نهائي دوري ابطال افريقيا .. التعادل يحسم لقاء الذهاب بين الاهلي المصري والترجي التونسي    هاري كاين يحقق الحذاء الذهبي    نافاس .. إشبيلية يرفض تجديد عقدي    نهائي نارى: الترجي والأهلي يتعادلان سلباً في مباراة الذهاب - من سيُتوج بطلاً؟    دعاء يريح الأعصاب.. ردده يطمئن بالك ويُشرح صدرك    بعضها تزرع في اليمن...الكشف عن 5 أعشاب تنشط الدورة الدموية وتمنع تجلط الدم    توقف الصرافات الآلية بصنعاء يُضاعف معاناة المواطنين في ظل ارتفاع الأسعار وشح السلع    الكشف عن أكثر من 200 مليون دولار يجنيها "الانتقالي الجنوبي" سنويًا من مثلث الجبايات بطرق "غير قانونية"    صحفي: صفقة من خلف الظهر لتمكين الحوثي في اليمن خطيئة كبرى وما حدث اليوم كارثة!    فرع الهجرة والجوازات بالحديدة يعلن عن طباعة الدفعة الجديدة من الجوازات    تعيين شاب "يمني" قائدا للشرطة في مدينة أمريكية    الوية العمالقة توجه رسالة نارية لمقاتلي الحوثي    "لا ميراث تحت حكم الحوثيين": قصة ناشطة تُجسد معاناة اليمنيين تحت سيطرة المليشيا.    دعوات تحريضية للاصطياد في الماء العكر .. تحذيرات للشرعية من تداعيات تفاقم الأوضاع بعدن !    جريمة لا تُغتفر: أب يزهق روح ابنه في إب بوحشية مستخدما الفأس!    وفاة ثلاثة أشخاص من أسرة واحدة في حادث مروري بمحافظة عمران (صور)    تقرير برلماني يكشف تنصل وزارة المالية بصنعاء عن توفير الاعتمادات المالية لطباعة الكتاب المدرسي    القبائل تُرسل رسالة قوية للحوثيين: مقتل قيادي بارز في عملية نوعية بالجوف    لحوثي يجبر أبناء الحديدة على القتال في حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل    صحة غزة: ارتفاع حصيلة شهداء الحرب إلى 35 ألفا و386 منذ 7 أكتوبر    وزارة الحج والعمرة السعودية تطلق حملة دولية لتوعية الحجاج    حملة رقابية على المطاعم بمدينة مأرب تضبط 156 مخالفة غذائية وصحية    التفاؤل رغم كآبة الواقع    الاستاذة جوهرة حمود تعزي رئيس اللجنة المركزية برحيل شقيقة    انهيار وشيك للبنوك التجارية في صنعاء.. وخبير اقتصادي يحذر: هذا ما سيحدث خلال الأيام القادمة    اسعار الفضة تصل الى أعلى مستوياتها منذ 2013    وفد اليمن يبحث مع الوكالة اليابانية تعزيز الشراكة التنموية والاقتصادية مميز    الإرياني: مليشيا الحوثي استخدمت المواقع الأثرية كمواقع عسكرية ومخازن أسلحة ومعتقلات للسياسيين    الجيش الأمريكي: لا إصابات باستهداف سفينة يونانية بصاروخ حوثي    الهيئة العامة للطيران المدني والأرصاد تصدر توضيحًا بشأن تحليق طائرة في سماء عدن    بمشاركة 110 دول.. أبو ظبي تحتضن غداً النسخة 37 لبطولة العالم للجودو    طائرة مدنية تحلق في اجواء عدن وتثير رعب السكان    توقيع اتفاقية بشأن تفويج الحجاج اليمنيين إلى السعودية عبر مطار صنعاء ومحافظات أخرى    أمريكا تمدد حالة الطوارئ المتعلقة باليمن للعام الثاني عشر بسبب استمرار اضطراب الأوضاع الداخلية مميز    فنانة خليجية ثريّة تدفع 8 ملايين دولار مقابل التقاط صورة مع بطل مسلسل ''المؤسس عثمان''    أثناء حفل زفاف.. حريق يلتهم منزل مواطن في إب وسط غياب أي دور للدفاع المدني    منذ أكثر من 40 يوما.. سائقو النقل الثقيل يواصلون اعتصامهم بالحديدة رفضا لممارسات المليشيات    في عيد ميلاده ال84.. فنانة مصرية تتذكر مشهدها المثير مع ''عادل إمام'' : كلت وشربت وحضنت وبوست!    حصانة القاضي عبد الوهاب قطران بين الانتهاك والتحليل    نادية يحيى تعتصم للمطالبة بحصتها من ورث والدها بعد ان اعيتها المطالبة والمتابعة    اكتشف قوة الذكر: سلاحك السري لتحقيق النجاح والسعادة    الهلال يُحافظ على سجله خالياً من الهزائم بتعادل مثير أمام النصر!    مدرب نادي رياضي بتعز يتعرض للاعتداء بعد مباراة    منظمة الشهيد جارالله عمر بصنعاء تنعي الرفيق المناضل رشاد ابوأصبع    تستضيفها باريس غداً بمشاركة 28 لاعباً ولاعبة من 15 دولة نجوم العالم يعلنون التحدي في أبوظبي إكستريم "4"    وباء يجتاح اليمن وإصابة 40 ألف شخص ووفاة المئات.. الأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر    تدشيين بازار تسويقي لمنتجات معيلات الأسر ضمن برنامج "استلحاق تعليم الفتاة"0    اختتام التدريب المشترك على مستوى المحافظة لأعضاء اللجان المجتمعية بالعاصمة عدن    اليونسكو تطلق دعوة لجمع البيانات بشأن الممتلكات الثقافية اليمنية المنهوبة والمهربة الى الخارج مميز    وصول دفعة الأمل العاشرة من مرضى سرطان الغدة الدرقية الى مصر للعلاج    ياراعيات الغنم ..في زمن الانتر نت و بالخير!.    تسجيل مئات الحالات يومياً بالكوليرا وتوقعات أممية بإصابة ربع مليون يمني    لماذا منعت مسرحيات الكاتب المصري الشرقاوي "الحسين ثائرآ"    افتتاح مسجد السيدة زينب يعيد للقاهرة مكانتها التاريخية    الامم المتحدة: 30 ألف حالة كوليرا في اليمن وتوقعات ان تصل الى ربع مليون بحلول سبتمبر مميز    في افتتاح مسجد السيدة زينب.. السيسي: أهل بيت الرسول وجدوا الأمن والأمان بمصر(صور)    دموع "صنعاء القديمة"    هناك في العرب هشام بن عمرو !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بيروت.. أيقونة المدن النازفة
الشعب والدولة ضَيْفان و الطائفة ربُّ المنزل
نشر في الجمهورية يوم 31 - 01 - 2013

لا ريب أن علم لبنان هو الأجمل بين أعلام دول العالم مجتمعة : شجرة أرز مثلثة خضراء وديعة تحيل حواس المرء إلى هديل حمام و زقزقة عصافير و زخات مطر و نِدَف ثلج هشة تتشظى كالبلور على أكتاف عارية بضة بلون الثلج نفسه, ذرى الجبال بدأت تشيخ بفعل الصقيع .. إنه الأول من يناير و أشعر بكم أنا محظوظ لأنني أدلف العام 2013م من بوابة بيروت.. من البعيد تضوع أنفاس (( فيروز )) و أغرق منتشياً لدى الهبوط في دوامة تخمين : تحت أي ِّ سقفٍ من سقوف القرميد هذه تقطن المَلاك؟! و ماذا يدور بخلدها في هذه اللحظة ياترى؟! و كيف بوسعي أن أصدِّق أن هذه الأيقونة السماوية هي حقيقة حية تمشي على قدمين ؟! ويمكن – لو ابتسم لي الحظ – أن أصادفها هنا أو هناك (( تركض بشمس الطرقات أو تمسك بخيط طيارة من ورق و خيطان أو تبيع مغازل صوف بدكانة على مفرق ، أو تمر قفز غزالٍ بين الرصيف وبيني أو تعبر شوارع المدينة مثل سهمٍ راجعٍ من سفر الزمان ...)) .. كبرنا برفقتها وظلت (( فيروز )) طفلة صغيرة خارج طائلة الوقت تتخبأ (( من درب الأعمار وتنسى أن تكبر «كما» نسي عبد الله البردوني أن يموت) ...
طيلة عشرة أيام سأحترف مطاردة غير المرئي في المدينة يشق أعماقي صوت سؤالٍ كثيف الشجن : « وينن» ؟! ... وسيكون عزائي – في الأثناء – أنني أتسكع تحت سماء ظللت وتظلل غالبية «الأيقونات» التي أعبدها ، وفوق تراب دارت وتدور عليه غالبية الأحداث التي كنت و ما أزال سجين تفاصيلها ..
من الجنون أن تفكر في أن تحسو بحر نبيذ إسمه «بيروت» دفعة واحدة ، ومن الزهد الأبله والورع المقيت ألا تفكر في ذلك مهما بدا محالا ً ...
إزاء مدينة فاتنة بلا حدود وتحبها لماذا قد تشعر بالحزن ؟! أستطيع الجزم بأن حزناً غامراً لذيذاً واستثنائياً اجتاحني إزاء «بيروت». بأي دوافع ومن أي الزوايا داهمني ..؟! لا أدري ..
حزن ملهم تشعر معه بالإنعتاق من أسر الجاذبية وتصير خفيفاً وقادراً على التحليق إلى أبعد مما تتيحه الأمكنة ، وعند نقطة ما من هذا المعراج تصبح المدينة فيك لا خارجك ..
كتبت على حائطي في «فيسبوك» : في بيروت و بلا كاميرا .. وعلَّق بعض الأصدقاء الجميلين : نراهن على عينيك و أحاسيسك .. كيف غاب عني أن الكاميرا – في أحسن الأحوال ليست سوى آلة تحنيط تصلب الأمكنة على مربعات ورقية بليدة بعد أن تسلبها كل نبضها و جريانها العفوي و انفلاتها الحر و المفعم باحتمالات سحر وجمال ودهشة لا حصر لها ..
أريد «بيروت» دافئة طازجة نابضة طليقة تركض في البال بلا عنان،لا سجينة «ألبوم فوتوغرافي» يُهدر ثراء اللحظة النفسية وكثافتها وحرارة أنفاسها ...
خشبة المسرح و جمهور النظَّارة
لا تعيش « لبنان » بمعزلٍ عما يدور في «سوريا» إيجاباً أو سلباً .. وطوعاً أو كرهاً يتشاطر البلدان مصيراً واحداً ، و إذا كانت المسافة بين عاصمتيهما ضئيلة للغاية ولا تتجاوز ساعتي سفر بالسيارة ، فإن المسافة الاجتماعية تبدو معدومة بحيث يمكن القول إن بنى ومكونات المجتمعين هي امتداد لنسيج مشتبك متضافر واحد ، الأمر الذي يجعل من سياسة «النأي بالنفس» التي تنتهجها حكومة «نجيب ميقاتي» حيال الأزمة الراهنة المحتدمة في «سوريا» تكتيكا فصامياً لا يعفي «لبنان» من التبعات الفادحة للعاصفة على مستوى الواقع .
بعيداً عن التباينات الحادة في مواقف فرقاء العمل السياسي مما يدور في الجوار السوري ؛ فإن طيف الشارع اللبناني الواسع يتقاطع حول كارثية المآل الذي سينتهي إليه لبنان بكل مكوناته في حال انهارت الدولة السورية لصالح نشوء نسخة أخرى من «ليبيا أو أفغانستان» تحكمها المليشيات الدينية المتطرفة ..
إن شبح الحرب الأهلية الطاحنة لا يفارق مخيلات اللبنانيين وظروف اندلاعها ناضجة بحيث تكفي بضعة أعواد ثقاب ليتحول البلد السياحي الأول عربياً إلى ساحة حرب شاسعة مدروزة بالمتاريس ..
منذ وقت مبكر لنشوبها تلقي الأزمة السورية بظلالها سلباً على المشهد اللبناني ، فمن الصدامات المسلحة التي تنشب بين الحين والآخر في «طرابلس و صيدا» مروراً بملف اللبنانيين المخطوفين لدى عصابات ما يسمى «الجيش الحر» و اغتيال العقيد «وسام الحسن»، وقوفاً عند عشرات اللبنانيين الذين تسللوا إلى الأراضي السورية للقتال في صفوف العصابات المسلحة وقضوا على أيدي الجيش العربي السوري في «تلكلخ» لتسلِّم الحكومة السورية جثامينهم إلى أهاليهم لاحقاً ..
في موازاة ذلك تشهد الأراضي اللبنانية موجات نزوح مطَّردة من الجانب السوري إليها ، تعيد إلى الذهن الجمعي هناك .. الصورة المؤرقة و المأساوية لموجات النزوح الفلسطيني الشهيرة خلال النصف الثاني من القرن الفائت ، و امتداداً لتضارب مواقف الفرقاء السياسيين نفسها من المشهد السوري ، يفتح فريق سياسي أحضانه للنازحين و ينحاز بشدة لصالح استيعابهم كواجب تمليه الإنسانية ، فيما يطالب فريق آخر بإغلاق الحدود رسمياً في وجههم متذرعاً بأن ملف النازحين هو مظلة يدفع «النظام السوري» تحتها بمخابراته ومقاتليه لتفجير الوضع في لبنان تنفيساً عن الخناق الذي يعيشه ..
وأياً كانت المواقف فإنها تؤكد في مجملها أمراً واحداً مفاده أن تعافي لبنان مرهونٌ بتعافي الدولة السورية وفشل محاولات إسقاطها .. هكذا هو الوضع اليوم ، وهكذا كان دائماً .. بصرف النظر عن لؤم المتشدقين باستقلالية لبنان ، وترف الحديث عن «سوريا الكبرى» التي تقع «لبنان» ضمن خارطتها الطبيعية الممتدة ..
إن خشبة المسرح في دمشق وجمهور النظَّارة في بيروت والعكس .. تلك بديهية يمليها واقع الصلات الاجتماعية الاثنية والدينية التي لم تفلح مباضع «سايكس بيكو» في بترها رغم استمرارها المستميت في المحاولة .. والذين يطالبون اليوم بإغلاق الحدود اللبنانية مع سوريا أمام النازحين هم ذاتهم الذين أشرعوا التراب و الأحضان للعدو الإسرائيلي ونثروا الأرز على رؤوس قواته خلال اجتياحها الأول 1978م - واجتياحها الثاني 1982م للبنان ..
الطائفة و الطبقة و المقاومة
ليس الخبر أن تقول إن «لبنان» بلد الطوائف فهذه السمة باتت يقيناً لا خلاف عليه في نظر الغالبية؛.. الخبر أن تقول إنه لا طوائف في «لبنان» ، وأن «الطائفية» هي لعبة «الأقلية الطبقية المسيطرة» على الشأن السياسي في بلد ظلَّ أممياً في علاقاته و ناضل معظم أبنائه دائماً مع مختلف الأعراق والجنسيات بقاسم إنساني مشترك ضد مشاريع قوى الهيمنة والاستغلال العالمي الرامية لتفتيت التلاحم الطبقي الحتمي بين ضحايا الاستغلال على مستوى الشعب الواحد وعلى مستوى شعوب العالم في علاقتها ببعضها البعض ..
مقتفياً خُطى «مهدي عامل» في «نقد الفكر اليومي ، و في الدولة الطائفية» أتسكع في «بيروت» فتتبدى لي المدينة على نقيض ما هي عليه في الخطاب الإعلامي السياسي اليومي الذي يكوِّمها بين إصبعي «جعجع والحريري» ويقدِّم بناها الاجتماعية باعتبارها قطعاناً تنام وتصحو بإشارة من «أمراء الطوائف» ..
تتبدى «بيروت» أنموذجاً للتفاوت الطبقي الصارخ ، ففي مقابل «الفيلَّلا» الغافية بترف في سفوح و ذرى القوس الجبلي الأخضر المديد الذي يوازي قوس زرقة البحر الأبيض المتوسط ، تتكدس «بلوكات الأبنية الشعبية الجماعية» و بيوت الصفيح و مخيمات اللاجئين في خناق المسافة بين البحر و الجبل تزاحمها الاستثمارات الصناعية و الخدمية و «المولات التجارية الفخمة» ..
وفي مقابل لا طائفية شرائح المجتمع التي يصهرها في بوتقة واحدة أرقُ الكدح في سبيل البقاء ، تلوح الدولة كرهينة مشلولة تتشاطرها حصصاً مراكزُ القوى الطائفية المؤلفة لطبقة الحكم ، الأمر الذي يفسِّر ضآلة الدور الذي يفترض أن تلعبه كجهاز مؤسسي يمثل الصالح العام على مختلف الأصعدة ، خلافاً لمراكز القوى التي تنهض – في إطار هذه المعادلة المختلة – بأدوار ترفعها عملياً لمصاف وصفها دولاً متفاوتة الثقل داخل الدولة الديكورية الواحدة ..
إن قيادة «الطائفة مجازاً» ليست قيادة دينية أو مذهبية أو عرقية ، بل قيادة «سيا اقتصادية علمانية» تتخذ قراراتها وتبني مواقفها وفقاً لما تمليه المصلحة الطبقية المحضة لا المذهب و لا الدين ، لذا فإن علينا ألا نقع في فخ التصوُّر الطائفي الذي يُوهم بأن الفجوة بين رجل أعمال مسيحي و عامل مسيحي متدين في الميناء ، ينبغي أن تكون ضئيلة قياساً بالفجوة الشاسعة إفتراضاً بينه وبين رجل أعمال وهابي نزولاً عند معيار الإنتماء الديني والمذهبي .. وحتى لو جاز لهذا أن يحدث فلأسباب لا علاقة لها بالعقيدة ..
حين أرادت «الكولونيالية الفرنسية لحظة انسحابها» من لبنان أن تجعل من هذا البلد «عمقاً فرانكوفونياً» يتيح لها إدارة مصالحها عن بعد بسلاسة ، تعيَّن عليها أن تؤسس لذلك بمقولة «لبنان وطناً للمسيحيين» الرديفة وأن تعثر بين اللبنانيين على الفئة التي توكل إليها دفة ريادة هذا الخطاب الذي يستدعي التجانس الديني عبر القطيعة الكاملة مع الوشائج الأخرى ، كالحال مع مقولة «باكستان المسلمة» التي ضمن بها البريطانيون استمرار نزيف الهند المناضلة في سبيل النهوض عقب الاستقلال .
غير أن هذا الخطاب ، الذي يُذكِّر باتفاقية قديمة أبرمها الإنجليز مع سلطات الاحتلال العثماني تتيح لهم الوصاية على مسيحيي الشرق ، لم يجد في أوساط النخبة اللبنانية المسيحية سوى عدد محدود ينهض به كرافعة محلية بالنيابة ، فيما ذهب معظم هذه النخبة – على النقيض – يؤصلون لهويات رحبة مناهضة بشدة لاجتثاث «لبنان» من عمقه التاريخي ومجاله الحضاري الحيوي ، فشهدت الساحة السياسية والفكرية نشوء نظريتين إحداهما وطنية ترى في «لبنان» جزءاً لا يتجزأ من «سوريا الكبرى الطبيعية» والمتعددة الأعراق والمعتقدات ، وهي الرؤية التي بلورها «أنطون سعادة» وأسس لها رافعتها السياسية المناضلة لتحقيقها متمثلة في «الحزب القومي السوري الاجتماعي» ، بينما أخذت النظرية الأخرى منحى قومياً عروبياً وتجسدت في أفكار «ميشيلعفلق و رفاقه» و التأمت أيديولوجياً و سياسياً في صورة «حزب البعث العربي الإشتراكي» الذي رفع شعار «أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة» ... وتبنَّى الاشتراكية على المصاف الإقتصادي .
في الأثناء كان اليسار اللبناني ، وقد انتهج بوضوح الماركسية اللينينية مساراً داخل حركة القوميين العرب؛ يناضل على نحو شارفت معه « لبنان» أن تكون – بحق – «كومونة الشرق» الحاضنة لحلم التحويل الاشتراكي والمشرعة أممياً وبلا أنانية – أمام كل المناضلين المنذورين لهذا الحلم من مختلف بلدان العالم .. وفي خمسينيات و ستينيات القرن الفائت مثلت نجاحات «عبد الناصر» وحضوره الغامر ، فناراً ملهماً لطيف المشهد السياسي اللبناني الواسع ورفدت الحركة الوطنية بزخم نضالي بات من المؤكد معه أن سلخ «لبنان» عن محيطها الرحب أمرٌ بعيد المنال ..
إن بناء «لبنان» بلداً لكل أبنائه في ظل عدالة اجتماعية ، منسجماً مع محيطه العربي ، مناضلاً معه بمشترك رفض التبعية لقوى الاستغلال العالمي ، هو – في مجمله – ما جعل من هذا البلد الصغير في مساحته فيصلاً رئيساً على مصاف الصراع العربي مع العدو الصهيوني ؛ لذا فإن القضية الفلسطينية لم تكن قضية ترفية على هامش صراع طرفي المشهد السياسي الداخلي في لبنان : القوى الوطنية من جهة والقوى الممثلة للخطاب الكولونيالي المضاد من جهة أخرى .. بل كانت في بؤرة الصراع الداخلي وقيمة أساسية فيه ، كما و مؤشراً حساساً على مستقبل الدولة اللبنانية التي تحترب حول فلسفة بنائها وما ينبغي أن تكون عليه ، رؤيتان نقيضان .. ومهما بدا أن هذا الصراع قد حسم – في الراهن – لصالح أنصار الخطاب الطائفي ، فإن واقع الحال المسكوت عنه يبرهن على أنه لم يحسم بعد ولا يزال مستمراً ولا تزال القضية الفلسطينية في عمقه، حجر التوازن المسنود بزنود المقاومة وطنية وشيوعية وإسلامية .
غادر جيش الثورة الفلسطينية لبنان ..
وُقِّعت اتفاقية «الطائف» ..
انهار الاتحاد السوفياتي ..
انسحب العدو الإسرائيلي من الجنوب مدحوراً..
غادر الجيش العربي السوري
وظلت صخرة المقاومة صلبة منيعة تتحطم عليها فؤوس الذرائع وسواطير المؤامرات ، وبرهنت حرب تموز 2006 أن إنهاء الاحتلال الصهيوني لفلسطين هو جسر العبور لبناء «لبنان» قوية مستقلة ، وأن استمرار هذا الاحتلال يعني استمرار «لبنان» مستنزفة مهددة غير مستقرة وبلا سيادة .. إنه المشروع الوطني الذي يقابله – على الضفة النقيض – مشروع طائفي لا يتحرج من اعتبار «سوريا العروبية العلمانية» تهديداً حصرياً لسيادة لبنان ، ويضع من «إنهاء الدولة السورية» هدفاً له على طريق استعادة السيادة المزعومة .
«لقد أثبتت الأحداث أن العدو في دمشق وأدواته في لبنان» بهذا المنطق يحاول «جعجع» أن يحرف بوصلة الصراع لصالح مشروعه الكتائبي الكولونيالي الجديد القديم الذي لا تستفزُّه مشاهد ذبح المسيحيين على الهوية، في سوريا على أيدي العصابات الإرهابية المدعومة من فريقه السياسي اللابس مسوح الغيرة على المسيحيين والسنة.
أنا و بيروت و أبي
جهاز تسجيل صغير موصول بسماعَتَي رأس و مثَّبت على حزام بنطلون تلميذ الابتدائية الذي يقود دراجته الهوائية بلا وجهة في شوارع تعز في نهارات العام 1982م – منتشياً وتكهرب مسامات جلده «أغاني العاشقين» : «آه يابيروت يا نصلاً بعيد الغور ، يا جرحاً في جبين الكبرياء ..»
صرخة نزار قباني تخدش غلالة السماء «بيروت تُذبح كالدجاجة في الطريق فأين فرَّ العاشقون ..»..
محمود درويش ينزف أحلامه وآياته الغاضبة وسبابه النبوي من على مئذنة ضمير شاهق :«علَّمْتَنِي الأسماء لولا هذه الدول اللقيطة لم تكن بيروت ثكلى»
ماجدة الرومي تستنهض كبرياء المدينة المهيضة والمغدورة : «قومي من تحت الردم كزهرة لوزٍ في نيسان .. قومي يا بيروت قومي ..»
قناني «كولونيا ريف دور» خلف واجهة العرض الزجاجية تلفحها الشمس فتشيع برائحتها في فضاء دكاننا الصغير جواً حالماً وأنا أطالع صور أشلاء «صبرا و شاتيلا» في مجلة «المصور» ولاحقاً صور أجساد جنود المارينز الأمريكي المطمورة تحت أنقاض مقر إقامتهم الذي فجَّرته «المقاومة» في بيروت ..
لا أدري لكم من السنوات استغرقتني «بيروت» ودوختني أخبارها ، غير أن بمقدوري الجزم أنها كانت المدينة العربية الأولى التي سكنتني عميقاً وأشعلت عن بعد جذوة أحاسيسي القومية، كما أستطيع الجزم بأن أول امرأه أحببتها وحطمت الصورة النمطية التقليدية للمرأة في ذهني ، كانت بيروتية اسمها «سناء محيدلي» .. فدائية من الحزب القومي السوري الاجتماعي نسفت بنثار جسدها في ليلة زفافها حاجزاً عسكرياً للعدو الإسرائيلي في بيروت .. صورتها الملصقة إلى جوار وسادة نومي والتي حصلت عليها كهدية عدد لإحدى المجلات ، ظلت كُحْل عيوني مساء صباح إلى أن غادرنا منزل الإيجار .
منذ قرابة ثلاثين عاماً أحمل للمدينة خارطة نفسية حية تخلّقت على امتداد أطوار نشأتي؛ في زاوية من أدفأ زاويا الذاكرة وعندما شرعت في لعبة تخمين مثيرة لدى هبوطنا ، كنت شبيهاً برحالة انتهى به طوافه الطويل على جزيرة حكايات مليئة بالكنوز ، فراح بخليط من اللهفة والارتباك يسقط ما بحوزته لها من إحداثيات على الواقع تختلج أعماقه بطمع عارم في أن يقلب ترابها رأساً على عقب ليضع يده على كل كنوزها .. متحسراً في الوقت ذاته لحقيقة أن مركبه لا يقوى حتى على حمل كسور نفائسها .
أستعيد على تماس الذاكرة مع المكان ، مشهداً ثمانينياً لتلميذ الابتدائية وهو يلحُّ على والده بأن يصحبه إلى مبنى البريد ليبعث بطرد يحوي إجاباته على مسابقات سلسلتي «ما وراء الكون و بساط الريح المصوَّرتين» .. لطالما دوَّخني عَشَمُ الفوز ب« غرندايزر مطاطي» وهيأت سلفاً مكاناً سرياً يكون بمثابة وكرٍ لماردي الموعود يباغت الأعداء منه بقيادتي .. قال والدي بنبرة هازئة ومتعاطفة وهو يدفع بالطرد لموظف البريد من خلال النافذة الزجاجية: «لبنان تطحنها الحرب الأهلية وصاحبنا يشتي منهم غرندايزر» .. كان كمن يبرر للموظف دافعه لإرسال رسالة إلى «لبنان» في ذلك المنعطف الكارثي من عمر البلد .
لكنني كنت ممتناً له نزوله عند رغبتي على سذاجتها ، وظللت بعدها أنتظر وصول «المارد الحلم» الذي لم يصل بعد !
لم تعد «بيروت» التي راسلتها في 1984م هي ذاتها «بيروت» التي أدلفها اليوم بفرط الخشوع في الأول من يناير 2013م ، إلا أن ذلك لا يغير شيئاً في الخارطة النفسية «المضبوبة»في أدفأ زوايا ذاكرتي لها. تؤكد فيروز : « ... ما في غيرك يا وطني بتظلك طفل زغيَّر » .. بالرغم من أن خمسة عشر عاماً من الحرب الأهلية غربلت تراب المدينة برمته عدا مساحة يسيرة محظوظة منه ، وأفرزت واقعاً ديموغرافياً نفسياً اجتماعياً مغايراً لما كان عليه الحال لحظة نشوب الحرب في العام 1975م.
كَبَحَتْ متاريسُ الموت المتبادل جموحَ روح الحياة اللبنانية النهمة بلا حدود ولا محاذير ، ونزوع إنسانها العفوي لفضاء تشاركي أممي عام .. وبات غربال الهويات الإنعزالية التي أنتجت نفسها في الواقع على هيئة أمكنة مسيَّجة طائفياً ، هو الشبكية التي يَعْبُرُ من خلالها «الآخر» إلى عين اللبناني منخولاً من كل مغايرة أو مثقلاً بغيريَّته واختلافه وعاجزاً عن عبور ثقوب الغربال .
كان معمارُ «بيروت» يتمدد ضيقاً و اتساعاً على مداميك الأهلية الاقتصادية والتنوع الاجتماعي الإثني والديني المتسامح ، والتجانس الطبقي ، و أمسى محكوماً بنفوذ «الطائفة» وحدود مخاوفها الأمنية والسياسية ومتاحات استثماراتها والمغزى منها .
عندما شرعت الشفرات والبواريد المشحوذة على سمبادة الطائفية والمحشوة بذخيرة الكراهية في لعبتها الدموية ، أُرغم مجتمع المدينة على إعادة الانتشار طائفياً على النحو الذي يضمن معه ألا تزهق روحه بفعل التباس هويته في عيني قاتله .. حصدت دوامة الموت زهاء «170 ألفاً» من الأرواح في مجتمع تعداده اليوم أربعة ملايين نسمة .. وحين قدِّر لها أن تتوقف في 1989م كانت النهاية بداية لمرحلة ليست أقل قبحاً من سابقتها ، فبينما كان «جدار برلين» على وشك الإنهيار ، كانت «اتفاقية الطائف» ترفع قواعد جدران العزل الطائفي و تفرز «بيروت» إلى مجموعة شرانق و تقرر أنصبة نفوذ «الأسر الكريمة» في أرض «لبنان» ودولته .
إن الحرب الأهلية في حقيقة الأمر لم تكن شأناً لبنانياً خاصاً أو صرفاً بحيث يمكن حسمها باتفاقية سياسية تتعاطى معها، باعتبارها نسقاً مستقلاً نائياً لا يتقاطع مع ما حوله من أحداث عاصفة في تلك الفترة من تاريخ البلد ، ومنزوعاً من نسيج الظروف التي تخلَّق في خضم تعقيداتها .
وبما أن الاتفاقية الآنفة قَارَبَتْ الحربَ كنسق خاص معزول فإن الذي تم حسمه من خلالها ليس الحرب بطبيعة الحال بل صورة «لبنان و بيروت تحديداً» التي تقرَّر لها أن تكون «جيتو» محلياً موصداً ومرتاباً يتلاشى فيه الفرد في بوتقة الطائفة القابضة على العصا والجزرة ؛ تحت وطأة خوفه الغريزي من الانقراض.
لقد أغفلت الاتفاقية حقيقة استمرار الاحتلال الإسرائيلي الناجم عن اجتياح 1982م فكانت من حيث الجوهر تقنيناً رسَّخ النتائج الكارثية التي استهدف العدو ترسيخها من وراء الاجتياح ، حتى مع كونها أضفت الشرعية على سلاح المقاومة المتمثلة في «حزب الله».. «كفصيل لم ينخرط في الحرب الأهلية» ، وأكدت حق « لبنان » في التخلص من الاحتلال واستعادة سيادته .. ببساطة كان إبرام الاتفاقية بمثابة ترسيم للتشوهات التي أفرزتها الحرب على الأرض ، باستثمار شارع منهك وخائف وقوى وطنية تهتكت أوصالها ويسار مثخن فقد القدرة على الاستمرار في الصراع بانهيار المعسكر الشرقي .. وفي مناخ كهذا رضخت «الكومونة الأممية» رسمياً « للطائفية » باعتبارها مشروع الأمر الواقع وتحولت إلى « جيتو » خانق ورديء التهوية .. تكفلت «الاتفاقية» بإعادة إعماره على نمط استهلاكي معولم لا ينتمي لما كان يحلم به ولا يشبه ما كان عليه .
التاكس
« التاكسي » في « بيروت » ليس وسيلة مواصلات فحسب ، بل « كبسولة » كثيفة تضعك في مشهد الحياة اللبنانية اليومية بأنساقها الاجتماعية السياسية والاقتصادية والثقافية وفي الغالب ، فإنها تذهب بك زمنياً إلى أبعد من الوجهة التي تريد بلوغها في المكان .. معظم السائقين الذين أقلوُّني كانوا على درجة لافتة من قيافة الملبس .. ومن فئة عمرية بين «35 60 عاماً» ومركباتهم نظيفة ومرتبة على الدوام والأرجح أنهم ينتمون إلى الطبقة المتوسطة ومن العاملين في وظائف حكومية ، بحيث تسهل ملاحظة أن «التاكس» ليس مصدر دخلهم الوحيد، لكن الاشتغال به ليس ترفاً بقدر ما هو حاجة ملحة في مواجهة المعيشة اللبنانية باهظة الكلفة لاسيما في شقها المتعلق بتوفير سكن لائق ، حيث الحد الأدنى للإيجار يبدأ من «خمسمائة دولار» عن شقة مقبولة كسكن آدمي،ويتجاوز ذلك إلى الضعف في المتوسط عن شقة فسيحة نسبياً ومتينة البناء ويتدفق إليها الهواء بكمية أكبر.. يمكنك مفاصلة السائق حول المبلغ نظير مشاويرك دون حرج، وفي العادة فإن الانتقال داخل حدود الدائرة التي تضم أبرز معالم العاصمة بيروت وأنشط أحيائها ، يكلفك «15 ألف ليرة لبنانية أي عشرة دولارات» عن المشوار في «التاكسي» وثلث ذلك فيما إذا استقللته ك«سرفيس» يقل ركاباً آخرين إلى جوارك ..
من النادر ألا يلفت لون بشرتك نظر السائق فيسألك «من وين الأستاذ ؟!» ، ولا تستغرب إن تعدَّى ذلك إلى سؤال عن مذهبك أو دينك ؟! فالمعتقد الديني لدى اللبناني في الأغلب بات المعادل الموضوعي للمعتقد السياسي، والسؤال عنه هو بمثابة السؤال عن الحزب الذي تنتمي إليه .. أكثر من ذلك فإن المعتقد هو الهوية الجامعة لما يرغب هو في معرفته عنك على كل مصافاتك ومناشطك الاجتماعية .. يحاول اللبناني أن يُحْدِث بأسئلته ثغرة في تحصيناتك يطل منها على دخائلك ليتأكد من أنك تشبهه فيسترسل في حديثه معك ، أو يتبين له العكس فيصمت مكتفياً بابتسامة حصيفة ومتحفظة وأحياناً فإن اكتشاف غيريَّتك يدفعه للاستمرار في إعلان قناعاته بحدة متأدبة ومستفزة .. كاد حديثي مع أحدهم يتحول إلى مشاجرة ، إذ يبدو أنه لمَّا لم يعثر على أوجه شبه تجمعني به بخصوص ما يسميه هو « ثورة سورية» وأسميه أنا إرهاباً ، راح يكيل الشتائم المقذعة «للأسد الابن الأب» كإعلان صارخ وبذيء عن ضديته لي.. وتلافياً لعواقب قد تفسد عليَّ مزاجي في الطريق إلى شارع «الحمراء» اختزلت مغايرتي في إبتسامة حصيفة مشفوعة بمقولة «فولتير» الشهيرة عن استعداده لأن يدفع رأسه ثمناً لحرية الآخر في الهراء .. بما أنني قلت إنني كنت في طريقي إلى شارع «الحمراء» الواقع في متن حي «الحمراء» المحظوظ والذي يجمع المراقبون على أنه الناجي الوحيد من مخالب الطائفية وبواريدها بين أحياء بيروت ، فسيتدفق من أرشيف ذاكرتي السمعية صوت الشحرورة وهي تغني «خدته عالحمرا مشوار ألِّي دخلك عقلي طار ...» أمام قدرة هذه المدينة على أن توغل عميقاً في الذاكرة وتهيل على رأس صاحبها هرماً كبيراً هو خليط من فوضى أصوات وأحداث وصور و أسماء ، أشعر بكم أنا عجوز و كم هي «بيروت» مثيرة برغم كونها أمست مجمعاً استهلاكياً كبيراً تعجز محفظة نقودي عن فتح مغاليقه واكتناه لذاته ومباهجه ... صرير عجلات سيارة «سبورت» حمراء فخمة وبلا سقف تقصف أرجاء المكان بأغنية أجنبية صاخبة ، وسط شارع «الحمراء» المرصوف بعناية ، ويطوح سائقها الشاب خصلات شعره الطويل كمروحة يساراً ويميناً .. سيناريو طبقي أنيق وفج بين عشرات السيناريوهات الشبيهة التي يستجوبك من خلالها الشارع البيروتي الأكثر شهرة بنبرة متحدية ومباهية : من أنت ؟! ما حجم العملة التي تتسلح بها ؟! هل تتمتع بالندية الكافية للتسكع هنا ؟! ... إنها على نقيض معظم استفهامات بيروت أسئلة تنبش خلف هويتك الطبقية لا الطائفية .. عيون الصيرفي ذي الأنف المعقوف وهو يقايضك الدولارات بالليرات ، تلعنك بدبلوماسية لأنك تُضَيِّع وقته على مقايضة مبلغ تافه ... أنت في تخمينه ولا ريب كُرْدِيٌّ بائس يحاول أن يتمظهر أو لعلك لاجئ سوري لا حاجة للشارع به!.
إن المال ، في شارع ينظر إليك كزبون من خلف ضلفتي متجر و « مول و بار» وملهى ليلي ، هو طائفة ومذهب و دين بحد ذاته ..
فيما تلوذ بحي «الحمراء و شارعه الشهير» هرباً من مفارز الارتياب الطائفي ، فإنك تقعُ تحت طائلة الفرز كمستهلك ينبغي ألا يتوقع أن يحظى بأكثر من ابتسامات وعبارات ترضية ينفحها عليه الباعة على نحو مسرحي مدروس.
ليست الهوية الكونية التي توهمك ماركات الأشربة والألبسة وأسماء المحال في حي الحمراء؛ بأنك صرتَ على عتباتها ، أكثر اتساعاً من شرنقة الطائفة التي تتخطَّفك لافتاتها السياسية في تنقُّلاتك بين أحياء بيروت الأخرى .. كلاهما لا يمنحانك الدفء الذي تتوقعه من مدينة ظلت لعقود آلهة للخصب وأرضعت الشعراء والكُتّاب والفنانين حليب القمر وحَقَنَتْ مخيلاتهم بهوس اجتراح المستحيل .
لا يليق «ببيروت» أن تتحول إلى مجرد مدينة جميلة على بحر باذخ الزرقة .. مدينة تحضر في أحسن الأحوال كخلفية مائزة لصورة تذكارية مرتجلة التقطها سائح عابر!
من المفيد جداً أن نضع « سائح عابر» هذه بين قوسين ، لأنها تعيننا على فهم ما آلت إليه «بيروت» اليوم وفهم إشكاليةٍ باتت في صلب تكوين الذهن الجمعي اللبناني مُحَدِّداً مهماً ينتظم شكل علاقته ب«الآخر»..
إن واقعة النزوح الفلسطيني الكبير إبان النكبة في 1948م وما تلاه من موجات نزوح في 1967م 1970م ، بالتضافر مع تعقيدات الوضع الداخلي « للبنان» جعلت مجتمعه الصغير بنسيجه التعددي الكثيف ، شديدَ الحساسية والتحفُّظ إزاء وافدٍ محتمل يهدده بالانمحاء أو الولوج في منعطفات أخرى دامية . على خلفية تجارب من هذا القبيل تخلَّقت لدى اللبناني عقدة من إمكانية أن يُمسي بلده بين لحظة وأخرى مَضَافاً مكرهاً لهجرات مستوطنة إلى أجل غير مسمَّى .. شعوره بفقدان السيطرة على حدوده الجغرافية ألجأه كتعويض لتحصين حدود سياجه النفسي الذي أصبح بتوالي الأيام محبساً يعيق إتصاله السلس بالآخر .. يمكن القول: إن علاقته بالبحر بما هو بوابة مشرعة تشوَّشت هي الأخرى ينظر في اتساعه فلا يرى النوارس بل بوارج العدو الحربية وسفناً مكتظة بنازحين جدد أو أحباباً هاجروا إلى غير عودة.
في سياق نفسي اجتماعي تاريخي تهيمن عليه فوبيا الآخر الوافد كهذا ، يمكن أن نلمس الوَقْعَ اللطيف والمحبب ل«سائح عابر» في النفسية اللبنانية .. إن السائح هو شخص ينفق الكثير من المال ولا يمكث طويلاً مهما امتدت إقامته .. وهما صفتان مفيدتان لصحة اقتصاد لبنان وصحة إنسانها .. زائر محايد ولا ينحاز سوى لنهمه في الحياة .
في مطار «بيروت» سيكون عليك أن تملأ استمارة بيانات شخصية تتضمن أسئلة شتى بينها سؤال عن غرض قدومك إلى لبنان ؟! .. يحدث هذا في العادة على عتبات بلدان كثيرة .. لكنه يكتسب طابعاً خاصاً هنا .. الحي والشارع الذي ستقيم فيه خلال زيارتك ليس مجرد نزل مكاني .. إنه انتماء سياسي وانحياز صارخ لطائفة دون أخرى .. وبطبيعة الحال فإن تأشيرك على خانة «سياحة» بين خيارات الإجابة على سؤال الهدف من قدومك ، سيكفل لك انفراجاً نسبياً في ملامح ضابط أو ضابطة المنفذ المُغْتَمَّة حين يمهر/ تمهر جواز سفرك بختم استكمال طقوس العبور الآمن إلى لبنان.
بلد فيروز ، مارسيل ، جوليا بطرس ، خليل حاوي ،ماجدة الرومي؛ جورج إبراهيم عبدالله، أنيس النقاش، حسن نصر الله ، سناء محيدلي، درويش و ناجي العلي و أبو عمار وجبريل .. لبنان «بساط الريح وما وراء الكون».بلد الأربعة ملايين مواطن مقيم و الستة عشر مليون مهاجر!.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.