كتاب البخلاء، وهو كتاب أدب وعلم وفكاهة. وهو من أنفس الكتب التي يتنافس فيها الأدباء والمؤرخون. فلا نعرف كتاباً يفوقه للجاحظ، ظهرت فيه روحه الخفيفة تهز الأرواح، وتجتذب النفوس، تجلى فيه أسلوبه الفياض، وبيانه الجزل الرصين، وقدرته النادرة، على الصياغة النادرة، في أوضح بيان، وأدق تعبير، وأبرع وصف. ولا نعرف كتاباً غيره للجاحظ أو لغيره وصف الحياة الاجتماعية في صدر الدولة العباسية كما وصف: فقد أطلعنا على أسرار الأسر، ودخائل المنازل، وأسمعنا حديث القوم في شؤونهم الخاصة والعامة، وكشف لنا عن كثير من عاداتهم وصفاتهم وأحوالهم. وقد كان الذي يغلب على الظن أن يكون الجاحظ قد كتب (كتاب البخلاء) وهو في سن الشباب، وإبان الفتوة؛ لأن هذه السن في الغالب سن العبث والسخرية، والتندر والدعابة، والتفكه بعيوب الناس. ولكننا نقرأ في كتاب البخلاء من الأخبار ما يحملنا على أنه كتب الكتاب أو جمعه وهو هرم، يحمل فوق كتفيه أعباء السنين. من نوادره: أخذ المجاملة كأنها الجد يدفع البخل أهل خراسان إلى أعجب الحيل وأطرفها، من ذلك ما رواه الجاحظ عن الشيخ الخراساني الذي كان يأكل في بعض المواضع إذ مر به رجل فسلم عليه فرد الشيخ السلام. ثم قال: هلم عافاك الله. فتوجه الرجل نحوه فلما رآه الشيخ مقبلاً قال له: مكانك... فإن العجلة من عمل الشيطان. فوقف الرجل، فقال له الخرساني: ماذا تريد؟ قال الرجل: أريد أن أتغذى. قال الشيخ: ولم ذاك؟ وكيف طمعت في هذا؟ ومن أباح لك مالي؟ قال الرجل: أوليس قد دعوتني؟ قال الشيخ: ويحك، لو ظننت أنك هكذا أحمق ما رددت عليك السلام. الأمر هو أن أقول أنا: هلم فتجيب أنت: هنيئاً فيكون كلام بكلام . فأما كلام بفعال وقول بأكل فهذا ليس من الإنصاف.