المتأمل للطيور ولحياة الطهر والنقاء والشفافية والانطلاق التي تحياها يتمنى من أعماقه أن ينعكس هذا الجو بما فيه من براءة وصفاء على دنيا البشر وعلى العلاقات الإنسانية التي تربطهم ..كنا نتمنى ان نستلهم من الطيور- ذات الأشكال والألوان المختلفة - البعد الشفاف الذي يتجاوز العُقد والصفات والممارسات الدنيئة التي يمارسها بعض البشر.. عالم الطيور عالم جميل وكبير لو أجَلْنا فيه النظر والبصيرة لوجدنا فيه أشياءً كثيرة تصلح أن نستلهمها ونسقطها على واقعنا المعيشي والذي أصبح الحقد والكراهية والخداع والكذب والزيف أبرز ما يميزه.. دعونا نجول هذه المرة في عالم الطيور..عالم الطُهر والبراءة والجمال.. لعلنا ننأى قليلاً عن واقع البشر بما يطفو على سطحه من مفارقات وممارسات شاذة..سنرحل اليوم مع قصيدة للشاعر الراحل/محمد سعيد جرادة.. وهي بعنوان((طائران)) والتي يقول فيها: حديثهما جمالٌ يبعث الأشواقَ والحُبّا وهمسهما الشعور الطهر لا ملقاً ولا كذبا حكيمان على بغض الورى لم يطويا قلبا ولم يحجنا نشباً يثيرعليهما حربا لقد لمح الشاعر طائرين جميلين ربما كانا فوق شجرة ..كانا يتهامسان بشدوٍ عذبو هامس يكاد من رقّته ان يفجّر في اعماق السامع الشوق والحب .. كان حديثهما همساً رقيقاً ليس فيه كذب ولاملق.. فالطيورهكذا تشدو وتغرّد للحياة أرق الاحاديث وأجمل الاغنيات ..فهي جزء من لوحة الكون البديعة والطيور لا تضمر بين جوانحها حقداً أو كرهاً , فهي مُسالمة , تنبذ كل المعاني القاتمة وتشدو للجمال. ويقول ايضاً : أطلّا من أعالي الدوحْ يبتغيان ترويحا فلم يتطارحا في الكون تفسيراً وترجيحا ولم يتجادلا فيما يمس الغيب والروحا وما يعنيهما والكون لايحتاجُ تصحيحا أخذ العصفوران يتنقّلان بين أشجار الدوح ..يسرحان ويمرحان ويداعبان قمم الاغصان بصعودهما وهبوطهما ..لا يلويان على شيء غير الانطلاق والترويح عن نفسيهما ..يجوبان الآفاق بحرية لا تكبّلها حدود أو قيود ولم يشغلا نفسيهما بأحاج وألغاز ربما تفسد عليهما شفافية الحياة وطُهرها .. فالكون الفسيح المترامي وأسراره لا يعنيهما في شيء, كل ما يحرصان عليه وكل ما يهمهما في أمر هذا الكون هو أن يجدا فيه المتعة الخالصة والحرية التي ينشداها.. ويقول في القصيدة أيضاً: ولكنْ فضلا اللحنَ كتاباً معجزالسورِ مبيناً ليس فيه لكُلفة التعبير من أثرِ لهُ في الحسن ظلٌ عالقٌ بالحسن والفكرِ وقد يسبيك لحنٌ صادرٌ من غيرما وترِ فضّل العصفوران أن يُريحا نفسيهما من عناء التفكير في هذا الكون الممتد وما يحيط به من أسرار .. فالحياة التي يعبّان منها السحر والجمال هي تلك التي تطلق لهم العنان للشدو والهديل والتغريد .. الشدو ذو الجرس والايقاع الهامس .. الشدو المتناعم الذي تطلقه الطيور كلحنٍ متناغم النبرات والايقاع .. الشدو الذي ينساب الى النفس ويغورإلى أعمق نقطة في الوجدان .. ليبثّ النشوة والمتعة التي ليس لها حدود أجمل لحظة يقضيها الانسان ويحسُّ فيها بالمتعة الخالصة حينما يهيىء سمعه لاستقبال تغريد طير أو شقشقة عصفور .. متعة لا تضاهيها متعة .. ويختتم هذا الترحال بمقطعٍ جميلٍ يقول : لقد صنعا من الأوراق عُشّاً يشبهُ القصرا يضمُّ الحبَّ والفرحة والأحلام والشِعرا شُعاعُ الفجر يدخلهُ فيملأ جوّهُ بِشْرَا وأنسامُ الصباح تشيعُ فيه الفرحة الكُبرى ليس بالضرورة أن يكون سكن الكائن الحي فخماً وواسعاً وعظيماً لتشيع فيه الأفراح والمسرات وعوامل الرضا والقناعة حتى وانْ كان هذا السكن قصراً عظيماً وشامخاً, ما لم تعُمُّه القناعة والراحة النفسية وكل ما يساعد على العيش بأمان واطمئنان .. والدليل على ذلك ان الشاعر يصرُّ على أن يلفت نظرنا إلى هذه النقطة الهامة .. فالعُش الذي صنعه الطائران أعظم من قصر شامخ البناء والأركان .. فالقيمة الحقيقية لهذا العُش ليست في صغره وهشاشة أعواده .. بل القيمة في المعاني المشرقة والمضيئة التي تجعل هذا العش كنجمة معلقة في السماء تشعُّ بالضياء.. القيمة الحقيقية في معاني الخير والألفة والسعادة والإيثار والحُب والصفاء, يكفي ان تقبّلهُ الشمس كل صباح ويعطّره شعاع الفجرالوليد وتبعث فيه أنسام الصباح الأمل الجديد والفرحة الكبرى.. ولولا ضيق المساحة المُتاحة لكنتُ أوردت المقطع الأخير والأكثر جمالاً في هذه القصيدة .. لأنه يعقد مقارنة جميلة جداً بين طباع الطير والانسان.. نقاط الالتقاء والافتراق بأسلوب أكثر من رائع .. لكنّ عزاءنا في عدم إيراد هذا المقطع هو أن ما أوردناه يكفي وزيادة لمن أراد أن يأخذ المُتعة والفائدة معاً. [email protected]