سلطان العلماء، وكبير الفقهاء، حجة عصره، وإمام زمانه، نقطة الضوء في الظلام، أزال كثيراً من البدع والخرافات التي سادت المجتمع الإسلامي آنذاك، عاش حياة الجهاد والدعوة، صريحاً في رأيه لايجامل أو ينافق، فكان لزاماً أن يجد صنوف الأذى وأنواع التعذيب. ابتدأ حياة الصراع مع السلطة مع الأشرف بن الملك العادل الأيوبي في دمشق، حيث وشى به النصوصيون من الحنابلة المتعصبين بأنه فاسد العقيدة، وكان السلطان نفسه ذا ميل حنبلي يرى أن من خالف المذهب الحنبلي كافراً حلال الدم، فامتحن بداية عقيدة العز بن عبدالسلام في مسألة من مسائل الكلام ولما وصلته رسالة السلطان تسلمها قائلاً: (هذه الفتيا كتبت امتحاناً لي، والله لا كتبت فيها إلا ماهو الحق) وكتب رأيه في رسالة أسماها (ملحة الاعتقاد) في سبع صفحات وهي عقيدة جمهور السنة ولاغبار عليها وأخذ من ثم يفند أقوالهم ويناقش حججهم بلغة الفقيه المجدد، ولما كانت رسالته هذه تخالف اعتقاد السلطان وأتباعه من الحنابلة، فقد استغلها جهال الحنابلة من الحاقدين فرصة عليه وألبوا عليه السلطان حتى أعتقد ماقالوه وكتب السلطان(صح عندي ماقالوه عنه، وهذا رجل كنا نعتقد أنه متوحد في زمانه في العلم والدين، فظهر بعد الاختبار أنه من الفجار، لابل من الكفار)(1) وطارت شهرة هذا الامتحان في الآفاق، وتكلم بها الناس صغيرهم وكبيرهم، حتى كانت حديثهم في الأسواق والنوادي وفي كل اجتماع. وقد حاول أحد أصدقائه من العلماء وهو الشيخ جمال أبوعمر بن الحاجب المالكي أن يشد من أزره وينصره في هذا الموطن الضعيف حيث لاناصر له حتى من أقرانه العلماء الذين بلغ بهم الخنوع حد موافقة السلطان على رأيه رغم عدم اقتناعهم برأيه، وآثروا الصمت على قول الحق، وتوسط هذا العالم بينه وبين العز بن عبدالسلام، طالباً منه عقد مناظرة بين الطرفين لإبراز كل منهم حججه أمام الآخر وفي مجلس السلطان إلا أنه لم يستحسن ذلك واستدرجه في رسالة تفوح بالكيد السياسي للعزبن عبدالسلام معرضاً فيها أن يكون ذا مذهب خامس في وقت يرى السلطان أن في مذاهب الفقهاء الأربعة كفاية لكل مسلم.. ألخ. ولما وصلت هذه الرسالة إلى العزبن عبدالسلام قرأها ثم وضعها بجانبه غير مكترث بما فيها وأرجع رسول السلطان دون جواب منشغلاً بمطالعة العلوم، ومكث حتى رد على السلطان بعد مشورة من أصدقائه فكتب بلهجة المؤمن الواثق: (فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون) وختمها بقوله: (وبعد ذلك نزعم أنا من جملة حزب الله وأنصار دينه وجنده، وكل جندي لايخاطر بنفسه فليس بجندي)(2) وعلى الرغم من شدة اللهجة في خطاب هذه الرسالة إلا أنه لم يخش عواقبها أو يجبن أمام رد فعل السلطان، فقد أثر قول الحقيقة على رغبة السلطان وعبر بلسانه وقلمه غير مبالٍ بما سيكون بعد. وعندما وصلت الرسالة إلى السلطان ثار غضبه واحمرت وجنتاه، وانتفخت أوداجه، مقرراً على العز أن يلزم بيته ولايخرج أو يجتمع بأحد أو يفتي أو يتكلم أو يخطب، وحين علم العز بذلك لم يتفاجأ أو يخف: بل لقد ارتاح لذلك كثيراً، معتبراً ذلك مكرمة وهبة من السلطان، بل نعمة من نعم الله. ولعل ذلك يرجع إلى رغبته العارمة في الازدياد من طلب العلم والانشغال به منفرداً، وكذا كان يتهيب الفتيا كثيراً ويتبرم منها، مقدراً عظمة الفتوى ومآلها وأهميتها وبقي العز فترة طويلة تحت هذه الإقامة الجبرية معزولاً عن الناس في قرية نائية لايجتمع بهم ولايراهم حتى أذن له السلطان بالخروج كما كان والاجتماع بالناس وتنازل عما كان قد حكم به إلا أنه لم يأذن له بالفتوى بداية إلا في وقت متأخر بعد أن شفع له أحد أصدقائه. وفي عام 638ه حكم دمشق الملك الصالح إسماعيل بن العادل بعد وفاة الملك الأشرف والذي تحالف مع الفرنجة الصليبيين للقضاء على مناوئه ابن أخيه الصالح نجم الدين بن أيوب، وكان الصالح إسماعيل قد تنازل للفرنجة عن قلعة (صف) و(الشقيف) كما اجتزأ لهم بعضاً من بلاد صيدا وطبرية وبلاد الساحل، وهي كلها مواقع مهمة ذات استراتيجية حربية عالية، ذكرها الحموي في كتابه(3) وقليلاً قليلاً فقد ازداد هذا التحالف بين الصالح إسماعيل والفرنجة فدخلوا دمشق وابتاعوا من أهل دمشق الحلي والسلاح. ولما رأى العز خطر هذا التحالف وهذا الامتزاج مع الفرنجة من قبل المسلمين، وخاصة الحكام أفتى بحرمة هذا التحالف البغيض، وأفتى كذلك بحرمة بيع السلاح على الأعداء خشية أن يقتلهم الأعداء بسلاحهم وخطب في ذلك خطبة شهيرة في جامع دمشق حتى تأثر بخطبته هذه كثيراً كل من في الجامع، وثار غضبهم على السلطان، وعلى هذا التحالف القبيح مع الفرنجة، وصدح بذلك الدعاء من على منبر الخطبة (اللهم أبرم لهذه الأمة إبرام رشد تُعز فيه أولياءك وتُذل فيه أعداءك، ويعمل فيه بطاعتك وينهى فيه عن معصيتك)(4) ولما علم الملك الصالح إسماعيل بهذه الخطبة أمر بعزله عن الخطبة واعتقاله وحبسه، ولزم العز بعد ذلك داره ملتزماً عدم الفتيا أو الاجتماع بالناس حتى ضاق صدره عن هذا الاعتقال وهذه الاقامة الجبرية التي حصرته بين أربعة جدران، فقرر أن يغادر دمشق فراراً بجلده من غضب الملك الذي ازداد عليه، إلا انه عرج على مدينة القدس ليستكمل بلاءه هناك إذ لحقه الصالح إسماعيل واعتقله وعذبه وحبسه في خيمة هناك. ومن طريف ماحصل أن العز ظل معتكفاً على قراءة القرآن كثيراً حتى سمعه بعض جنود الفرنجة الذين كانوا قد دخلوا القدس، فقال السلطان: (أتسمعون هذا الشيخ الذي يقرأ القرآن؟ فقالوا: نعم، قال: هذا أكبر قسوس المسلمين قد حبسته لإنكاره علي تسليمي لكم حصون المسلمين، وعزلته عن الخطابة بدمشق وعن مناصبه ثم أخرجته، فجاء إلى القدس، وقد جددت حبسه واعتقاله لأجلكم، فقال له ملوك الفرنجه: لوكان هذا قسيسنا لغسلنا رجليه وشربنا مرقته)(5) وظل العز في الخيمة معتقلاً لمدة شهور حتى غادرها إلى القاهرة سنة639ه لينتقل من سجن إلى سجن، ومن عذاب إلى عذاب، وذلك نتيجة لفكره وعلمه وفتاواه الصادقة والجريئة التي ضاقت بها صدور الحكام!! وفي مصر وفي هذه الفترة كان للمماليك الأتراك نفوذ ومنعة في الدولة الأيوبية أيام الصالح نجم الدين أيوب، وذلك لقدم توافدهم على القاهرة منذ فترة مبكرة وطموحهم إلى الحكم هناك، فوصل العزبن عبدالسلام إلى مصر تسبقه شهرته التي ذاعت في أنحاء الدولة الاسلامية، وتم تعيينه إثر وصوله رئيساً للقضاء(وزيراً للعدل) وما إن تسلم أمور القضاء وبدأ في إصلاحاته القضائية حتى بدا له أن هؤلاء (المماليك الأتراك) لايزالون عبيداً منذ العهد العباسي، وأنهم لما يكتسبوا الحرية بعد يصلحو للحكم ويكتبوا، الشرعية فأبطل الشيخ عقودهم كافة الأمر الذي أهاج غضبهم عليه، ورأى العز أن يجمعهم إلى مكان ما ويعلن بيعهم عبيداً، وتورد قيمتهم إلى بيت مال المسلمين ومن ثم تكون لهم الشرعية!! وجرت معه المفاوضات والإغراءات لإثنائه عن رأيه هذا إلا أنه رفض ذلك وأصر على فتواه أو التنازل عن منصبه وقرر الرحيل عن مصر وما إن خرج من القاهرة حتى لحقه أهلها يستجدونه الرجوع والمكوث فيهم لأنه قد بلغ منزلة عظيمة عندهم، ورجع العز نزولاً عند رغبة الأهالي التي لحقته إلى الطريق وحاول نائب السلطة بعد ذلك أن يغتاله فلم يفلح إذ نادى في كبرياء وخيلاء: كيف ينادي علينا هذا الشيخ ويبيعنا، ونحن ملوك الأرض والله لأضربنه بسيفي هذا، فركب بنفسه وأخذ جماعته وجاء إلى بيت الشيخ، والسيف مسلول في يده وطرق الباب فخرج ولد الشيخ ورأى من الوزير ما رأى فعاد إلى أبيه يخبره وهو فزع خائف على والده، فما اكترث الشيخ بذلك ولاتغير، وقال: (ياولدي أبوك أقل من أن يقتل في سبيل الله) ثم خرج كأنه قضاء الله قد نزل على نائب السلطنة. وهناك ظهر أثر شخصية عزالدين القوية المهابة التي تفرض نفسها على الآخرين فرضاً لأن صاحبها قد ساوى بين الحياة والموت، ولم يساو بين الحق والباطل، فكسب بذلك قوة لا تعدلها قوة. ويروي السبكي: (وحين وقع بصره على النائب يبست يد النائب وسقط السيف منها وأرعدت مفاصله، فبكى وسأل الشيخ أن يدعو له، وقال: ياسيدي أخبرني عن أي شيء تعمله؟ فقال الشيخ: أنادي عليكم وأبيعكم، قال النائب: فيم تصرف ثمننا؟ قال: في مصالح المسلمين، قال النائب: من يقبضه؟ قال: أنا فتم له ما أراد، ونادى على الأمراء واحداً واحداً وغالى في ثمنهم وقبضه وصرفه في وجوه الخير، ثم عقب عليه السبكي، وهذا مالم يسمع بمثله عن أحد)(6). وهكذا عاش العز حياة التشرد والاضطراب كغيره، فشكل طوال حياته مصدر قلق للحكام المستبدين، والملوك الظالمين، حتى إن الملك الظاهر قال عند وفاته: حينما مرت جنازته وهو يشاهد كثرة المشيعين: (اليوم استقر أمري في الملك لأن هذا الشيخ لو كان يقول للناس أخرجوا عليه لا نتزعوا الملك مني). هامش 1 - العزبن عبدالسلام، رضوان السيد125 2 - طبقات السبكي 304/5 3 - معجم البلدان 309/2 4 - السلوك المقريزي 304/1 5 - طبقات السبكي101/5 6 - طبقات الشافعية84/5