كل شيء في تلك القرية التي أدمنت صلبها على حافة ذلك الجرف العظيم بدا مختلفاً يومها. صباحها الذي لم يكن ككل الصباحات، شمسها المتوارية الذابلة، سماؤها المتأوهة المثقلة ، عيون نوافذها المضمخة بنذر مموهة، وضباب كثيف قد استلقى يخالج دورها، أزقتها، مرابض حيواناتها. وأما الريح فقد التزمت يومها ومنذ ساعات الفجر الأولى مقدوحة العواء. ومن هناك.. تلوح حركة مريبة، تدب في أرجاء القرية. ومن أعلى سطوح المنازل تطل رؤوس وتنزلق رؤوس، واردية تتخطف حركتها الخفاشية ضبابات الطريق، فرادى تشق سبيلها لتلتئم كتلة سوداء على عتبة باب موصد. وهناك على الصخرة المغروسة أبدا أعلى الأكمة بجوار الكريف، قبعت تلتف رداء ترابياً حائلاً، وفي حجرها إضبارة مشاقر امرأة باهتة الخطوط إلا من نظرة متحجرة قد تعلقت أقصى طرف الطريق الترابي شديد الانحدار. ومن أقصى طرف الطريق البعيدة عنت نذر حركة خافتة. علا وميض رعبها، اتسعت أحداقها، تجلى لها هاجسها القديم. وفي لمح البصر تذكرت: طفولته المختلفة، وكيف زفت إليها براءته خبر زواج والده، وكيف انتزعوه منها، وكيف أصبح بعدها للحياة لوناً مختلفاً. رويداً يزحفون، على أكتافهم كان، وملاءة خضراء تتراءى من بعيد. يعلو عواء الريح، تبزغ النسوة، تتبعها العجائز، يتداعى الشيوخ، الصبية....خلت الدور، وأشرعت المرابض أبوابها. تحلقت الخراف ، النسور، وانتبذت الكلاب مكاناً قصيا. ومن أعلى الأكمة تداعت.... بالكاد تسعفها خطاها. تحاول الاقتراب، يدفعها الزحام بعيداً.. لم يكن يوماً لها!! وفي غفلة تنسل آخذة طريقها إليه. لم يلتفت إليها أحد، لم يأخذ بيدها أحد!! يكشفون عن وجهه، وبرباطة جأش تقترب، تضع حول وجه الفتي حزمة المشاقر ، وقبل أن تقتنص فرصة الخلو إليه لمحادثته يعاود الزحام، يدفعها الاكتظاظ بعيداً خلف الصفوف. تصرخ النسوة معلنة العويل، تولول العجائز.. لم تذرف دمعة واحدة!! شرعوا ينزعون غطاء الحفرة المعدة سلفاً، وبرفق أمالوه. بصمت ظلت ترقب، كانت تعلم أنه أكبر من حفرتهم. وعلى الفور ارتفعت معاول وانهالت معاول. وبرفق أنزلوه، وسدوه، أهالوا التراب عليه. تلوا تعاويذهم، رددوا أورادهم، قرأوا بعض سور القرآن، ختموا ببعض الأدعية. علت الشمس، توسطت كبد السماء، انصرف الشيخ، تلته جماعة وجماعة وجماعة. خلال المكان من الأحياء. الآن فقط صار لها، صار بإمكانها الانفراد به. بثته أشواقها وعتبها، وأمنيتها الخبيئة التي لم يسعف اللقاء لأن تحدثه بها. أذنت الشمس بالمغيب، دنا الليل وأنذر بالهبوط الكثيف. أسرعت تهمس إليه بسرها الذي ما عاد بالإمكان كتمانه. بكت كأن لم تبك قبلاً، لزمت مكانها، أبت إلا أن تؤنس وحشته ليلتها. ألقت السماء بأحمالها!! تركت الكلاب أماكنها القصية، اقترب العواء ، تكاثر، تعالى مؤزراً بصوت غريب تجاوبت أصداءه أرجاء القرية. وفي صبيحة اليوم التالي، هرع الجميع يتفقدون قبور الأحبة وما فعلت أمطار البارحة. وجدوا القبور على حالها، أحجارها المصفوفة، شواهدها المنصوبة، غير أن بقايا عظام ناحلة معفرة، ومزق من رداء ترابي حائل كانت بجوار قبر البارحة. تمت 2011م