هل ينبغي على السينما أن تخوض في قضايا الحاضر، أم تذهب في اتجاه الماضي لاستقرائه بلغة الحاضر، أم أنها معنية باستقصاء المستقبل، وإنتاج تصورات عنه؟. أم أنها خليطٌ من كل هذا وذاك؟. يرى محمد حسن أحمد؛ أحد أهم وأبرز كتّاب السيناريو في الإمارات العربية المتّحدة أن على السينما الإماراتية أن تقدّم قصصاً، تعكس المجتمع المعاصر والقضايا الواقعية التي تهمّ الناس العاديين، بدلاً من التركيز على الماضي القريب. وأضاف: أنه لا ضير في أن تتحدث النصوص والقصص السينمائية عن الماضي، ولكن على السينمائيين أن يستكشفوا ماضي الدولة، حتى ما قبل السنوات ال40 الماضية، ويبدعوا قصصاً نابعة من تاريخ الدولة، وإرثها. في هذا الصدد لم تحضر الثورات العربية في مهرجان الخليج السينمائي الخامس إلا على استحياء، يحمل المهرجان اسم منطقة لم تشهد ثورات، وجاءت أغلب أفلام هذه المنطقة لتبحث في شؤون الناس العاديين متوسلة أن في تلك الشؤون حكايات تستحق الحضور عبر الضوء السينمائي، فكانت “القمبوعة” حاضرة عبر أحد الأفلام القصيرة، والقمبوعة هي كرة الشعر التي تعتلي رؤوس النساء الخليجيات، يعتبرها البعض هناك مأزقاً ومشكلة. و“ثورة القمبوعة” فيلم وثائقي أخرجه الطالب عبد الرحمن المدني، استخدم اللقاءات المباشرة والدلالة للظاهرة ونقلها للمشاهد، بدأ الفيلم برسوم متحركة لشخصيات كرتونية تمثل الفتاة الإماراتية، مرتدية الشيلة وتحتها القمبوعة، وسار سياقه في مناقشة الظاهرة والتعرف على الأسباب في انتشارها، فحضر التأويل الديني لتحريمها منذ البداية، وكان هذا بمثابة إعلان حكم ضدها، وهو ما أوحى أنها قضية خطيرة تستوجب التجريم، ثمَّ لم يقدم الفيلم تفاصيل ذات دلالات وإشارات ثقافية من شأنها إطلاق التفكير والتفسير في ثقافة المجتمع الإماراتي والاقتراب من سمات هذه الثقافة، مع ذلك فاز هذا الفيلم بجائزة. لم تجد “ثورات الربيع العربي” مساحة كافية لها على شاشات مهرجان الخليج في دورته الخامسة، ولا حتى في ندوات وحلقات ونقاشات المهرجان، بعكس المتوقع تماماً، وبرغم أنها حظيت بمساحات كبيرة في بقية المهرجانات ليس على المستوى العربي فحسب، بل وعلى المستوى الإقليمي، والأكثر إثارة للاستغراب أن سينمائيي تونس لم يحضروا، وحضر سينمائيو مصر بأفلام قليلة، كان أجملها الفيلم القصير “الحساب” للمخرج الشاب عمر خالد، الذي لم يطرق فيلمه باب الثورة من أي اتجاه، لكن النقاشات التي دارت حول الفيلم بعد عرضه جلبت ثورة 25 يناير لتتحدث عنها كضرورة اجتماعية وتاريخية أكَّدها الفيلم الذي اقترب من حياة المقهورين والمسحوقين في الأحياء الشعبية، والحارات الفقيرة من مدن مصر، واتجه إلى مقاربة أزماتهم النفسية، وتعرضهم للإذلال والقهر اليومي وفق التراتبية التي صنعتها أقدارهم ومواقعهم. كانت العلاقة بين الشعوب والثقافات، أو لنقل العلاقة مع الآخر، هي أكثر المراكز التي دارت حولها أفلام النسخة الخامسة من مهرجان الخليج، وهذا ما عبر عنه وبقوة فيلم الافتتاح الروائي الكويتي الطويل “تورا بورا” بموضوعه عن الإرهاب وغسل عقول المراهقين والدفع بهم إلى تنفيذ عمليات انتحارية ضد أهداف مدنية بينها مدارس الأطفال. يبدو أن انشغال غالبية الأفلام المشاركة في هذه الدورة من المهرجان -والدورات السابقة أيضاً- بقضية التعرف إلى الآخر وضرورة التعايش معه؛ أمر فرضته عدة عوامل بينها الوجود الكبير لمختلف الجنسيات والأقوام في هذه المنطقة التي يجذب نفطها والحراك الاقتصادي لمدنها البشر من كل مكان للعمل وتوفير ثروات صغيرة، وأحياناً كبيرة، للمستقبل، وهو ما يفترض أن يجعلها منطقة تنوع حضاري وثقافي، لكن الإشكالية تكمن في أن كل أولئك البشر يأتون إليها ليقيموا مؤقتاً ويذهبون بما أمكنهم توفيره، بعضهم يعود إلى وطنه، وبعضهم يتجه إلى مناطق أخرى حيث يجدون لأرواحهم أمكنة مؤثثة بأشياء أخرى لم تتوفر هناك، في الخليج توجد كل جنسيات العالم، لكن كل هذه الجنسيات لم تختلط مع بعضها، ولم تقم بتشكيل هوية جديدة للأمكنة، أو أنها فعلت ذلك، لكنها هويات عابرة، لا تهتم بالروح مثلما تهتم بالمال وما يمكن أن يمنحه للحياة، هكذا إذاً تأتي المحاولات الإنسانية والإبداعية لصناعة أثر وهوية لائقة بالمكان غير مكتملة، ويشوبها الكثير من النقص والارتباك، ومع ذلك تغيب عنها أمور كثيرة، مثلاً لم يجد المتابعون بين الأفلام التي عرضت في المهرجان عملاً بصرياً يأتي على حياة العمال الأجانب في المنطقة، تساءل أحد النقاد الخليجيين في انفعال: “أقبل أن أشاهد فيلماً يحكي عن القمبوعة، لكن لا أقبل غياب أعمالٍ عن حياة العمال البائسين، تمنيت أن أرى فيلماً عن مأساة شغالة من تلك القصص التي نسمع ونقرأ عنها كثيراً”، كان استغرابه برغم بساطته جديراً بالانتباه، لكنه ضاع في زحمة أمور أخرى. ما تمرُّ به المنطقة من أحداث عاصفة ألقى بظلاله أيضاً على الأعمال السينمائية الجديدة، وباستمرار الحديث عن قضية العلاقة مع الآخر؛ فإن وضع المنطقة الحالي جعل عديداً من الأفلام يبحث في هذا الشأن من زاوية محاولة إيصال رسائل مختلفة عمَّا هو سائد، هنالك محاولات للتأكيد على أن هذه الشعوب تستحق حياة أفضل، وأنها جديرة بالانتماء إلى روح العصر، يريد الفيلم الروائي القصير “رأس الغنم” لجمعة السهلي محاكمة ثقافة متأصلة في مجتمعات المنطقة تحتقر الإنسانية، وتحيل المرأة إلى كائن دوني يساويها بالحيوان، لا تجد لحياتها متنفساً، ولا وضعاً يليق بآدميتها، فتقع بين قهر أسرتها وزوجها ضحية لا ذنب لها سوى أنها امرأة، يظهر الأخ الأصغر للفتاة التي تتمحور حولها القصة كشخصية ذكورية رافضة لهذا الواقع، لكنها شخصية عديمة الحيلة، إنها محاولة للتأكيد على أن ثمة من يرفض هذا الوضع، ويحاول التأكيد على أن ثمة رغبة في التغيير، وأن ثمة محاولة للانتماء إلى الحرية والإنسانية بشكلها الحضاري، ليس من الضحايا فقط، بل ومن أطراف أخرى يفترض أنها ستقف في موقع الجلاد، لكنها تختار ما يليق بإنسانيتها. في فيلم “أمل” للإماراتية نجوم الغانم، والذي فاز بإحدى الجوائز في مسابقة الفيلم الطويل، أرادت المخرجة أن تصل إلى مفهوم الاغتراب الفني، أو الاغتراب الذي يعانيه الفنان عند مغادرته البلد والمجتمع اللذين قدم فيهما نفسه، وارتبط بثقافتها ومكوناتها، حيث لا يجد في موضع اغترابه نفسه إلا إنساناً مجرداً من إمكاناته الفنية، وقدراته الإبداعية، بحثت عمَّا عانته هي كشاعرة وفنانة في الولاياتالمتحدة، حيث كانت مبتعثة للدراسة، بما عانته الفنانة السورية أمل الخوجة التي انتقلت إلى الإمارات فانقطعت عن تاريخها الفني الحافل بالكثير من الأفلام والمسلسلات والمسرحيات ومسلسلات الأطفال، وحينما قررت العودة إلى سوريا بعد أن ارتبطت حياتها بأبو ظبي بشدة، علها تستعيد في بلدها ما خسرته في الغربة، لكن “الثورة” جاءت، وجاء معها العنف والقمع والقتل، فعادت أمل إلى الإمارات مجدداً. يحاول سينمائيو المنطقة الكثير من الأشياء، يبحثون عن طريق ضوئي إلى العالم الآخر وإلى المستقبل، يبدو ذلك أمراً جديراً بالمحاولة، وأجدر بالنجاح، لكنه يحتاج أكثر من الرغبة في فتح تلك الطريق، ثمة ما هو أهم، ذلك هو الإخلاص للفن والإبداع، لا يكفي أن تكون المحاولات إنسانية وصادقة، هي قبل ذلك تحتاج إلى روح الفن والفنان معاً، بعيداً عن الوعظ، وعن الحماس والانفعالات، يحتاج الفن إلى أدوات إبداعية تجعل الفن فناً بامتياز قبل كلِّ شيء، وبين تلك الأدوات ثمة أداة مهمة خاصة بالتقاط الفكرة، واختيار الموضوع في تفاصيله وجزئياته الصغيرة.