لم يكن سقوط مملكة فارس على يد العرب المسلمين الفاتحين حدثاً عادياً في التاريخ، بل كان حدثاً ضخماً ومدوياً، وكانت له ارتداداته العنيفة، الظاهرة والخفية، الصريحة والملتوية. فبعد أن هُزمت الدولة الفارسية العريقة على يد الدولة الإسلامية الناشئة وحين أيقن الفرس المتعصبون لقوميتهم الفارسية ولمواريثهم الكسروية أن مواجهة الإسلام والتصدي له أضحت عملية مستحيلة، اتجه تفكيرهم نحو الاحتواء بدلاً عن المواجهة، أي احتواء الإسلام وجعله في خدمة الطموحات القومية الفارسية وغير متعارض مع المواريث الكسروية، وهكذا بدأت خطة تفريس الإسلام تعمل بجد ومكر متواصل حتى تم إنتاج نسخة من الإسلام مثقلة بحمولات النفسية والعقلية الفارسية ومتشبعة بالقيم الكسروية. وفي سبيل تفريس الإسلام قام أبناء فارس المخلصون بجهود جبارة في مجال إنتاج الروايات وإعادة تأويل الدين كله وإعادة صياغة تاريخ الإسلام بما يتوافق مع الرؤية الفارسية للدين وللعرب وبما يهيئ الظروف لاستعادة أمجاد فارس وعودة الشاه الفارسي من جديد! وكان “الشعوبيون” أي، ذوو النزعة القومية المتطرفة من أبناء فارس لا يخفون احتقارهم للعرب ولكل ما يمت للعرب بصلة، ولكنهم كانوا مع ذلك مجبرين على تقبّل الإسلام كواقع يفرض نفسه عليهم، خصوصاً بعد دخول غالبية الفرس في الإسلام، وكان عبد الله بن المقفع أحد أولئك الشعوبيين من أبناء فارس، وكان من دهاتهم الكبار، ومن أبرز القائمين على مشروع تفريس الدولة العباسية سياسياً وثقافياً، وفي كتابه المشهور :«كليلة ودمنة» يستفتح الكتاب بالحديث على لسان شخصية رمزية أطلق عليها: “علي بن الشاه الفارسي”! وكلمة شاه في اللغة الفارسية تعني “ملك” كما هو معروف، فما الذي كان يقصده الداهية ابن المقفع بهذا الإيحاء الرمزي؟ من هو: “علي بن الشاه الفارسي”؟ إن الرمزية هنا واضحة جداً في الربط بين “علي” و “الشاه الفارسي” وقد استوقفت المفكر العربي الكبير الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه نقد العقل الأخلاقي العربي، فهل كان ابن المقفع يرمز بذلك إلى شخصية علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي عمل القائمون على مشروع تفريس الإسلام على إعادة صياغة شخصيته من جديد، وكتبوا له سيرة حياة لا وجود لها في الواقع ولكنها من بنات أفكار “الشاه الفارسي” وتخدم عودته من جديد؟! إن من يتابع جهود القائمين على تفريس الإسلام وما أسفرت عنه تلك الجهود يصل إلى قناعة تامة بأن تلك الجهود لم تكن فردية، ولكنها كانت جماعية ومنظمة، وكانت تعمل لأهداف مرسومة وواضحة، وأنها قد نجحت إلى حد كبير في الحفاظ على الشخصية القومية الفارسية وعلى كل موروثاتها القديمة بعد أن تم تغليفها من الخارج بغلاف زائف من الإسلام، ويمكن للمرء أن يلاحظ أن عزل الشخصية الفارسية عن محيطها الإسلامي ومنع ذوبانها في الأمة الواحدة كان هدفاً رئيساً لتلك الجهود، ولذلك عمل القائمون على مشروع تفريس الإسلام على إقامة حواجز نفسية كثيفة بين المسلمين الفرس وبقية المسلمين في العالم؛ لأنهم كانوا يدركون أن ذوبان الشخصية الفارسية في بوتقة الأمة الواحدة يقضي على كل أمل في استعادة أمجاد فارس ومشروع كسرى الكبير، ولذلك ركزوا كثيراً على عزل المسلم الفارسي نفسياً وفكرياً وشعورياً عن بقية المسلمين، وبالغوا في شحنه بالعواطف السلبية والعدائية تجاه محيطه العربي خاصة ومحيطه الإسلامي عموماً. والحقيقة التي يمكن للجميع أن يلمسها اليوم هي أن جهود تفريس الإسلام لم تذهب سدى، بل نجح المشروع في جعل الإسلام مطية لتحقيق الطموحات الفارسية الاستعلائية، ووسيلة لعودة كسرى..كسرى الذي زال ملكه، وسقط عرشه، وحطم المسلمون تاجه وتقاسموه فيما بينهم أيام الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أقسم أن يعود من جديد لابساَ عمامة وآخذاً بثأره من كل أعدائه!