وقد اختلف إلى كتاب القرية لتلقي مبادئ العلوم واللسانيات, وماهي إلا فترة وجيزة حتى برع كثيراً في الهندسة ومال في تعليمه إلى الطبيعيات وعلوم الطب والفلك والفلسفة والمنطق, واشتهر ذكاؤه وذاع صيته بين الناس حتى لكأنه شيخ علم في سن الشباب. عمل أولاً بديوان الحسابات في إمارة البصرة بعد أن حذق كثيراً من هذه العلوم, وكما تميز في تعليمه فقد تميز في عمله, إذ كان من أكفأ العاملين بالديوان وأمهرهم وأدقهم حرصاً على وقته, محافظاً على عمله, الأمر الذي جعله يعيش منزوياً مع نفسه وسط زملائه الموظفين بالديوان, إذ يميل أغلبهم إلى حياة اللهو والمرح والطرب, أما أبو علي الحسن بن الهيثم فشخصية جادة منذ صباه لايركن إلى اللعب أو يستميله الهوى, جل تفكيره في طلب العلم ومطالعة الكتب ونسخ المؤلفات حتى صار كبيراً للمهندسين في بلاد العراق كلها, وهو ماجعل أمير البصرة آنذاك يكلفه ببناء قصر يليق به كأمير لامثيل له في البلاد, ونسي الأمير أن ابن الهيثم مهندسٌ وليس بناءً, وهو ماوضحه لأميره قائلاً:”ليس بوسعي أيها الأمير سوى أن أضع تصميماً لهذا القصر يبنيه البناؤون” وهو مالم يقبل منه, إذ طالما ظل يساومه على مباشرته بنفسه البناء والإشراف, وهو مالم يرض به الحسن بن الهيثم, واعتذر للأمير عن عدم قبول هذه المهمة, فهي لاتتصل به إلا من جانب التصميم لا من جانب البناء والعمل. (فثار عليه الأمير واتهمه بالغطرسة والكبر لتعاليه على زملائه في العمل وبالادعاء في العلم لترفعه عن تنفيذ مايأمره به, وتوعده بأن يوجه إليه تهمة الزندقة لأنه يدرس الفلسفة, إذا لم يأته طائعاً وينفذ له بناء قصره بنفسه) (1) بعد هذا التهديد والوعيد الذي سمعه الأمير لم يجد بداً من الفرار من البصرة بكاملها خشية مؤاذاته من قبل الأمير, وهو ماتم بعد ذلك, واتخذ قرار الرحيل مودعاً أهله وأقاربه والحزن يملأ صدره والدموع تنحدر من عينيه, ففراق الأهل والوطن أمر جد صعب ولكن لايوجد حل غيره, وفارق البصرة ليلاً مع خادمه وكتبه التي كانت على ظهر حمار متنكراً في ثياب الصوفية حتى لايعرفه أحد, وكانت بغداد هي مدينته الجديدة التي قرر أن يعيش فيها مستأجراً داراً متواضعاً يعيش فيه مع خادمه. واستقر ببغداد من يوم وصوله يعمل في نسخ الكتب بخطه الجميل في مكتبة دار الحكمة التي أنشأها المأمون, والتي استفاد من كنوزها ومعارفها كثيراً وكأنما وجد ذاته فيها وكان هذا النسخ هو مايوفر له قوته الضروري فقط, إذ أن مردوده زهيداً قياساً بأي عمل آخر, ولم يمكث في بغداد إلا بضعة أشهر إذ كانت جواسيس أمير البصرة قد لاحقته هناك, وعزا الأمير إلى واحدٍ من المتعصبين من حنابلة بغداد ضد العلماء والفلاسفة, فخطب في المسجد وأشعل عاطفة العوام الدينية بأن ثمة زنديقاً وفلكياً متفلسفاً يقيم بينهم حتى ثار العوام وأخذ هذا المتشدد أحد كتب ابن الهيثم التي كان قد ألفها في علم الفلك وعرضها عليهم في المسجد ومن ثم أحرق هذا الكتاب أمامهم!! وعاد إليه خادمه مسرعاً مخبراً إياه بحديث القوم والعوام الجهلة في بغداد, فكانت هذه محنته الثانية وقرر الرحيل متخفياً ومتنكراً ليلاً حتى لايعرفه العوام فيفتكوا به وقد حكموا بزندقته لأنه يؤلف ويكتب في علم الفلك والرياضة!! ولكن إلى أين؟ ليس أمامه إلا بلاد الشام فشد الرحال مع خادمه متجهاً نحو الشام يحملان زادهما وماءهما على حمارين قطعا بهما البوادي والقفار, حتى وصلا إلى بلاد الشام, وهي رحلة شاقة لعالم جليل تطارده جهالات السفهاء ومكائد الحاقدين, ولكن لايزال في القلب متسع لتحمل ماهو أكثر من ذلك, فما دام الهدف سامياً والنفس عظيمة فلا بد إذن من ضنى الأجساد وتعبها. ووصل إلى بلاد الشام وقد سبقته إليها شهرته الذائعة وصيته الكبير كعالم جليل, وهناك استأجر داراً للعيش واستقبله أحد أمرائها بعد أيام من وصوله وقرّبه من مكتبته الكبيرة, وهناك وجد أبو علي بن الهيثم ضالته في الكتب التي تحوي عدداً من المعارف والعلوم وعلم به علماء الشام فناظرهم وناظروه, واستمع منهم واستمعوا إليه, حتى صار واحداً منهم, وكانت تأتيه أخبار مصر باستمرار ومن بينها أخبار مكتبة دار الحكمة الفاطمية بمصر فتاقت نفسه إليها واشتاق لزيارتها والالتقاء بعلمائها المشهورين الذين سمع عنهم. وكانت نتيجة مكوثه هناك في الشام تلخيص ثلاثين كتاباً في الطب عن طب جالينوس وكافأه الأمير جزاء فعله هذا مكافأة, غير أنه اعتذر عن قبولها مكتفياً منها بما يكفل قوته الضروري وخادمه ودابته فقط, إذ ليس له رغبة في المال كما له رغبة في العلم. وفي هذه الأثناء اشتد الجدب على مصر عاصمة الخلافة الفاطمية واستمر الجدب أربع سنوات حتى ضاق أهل مصر بهذه المصيبة حين جفت العيون وغارت الآبار, وفكر أبو علي الحسن بن الهيثم بطريقته كعالم هندسي أن يساهم من جهته في إيجاد حل مناسب لهذه المعضلة, وفكر بعد أن نزلت الأمطار وفاضت السيول أن يضع سداً أو مايشبه السد لحفظ هذه المياه المتدفقة, ورحل أبو علي إلى مصر وجلس مع الخليفة وحدثه عن مشروعه هذا, وقدم له خريطة لمصر مبيناً فيها تفاصيل هذا المشروع.. وبدأ ابن الهيثم في الصعود والهبوط, قريباً من مجرى نهر النيل, وحدس الهضاب والمرتفعات, إلا أنه اكتشف أن تنفيذ فكرته هذه في ذلك الوقت أمر مستحيل لعدم تطور العلوم, وأشار إلى الخليفة بذلك, إلا أن الخليفة لم يقبل عذره هذا واشتاط غضباً قائلاً: أخرج عني ولاترني وجهك. وخرج ابن الهيثم حسيراً كليلاً يجر ذيول الخيبة من عدم تفهم الخليفة للحقائق العلمية التي أبداها ولعدم قبول أي نقاش, وبدأ الخليفة في مضايقته وحرمه الراتب وسلب منه المزايا ولم يقبل فيه شفاعة أحد, وأحاله بعنجهية وصلافة إلى ديوان الحسابات نسّاخاً كما كان حاله في بداية أمره بالبصرة, ومعروف أن هذه الحرفة هي حرفة الطلبة المبتدئين لاحرفة العلماء الكبار, ومردودها ضئيل جداً لاتفي بحاجة صاحبها, كما أنها حرفة الشؤم كما وصفها أحد الفلاسفة من قبله, وعاد- رحمه الله- نساخاً من جديد يندب حظه السيء وهو ذلك العالم الكبير الذي ذاعت شهرته الأصقاع وملأت البقاع, وكان يردد دائماً:”ويحي أأكون شمساً وأضيئ بضوء قنديل”؟!! ومع هذا فقد كان يؤدي عمله كموظف في النهار ويعود ليلاً إلى بيته المتواضع يطالع الكتب ويؤلف متأسفاً على ساعات النهار التي يمضيها في العمل الرسمي, ولولا ظروف الفاقة والحاجة لما قضى كل ذلك الوقت في هذه الوظيفة. وضاق به الحال ذرعاً لما طال به المقام على هذه الحالة, وفكر في حيلة أخرى تضع عن كاهله سأم ساعات الدوام وضياعها في النسخ والكتابة, وتظاهر بالجنون والهستيريا, وبدأ يظهر بعض الحركات العشوائية ويصدر الأصوات التي توحي بجنونه, وعلم بذلك الحاكم, لكن الحاكم لم يصدق فمنعه من العمل وألزمه بيته ووضع على باب بيته حارسين يترصدان حركاته وأصواته ومنعه من الخروج من البيت إلا برفقه هذين الحارسين!! وبقي ابن الهيثم على هذا الحال ثلاث سنوات متظاهراً بالجنون, وقد اتفق مع أحد أصدقائه أن يراسله سراً بالكتب والأوراق, وأن تدخل إليه ضمن سفرة الطعام الذي يأتيه منه بين حين وآخر, وكان ابن الهيثم يراقب الحارسين أكثر مما يراقبانه هما, وحين يطمئن على نومهما أو انصرافها عنه يعمد نحو كتبه وأوراقه فيؤلف ويكتب ويقرأ ليلاً ونهاراً. وكان يجد سعادته التامة وهو بهذا الحال مادام مع كتبه وعلومه. ثُقب المراقبه – ثقب الاكتشاف ومن شدة حماقة هذين الحارسين أن أحدثا ذات يوم ثقباً إلى غرفة أبي علي ليراقباه خلسة دون أن يدري ، لكن إبداعات ابي علي ابن الهيثم كانت فوق حماقة هذين الحارسين إذ سرعان ما تحول هذا الثقب إلى مشروع علمي كبير ، واكتشاف مذهل لم يأت به الأوائل فمع دخول الضوء المباشر إلى الغرفة المظلمة مصحوباً بذرات الغبار كان هذا الضوء يعكس صور المارة إلى الجدار المقابل للثقب فتظهر صورهم معكوسة، وبقى أبن الهيثم يتابع هذا الضوء ويعلل سبب هذا الانعكاس ويحلله تحليلاً علمياً ومنطقياً حتى صاح فجأة وجدتها وجدتها .. وجدتها ) وهو لوحده الأمر الذي أكد للحارسين جنون هذا الرجل وازدادا تأكدا من جنونه ولم يكونا يعلمان أنه في خالص صحوه وفي أتم عقله وأحسن من حالهما بكثير، وقد صارت هذه الفكرة التي اكتشفها أساساً من أساسيات علم التصوير في العصر الحديث . ورآه الحارسان يوماً فوق سطح بيته في وقت الظهيرة وقد غرس عموداً رفيعاً قصيراً في لوح خشبي ومد يده بخيط من أعلى العمود إلى أخر ظل العصا، وهو يكتب ويرسم في ورقه فيجزم الحارسان لجهلهما باستحكام جنونه) ( 2) وهكذا ظل على هذه الحالة يفكر ويحلل ويكتب، ويكتشف ويؤلف لمدة ثلاث سنوات حتى قُتل الخليفة غيلة بالقاهرة، ولم يخرج من بيته إلاََّ بعد تأكده من الخبر ، عاد إليه ثانية يدرس ويعلم في بيته متفرغاً لطلب العلم وتعليمه . وكان أول من قال بحقيقة الرؤية الناتجة عن انبعاث الشعاع من الجسم لتراه العين ، أو بالأصح تنقله بصورة معكوسة إلى الشبكية ، ومنها ينتقل إلى الدماغ عبر العصب البصري ، فيكون سوياً معتدلاً على حقيقته ، وجاء العلم الحديث ليؤكد صحة ماذهب إليه بل لقد كانت آراؤه هذه نظريات وحقائق علمية ، اعتمد عليها العصر الحديث ، وعليه فقد كان ابن الهيثم أٍسبق علماء الغرب كاملاً في اكتشافات البصرية والضوئية وأنهم لم يفعلوا أكثر من أن يترجموا كتب ابن الهيثم ويضيفوا هذه الاكتشافات ونظريات عدة في مجالات كثيرة، كالطب والفلك والهندسة والرياضة وغير ذلك من العلوم التي لم يصلنا منها إلا القليل ،ومخطوطاته العلمية موجودة حالياً في متاح أوروبا وحقيقة فقد كان ( من أعظم علماء الطبيعة والرياضة عند العرب، ويكاد أثره في علم الطبيعة النظرية يعدل أثر اسحاق نيوتن في علم الميكانيكا) (3) ومن عجيب مايروى عن الحاكم بأمر الله هذا الذي تعسف ابن الهيثم وعرضه لألوان العذاب وألحق به التهم جزافاً هو أعماله المتهورة والمهووسة التي فرضها على الشعب ومنها: 1 - ادعى الألوهية، وصار يأمر الناس بالسجود له عندما يذكر اسمه الخطباء على المنابر. 2 - أمر بإغلاق الأسواق نهاراً وفتحها ليلاً ، فامتثل الناس لأمر الحاكم ولم يعودوا يعملون في متاجرهم وحوانيتهم إلا في الليل فيضيئون ويسهرون حتى الصباح . 3 - منع النساء الخروج من منازلهن ، وحرم عمل الأحذية لهن. 4 - حرم أكل العسل والزيت والملوخية وشرب الخمور، وأمر باقتلاع كروم العنب حتى لا يصنع الناس منها خمراً ودبساً وزبيباً .(4) وقيل ذلك قتل أستاذه ( بيرجوان) ولهذا حقد عليه الخاصة قبل العامة وكانت نهايته قتلاً وهو يتجول على ضفاف القاهرة. الهوامش (1) ابن الهيثم عالم البصريات سليمان فياض. 6 (2) المصدر نفسه 38 (3) المائة الأعظم في تاريخ الإسلام .حسين احمد أمين. 157 (4) التاريخ الإسلامي خلال أربعة عشر قرناً ، د إبراهيم الشريقي 177.