وبددت فرص كبيرة لتحقيق نهوض تنموي حقيقي كما عرف اليمن تجارب إيجابية حوارية حدت من تفاقم الصراعات، لكن الحوار الوطني المرتقب يمثل حقا للشعب من أجل بناء يمن جديد ومجتمع سليم في ظل الوحدة والديمقراطية تحرسهما دولة ضامنة لحقوق الإنسان.. واليمن الآن أمامه فرصة تاريخية يجب اقتناصها والاستفادة من تجارب الماضي الإيجابية وتجنب السلبية منها والأخذ بأدوات جديدة وفاعلة تفضي بالحوار الوطني الشامل إلى بناء مستقبل أفضل يحفظ لليمنيين كرامتهم ويؤمن للشعب سبل التقدم والرفاه. شهد الوطن طيلة العقود الماضية صراعات و احتقانات استنزفت قواه ولكي يدرك الناس أهمية الحوار الوطني لإخراج اليمن من أزمته الراهنة وعبور المرحلة الانتقالية بنجاح لابد من تسليط الضوء على محطات وزوايا من مجرى تاريخ الحركة الثورية اليمني منذ 26سبتمبر عام 1962م وما تمخضت عنها من أحداث تغييرية ونظرة العالم إلى حدث انفجار ثورة سبتمبر ذاته في جزء هام وحساس من العالم؛ لأن انفجار ثورة 26سبتمبر في الشمال يؤدي بالحتمية التاريخية إلى تحرر الشطر الجنوبي من الاستعمار البريطاني وبهذا يصبح اليمن من التغييرات الهامة في مجرى السياسة الدولية؛ لأن اليمن الطبيعية تحتل موقعاً استراتيجياً وتطل على البحر الأحمر ومضيق باب المندب من جهة ومتاخمة لمناطق الطاقة من جهة أخرى، وهذه الأهمية تزايدت بفعل متغيرات متتالية ظلت اليمن تقاوم تأثيراتها السلبية، لكنها عاشت صراعات متعاقبة واضطرابات ولم تكن بمنأى عن التأثير الخارجي. تحديات كبيرة فالنظام الجمهوري في صنعاء اعترضته تحديات كبيرة تمثلت في ثورة مضادة لقيت من يدعمها من الخارج بهدف تقليم أظافر ثورة 26سبتمبر ودام الصراع بين الجمهوريين والملكيين ثماني سنوات ولم يتمكن اليمنيون من أن يصنعوا دولة مؤسسات وتنمية تجسد قوة حركة التغيير وتأثرت الأحزاب والحركات ذات الامتداد الخارجي بصراعات النظام الإقليمي كحركة القوميين العرب الأقرب إلى الناصرية والبعث المتأثر بصراعات بغداد ودمشق من جهة ومع الناصرية من جهة ثانية وكانت الثورة السبتمبرية انفراجة لكل طموح مشروع وغير مشروع حسب قول أديب اليمن وشاعرها العظيم عبدالله البردوني. الحكومات المتعاقبة وما أكثرها! كانت تعالج المواقف الصعبة بأن تتشكل هذه الحكومة أو تلك حيناً على أساس تنظيمي وحيناً على أساس طائفي، وكانت الديمقراطية نبتة غريبة، والتعددية قائمة عملياً وغير منظمة قانونياً. مؤتمرات شعبية وفئوية أما الحوار كوسيلة مثلى لإدارة الخلافات فكان يأتي في شكل مؤتمرات شعبية وفئوية.. وضمت ثائرين مسلحين ضد العسكرية المصرية مع ارتباط بقمة النظام المرتبط بها وكان المثقفون حاضرين في مؤتمر عمرات 1964م ومؤتمر خمر1965م ثم مؤتمر الجند عام 1966 وكلها كانت تستهدف وضع صيغة للنظام وتحديد العلاقة مع الوجود العسكري المصري المناصر للثورة اليمنية فاشتدت هجمات الملكيين على النظام الجمهوري وبحدوث انقلاب 5نوفمبر 1967م لم يتوقف الصراع أو يلتقي الفرقاء على مقومات لمشروع حضاري يبنى به اليمن المنشود. حوار الجنوب وفي جنوب الوطن كانت الثورة الأكتوبرية تهز الأرض من تحت أقدام الاستعمار.. أربع سنوات والصراع قائم بين قوى الثورة وقد جرى حوار بين الجبهة القومية وجبهة التحرير ونتج عنه دمج الجبهتين عام 1965م وتجسيد الوحدة الوطنية وبعد عام انسلخت القومية وبعد تحقيق الاستقلال في 30نوفمبر 1967م ظهر الحديث عن أعداء للثورة وثورة مضادة و مفاهيم: تقدمي ورجعي وينسب للرئيس السابق سالم ربيع علي قوله عن صعوبة الحوار لتوحيد قوى الثورة أنه كان أطول حوار في أصغر بلد. في الشمال انتصرت الثورة على فلول الملكية وكسرت حصار صنعاء ولم يتحقق الاستقرار السياسي وعُقد مؤتمر القوات المسلحة عام 1969م بهدف صياغة مشروع للإصلاح وجاءت المصالحة مع الملكيين وصياغة دستور دائم عام 1970م. هشاشة النظام كانت هي السائدة والفساد متجذر وجاءت حرب عام 1972م مع الشطر الجنوبي لفتح باب الحوار بين قيادات ومسئولي الشطرين من أجل إعادة تحقيق الوحدة اليمنية وتوالت لقاءات القمة وتوسعت اللجان والهيئات وتعددت العواصم والمدن التي احتضنت هذه اللقاءات من القاهرة وطرابلس الغرب والجزائر وتعز وعدنوصنعاءوالكويت. ثمانية عشر عاماً من النقاشات والحوارات والنجاح والتعثر من أجل الوحدة وكيفية تحقيقها وتنظيم مؤسساتها عبر خطى متدرجة. أحداث دموية الوحدة والديمقراطية وشعارات مرتبطة بهما تعالت بعد حدثين دمويين في عامي 77و1978م بمقتل الشهيد ابراهيم الحمدي وخلفه أحمد حسين الغشمي وفي الجنوب اغتيل الرئيس سالم ربيع علي ...الانقلابات وحضور أداتها العسكرية والمؤامرات ميزت عقد السبعينيات من القرن العشرين؛ ولأن الوضع ازداد قتامة في اليمن ففي المناطق الوسطى نشاط عسكري ضد نظام صنعاء مدعوم من نظام عدن تصفه وسائل اعلامية دولية بأنه حرب أهلية صعبت على القوات النظامية قمع الجبهة الوطنية وتنامت الأحقاد والكراهية بوجود جيش شعبي في مناطق الجبهة الوطنية وجاءت حرب 1979م التي أفضت للقاء قمة الكويت بين الرئيسين علي عبدالله صالح وعبدالفتاح اسماعيل والذي ضم إليه ممثل الجبهة الوطنية بعد تفاهمات لإنهاء العمل المسلح ضد حكومة صنعاء واتفق في قمة الكويت على تكليف لجنة لصياغة مشروع دستور لدولة الوحدة، كما دارت عجلة حوار وطني في الشمال لصياغة نظرية سياسية تحكم العمل السياسي وهو ما كان قد تقرر في قمة عام 1972م بين قيادتي الشطرين لإنشاء تنظيم سياسي في صنعاء فجاء تأسيس المؤتمر الشعبي العام في 24أغسطس 1982م نظيرا للحزب الاشتراكي اليمني في عدن. رغم أن اليمن شهدت حواراً مفتوحاً بشأن الإعداد لوضع الدستور الدائم عام 1970م فقد تمت تلك الحوارات والاجتماعات لمختلف الفئات خلال ثلاثة أشهر في كل من صنعاء والمدن والقرى، تحاور فيها المواطنون وتبادلوا الرأي ووجهات النظر، ولكن هذا الدستور حرم الأحزاب وهذا يعكس أجواء الحوار الذي امتد ثلاثة شهور منذ إعلان مشروع الدستور في ليلة 26سبتمبر عام 1970م ثم أنه كغيره من الدساتير الموقتة والدائمة والإعلانات الدستورية التي سبقته لم يطبق وكان كل واحد منها انعكاسا للقوى المهيمنة في وقت إعداده أو لأن اليمن كانت حسب بعض الكتابات دائماً تعيش نوعاً من التوازن التي تمنع سيطرة قوة بعينها. الميثاق الوطني أما الحوار الوطني الذي انبثق عنه “الميثاق الوطني” فقد مثل أطول عملية حوارية في الشمال بدأت بتشكيل لجنة ضمت مختلف القدرات والكفاءات الوطنية من مجلس الشعب التأسيسي ومن خارجه تفرع عنها عدد من اللجان ضمت بدورها ذوي الاختصاص وأقيمت الندوات واللقاءات والنقاشات تمخض عنها مشروع الميثاق الوطني وقُدم إلى المجلس الاستشاري لمناقشته وقد أثري بنقاشات وملاحظات جعلته مشروعاً أشمل، ولهدف الوصول إلى مشروع أكثر شمولاً طرح للنقاش في اجتماع لمجلس الوزراء ومجلس الشورى وضم الاجتماع الموسع محافظي المحافظات والمسئولين العسكريين والمدنيين وقيادات شعبية وتم التصويت على المشروع من قبل الجميع بأن يعرض على الشعب، وتلك من ملامح النهج الديمقراطي التي أخذ مكانها في وضع يسوده القلق والتوتر السياسي. المرحلة الثانية تمثلت في تشكيل لجنة الحوار الوطني وعرض مشروع الميثاق على الشعب وتشكلت لجنة الحوار الوطني من خمسين عضواً من كافة الفئات والقوى والتيارات بما في ذلك اثنان من قيادات الجبهة الوطنية التي مدت يدها للسلطة. تركزت مهمة لجنة الحوار على النزول بمشروع الميثاق إلى المواطنين لشرحه لهم وتفسير ما يرونه بحاجة إلى تفسير وتتبادل معهم الرأي في إطار العملية الحوارية الواسعة وقامت اللجنة بعرض المشروع على الشعب باعتباره صاحب المصلحة العليا في تقرير شئون حياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. مهمة لجنة الحوار الوطني استغرقت في مهمتها نحو عامين وجاءت نتيجة استبيان رأي الشعب وعادت استمارات الاستبيان بعد أن أدلى المواطنون بآرائهم إلى لجنة الحوار الوطني وقامت اللجنة بفرزها وتصنيفها وتفريغها إلى مجالاتها وأبوابها وعلى ضوئها أعادت صياغة مشروع الميثاق الوطني، ثم جاءت مرحلة اقرار الميثاق الوطني من قبل المؤتمر الشعبي العام الذي تشكل بالقرار رقم “19” لسنة 1980م وحدد القرار الرئاسي عدد أعضائه ب10آلاف عضو 700منتخبون من أبناء الشعب و30 % بالتعيين من قبل الدولة ومهمتهم مراجعة مشروع الميثاق في ضوء نتائج الاستبيان واقراره في صيغته النهائية وتحديد أسلوب العمل لتطبيقه. وانعقد المؤتمر الشعبي العام الأول في العاصمة صنعاء في الفترة من 2429 أغسطس عام 1982م واتخذ قرارات هامة بمقاييس تلك الفترة حيث أقر الميثاق الوطني بالإجماع باعتباره المنهج الفكري للعمل الوطني في شتى المجالات وفي إطاره تتحدد برامج العمل السياسي ومعالم الطريق للمستقبل في ظل النظام السائد الذي وصفه الدارسون بعد هذا الإنجاز بأنه تأسيس للممارسة الديمقراطية. وأقر المؤتمرون التزامهم بالميثاق دليلاً نظرياً نصاً وروحاً ومتابعة تطبيقه في نطاق مسئولياتهم. كما أكدوا أهمية التزام جميع الأجهزة الحكومية والمؤسسات والهيئات العامة والشعبية وجميع المواطنين بتطبيق الميثاق الوطني. وأقر المؤتمرون بقاء المؤتمر الشعبي العام بتكويناته المختلفة واستمراريته كأسلوب للعمل السياسي يسعى لتطبيق مضامين الميثاق الوطني في مرحلة ما بعد إقراره حاضراً ومستقبلاً. الميثاق الوطني وكذلك الدستور الدائم ارتكزا على حكومة مقيدة حيث يحق للمجلس الاستشاري سحب الثقة من الحكومة كما جاء منسجماً في خصائصه مع الدستور الدائم. مشروع دولة الوحدة في 30نوفمبر 1989م توجت مراحل سابقة على الحوار بين الشطرين من أجل إعادة تحقيق الوحدة بالاتفاق على مشروع دستور دولة الوحدة بين قيادتي الشطرين والحزبين الحاكمين في صنعاءوعدن وذلك إيذاناً بقرب إعلان الوحدة التي أعلنت في 22مايو 1990م في عدن برفع علم الجمهورية اليمنية من قبل الزعيمين علي عبدالله صالح وعلي سالم البيض. لقد تحققت الوحدة الاندماجية بين الشطرين وتقاسم الحزبان المؤتمر والاشتراكي السلطة ولكن لم يتحقق الاندماج الفكري والعسكري. وهو ما يعتبره الخبراء والفرقاء في الأزمة الراهنة وأحداثها السابقة نتيجة لخلل في جوهره لأن الحوار الذي أفضى لتحقيق هذا الإنجاز العظيم لم يستند إلى أرضية وطنية واسعة وشراكة وطنية كاملة بإمكان مختلف القوى السياسية والفعاليات والشخصيات الوطنية من خارج شركاء الوحدة إبداء الرأي وبذل الجهد لترسيخ الوحدة الوطنية وصياغة رؤية متكاملة للدولة الناشئة ل50سنة على الأكثر تضمن تجذير الديمقراطية ومؤسسات الدولة ومبدأ التداول السلمي للسلطة وبناء نظام سياسي اجتماعي واقتصادي متوازن يسمح بإحداث تغيير جذري في حياة اليمن. ولذلك طبعت الفترة الانتقالية لدولة الوحدة بطابع التأزيم وكان لابد من حوار جاد تشترك فيه قوى جديدة وشخصيات اجتماعية وأكاديمية ذات وزن.. فكان الحوار في الداخل ببعده الاجتماعي إما محدوداً أو لم يخضع للقياس ثم التقى شركاء العمل السياسي على طاولة الحوار في العاصمة الأردنية عمان وسط متغيرات اقليمية ودولية وتزايد الأعباء على الاقتصاد الوطني وحظي الحوار بين اليمنيين كالعادة باهتمام عالمي واسع وتم الاتفاق على بنود مهمة في وثيقة العهد والاتفاق كان من المفترض أن تؤدي إضافات جديدة ترتقي بصيغة الحكم وتنقية الأجواء الديمقراطية وتفعيل ميكانزيمات الخيار الديمقراطي الذي جاء مع الوحدة مرتبطاً بها ارتباطاً عضوياُ وفوق هذا وذاك إعادة انتشار وتمركز القوات المسلحة وغير ذلك. وكان لعدم دمج القوات المسلحة والمؤسسة الأمنية أثر في استمرار الأزمة التي أدت إلى حرب صيف 1994م بما أدت إليه من هزيمة نفسية لدى الإنسان اليمني الذي ظن بأن الوحدة كثمرة لجهود وطنية كبيرة وحوار سلمي ستتجدد شعاراتها باعتبارها مصدر عزة وكرامة لليمنيين وللأمة العربية وأنها قد أوجدت مؤسسات قادرة على فتح الباب واسعاً لتحقيق تنمية شاملة ومتوازنة ومتكافئة وحراك سياسي، اجتماعي، اقتصادي هائل.