سلسلة مقالات وجدانية للكاتبة والخبيرة في التنمية البشرية المدربة الدولية عائشة الصلاحي عن مؤلفها النوعي الصادر حديثاً (فارس النور)، من إصدارات مجلة نجاح المتخصصة في التنمية البشرية والعلوم الإدارية. في طريق غارق بالسيول يدرك من على الجانبين أن عليهم العبور في لحظة ما للوصول إلى ما يريدون على الضفة الأخرى، ولو تحاشوا العبور في هذه النقطة فلا بد سيضطرون إلى العبور في تلك.. إذن في النهاية لا بد من العبور والخوض في الماء الجاري.. هنا يتفاوت الناس في أفعالهم فهناك من يغلبه خوف البلل ورهبة الخوض في السيل الجاري فيتنازل عما يريد حتى لا يضطر للعبور.. ومنهم من يتعجل العبور في سرعة لا تخلو من تهور غير محسوب العواقب، فيغرق في الماء إلى نصف ساقيه. بين أولئك وهؤلاء نفهم كيف تحسب نتائج قراراتنا.. فحين ترى هذين الصنفين يلفت نظرك صنف آخر ثالث يتفنن في القفز هنا وهناك حتى إذا وجد تلك المنطقة المناسبة التي تقل فيها المياه إلى أدنى مستوى خاض فيها بأقل مقدار ممكن من البلل، ففي الصنف الأول نرى التقاعس والجبن بأوضح صوره إذ لم تكن دافعيتهم ترقى إلى مستوى الاقتحام فكم هناك من أمثالهم الذين تعللوا بمصاعب الحياة حتى يتخلوا عن أحلامهم وآمالهم، وكم من أناس من ناحية أخرى فهموا الهمة بطريقة خاطئة فكانوا على النقيض من الصنف السابق فألقوا بأنفسهم بلا تخطيط ولا تدبير وهم يظنون أن هذا هو الإقدام المطلوب فخسروا أكثر مما ربحوا ودفعوا أكثر مما ينبغي.. كانت نظرتهم قاصرة جداً، إذ لم يكن يهمهم إلا العبور فقط.. اشتغلوا بالربحية الآنية عن المقصد البعيد الذي لأجله يجهد العاملون.. خسروا حين لم يكونوا ليخسروا ولو تمهلوا قليلاً لكان خيراً لهم. الصنف الثالث كانوا الأقل لكنهم الأحكم، لقد وصلوا إلى ما يريدون مع كثير أو قليل من المرونة والتأني والتدبير الذي سبب لهم القليل من التأخير لكنه قلّل عليهم الثمن المدفوع وزاد لهم الجودة المطلوبة في العبور. المعنى أكبر وأهم بكثير من سيل نخاف فيه البلل لكنها صورة نراها في يومنا الاعتيادي.. صورة تنقل المرء بعمق التأمل إلى اختلاف الناس في التعامل مع أمانيهم وأحلامهم ورغباتهم، ولئن كنا قد تحدثنا للذين يتقهقرون دوماً أمام تحديات حياتهم فاليوم نخاطب الذين يدفعون دوماً بالمجان وشعارهم (التضحية بلا حدود). المعنى الجوهري ها هنا هو أنه لا بد أن يعبر الجميع في هذه الحياة من مكان إلى آخر ومن ضفة إلى أخرى لأجل ما يريدون ولأجل رغباتهم الملحة من حين لآخر.. هذه سنة الحياة، فلا بد لأحد أحلامك أن يكون على الضفة الأخرى وأن تناله بسهولة وأن لا تأتي إليك من تلقاء نفسه وهكذا أراد الله أن تكون الحياة ممتنعة بسور من الكد والبذل والعناء. وحين العبور عليك أن تقرر كم ستربح وكم ستبذل.. وها هنا التحدي الحقيقي في وزن الأمور، فكثير هم من حولنا ممن وصلوا إلى ما يريدون دفعوا بلا حساب منطقي، فهل نسمي ما وصلوا إليه – مهما كان – نجاحاً؟! فهذا وصل للمكان المرموق في المجتمع ولكن خسر صحته وعائلته والهدوء الداخلي لنفسه، وذاك وصل للمال ولكن خسر مبادئه وزهرة عفافه.. وآخر وصل للمستوى العلمي الراقي، وأصبح المرجع في تخصصه ويشار إليه بالبنان، ولكنه لم يلحظ أنه أصبح مبتور العلاقات الاجتماعية، وفاقد لشفافية روحه المحبة الرقيقة، إذ أنه أصبح جاداً أكثر من الجد نفسه.. وذاك الذي ضحى حين لم تطلب منه التضحية، وبذل البرتقالة التي يحب لمن لا يريد إلا قشرتها فقط. نطالبك بالعبور الشجاع لكن لم يطالبك أحد بالبذل الرخيص الذي لا يجنى من ورائه ربح يعادله.. نقصد تلك المنحة التي تُرمى على الرغم من غلاوتها على عتبات ما لا يستحق.. بل وأيضاً من لا يُقدر. اسأل نفسك دوماً بعد كل قرار ومع كل فعل أقدمت عليه.. ترى هل كان يستحق كل ذلك العناء والألم والوقت الذي بذلته له، أم كان هناك شيء أفضل يمكن عمله..؟ ارهف حواسك وفكر جيداً، هل كان يجب أن تخسر ما خسرته أم هناك طريق أفضل حتى وإن كان أطول وأصعب على هوى نفسك؟.. فلقد تفاجأ الباحثون حين اكتشفوا بأن 90% من حالات الإصابة البالغة التي أورثت عاهات دائمة عند اللاعبين البارزين في كرة القدم حدثت بسبب لا مبالاة اللاعبين عند تسجيل الأهداف أو اعتراض الكرات المهمة.. وكان يمكن تجنبها بقليل من الاهتمام والحرص. لربما لا نستطيع إعادة ما خسرناه في الماضي لكن لا بد من التوقف عن الخسارة لا بد أن اربح وأحاول أن يربح غيري.. المهم أن لا أبذل الخسارة مرة تلو الأخرى، وأنا مستمتع بدور المضحي بالمجان.. فهذا فهم خاطئ سطحي ومثالي أكثر من الحد المطلوب.. فلا تندفع لهذه الأفكار المستنزِفة لنفسك وطاقتك وحياتك.. تريث وفكَّر، هل يجب أن تدفع كل ما تدفعه وكل ما ستدفعه احسبها حسبة تاجر ماهر.. ترى هل يستحق هذا الإنسان الذي أحببته كل هذه العاطفة والثقة والحرص الذي تبذله له مهما كان؟ ألا ترى أنه قد استولى على مساحات واسعة من نفسك وروحك أكثر مما يلزم حتى إنك لا تسمح لنفسك بالتعامل معه كما تتعامل مع البشر، وكأنه أصبح من غايات خلقك في هذه الأرض، فلا تغضب ولا تعاتب ولا تحاسب مهما فعل وتعتبر ذلك من التضحية والعفو و(الذلة للمؤمنين).. وهكذا في ذلك العمل حيث أصبحت ترى نفسك تُستنزف يوماً بعد يوم.. ولكن لا بد أن تضحي لأجل كذا وكذا وتظل تضغط وتضغط على نفسك بمثُل خاطئة ومغلوطة.. وذاك تحمل زواجاً فاشلاً بكل المعايير لأجل الأهل والناس وووووو.. والعذر الصبر والاحتساب.. وكم من طالب أهدر أحلى أيام حياته في تخصص هو لا يحبه، وضاقت به نفسه وراح يتجرعه علقماً سنة وراء سنة، وحين تنصحه بأن يضع حداً لهذه المعاناة ويتحول لما يريد، يتمتم باستسلام والمصاريف التي خسرتها؟ وأبي؟ وماذا سيقول عني الآخرون؟ وووووو.. ضغط هائل على النفس وروح تنطفئ يوماً بعد يوم وخسارة متزايدة، ومع ذلك هو مستمر لماذا؟. وكم هي الأمثلة التي نراها في حياتنا؟ تمضي عشر سنين.. خمس عشرة سنة.. من المعاناة وبعد ذلك لا شيء!! هو صابر ومضحٍ يا لها من نظرية معوجة لقتل العمل وهدر الذات الغالية والبعض قد يعتد بالصبر.. أهكذا أراد الله لنا أن نظل في المعاناة والاستنزاف؟! حاشا لله أن يكون هذا ما أمرنا الله به. عاش يحيى عياش حياة أساسها التضحية والبذل للروح من أجل الرسالة السامية للجهاد من أجل الوطن، ومع أنه عاش لأكثر من عشر سنوات وهو المطارد رقم 1 من كل الأجهزة الأمنية المعادية، إلا أنه عاش رابحاً ولم يألوا جهداً في إرباح نفسه زوجة وأبناء وعلماً وإنجازات.. لقد أدار معركته بأقل خسائر ممكنة، إنها معايير الربح والاستعلاء التي يؤمن بها المتألق في الحياة.. حين سئُل عما يجعله صاعداً مهما أحاطت به الكروب والصعاب.. رد بثقته وحكمته الراسخة: «إنني لا أقدم شيئاً بالمجان ولا أخطو خطوة وإلا وأحسب أرباحها وخسارتها.. لقد آليت على نفسي أمام ربي أن لا أعيش حياة أتمنى فيها الموت في كل لحظة، وأن لا أموت ميتة رخيصة لا تربح بها أمتي ورسالتي.. سأعيش رابحاً وأموت غالياً لكن بعد أن أكبد عدوي ألف خسارة تليق بي». إنها عزيمة العاقل الماهر.. وأخيراً، عند العبور تذكر أن بذل الجهد هو المطلوب في الحياة، ولئن نفدت جهودك ولم تجد معبراً آمناً للعبور فلا تيأس، فهنا تتدخل إرادة الكريم للتفريج عن المضطر وستندهش حين يسخر لك ركوباً صالحاً للعبور، وبأقل خسارة ممكنة.. ستندهش إذ إن ما سيحصل لا تفسير له في معايير البشر لكنها جوائز المثابرين المجاهدين.. فهنيئاً لك.