تحدثنا في الأسبوع الماضي عن الصفة الأولى للمبشّرين بالجنة، وفي هذه الحلقة سنتعرض إلى ثاني صفاتهم وهي التواضع، لماذا المتواضعون دائماً محبوبون والمتكبرون مبغوضون؟ هل فكرت يوماً بهذا السؤال على المستوى الإنساني الإنسان المتكبّر يشعر بأن منزلته ومكانته أعلى من منزلة غيره؛ مما يجعل الناس يكرهونه ويبغضونه وينصرفون عنه، كما أن الكبر يكسب صاحبه كثيراً من الرذائل، فلا يُصْغِي لنصح، ولا يقبل رأياً، ويصير من المنبوذين. لكن أين هم المتكبرون.. في حديث ابن مسعود أن أصحابه قرصهم البرد فجعلوا يستحون أن يختبئوا في العشاش والعباء ففقدهم فقيل له: أمرهم كذا وكذا فأصبح أبو عبد الرحمن في عباءة فقالوا: أصبح ابن مسعود في عباءته ثم جاء اليوم الثاني ثم جاء اليوم الثالث فلما رأوه في العباءة جاؤوا في أكسيتهم فعرف وجوهاً قد كان فقدها قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يدخل الجنة أحد في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر أو قال: ذرة من كبر، وفي حديث سيدنا أبوبكر .. بينما أبو بكر الصديق يأكل مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ نزلت عليه {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره} فرفع أبو بكر يده وقال: يا رسول الله إني لراءٍ ما عملت من مثقال ذرة من شر فقال: يا أبا بكر أرأيت ما ترى في الدنيا مما تكره فبمثاقيل الشر ويدخر لك مثاقيل الخير حتى توفاه يوم القيامة لا يدخلُ الجنَّةَ من كانَ في قلبِه مثقالُ ذرَّةٍ مِن كِبرِ ولا يدخلُ النَّارَ مَن كانَ في قلبِه مثقالُ ذرَّةٍ من إيمانٍ فقال رجلٌ: يا رسولَ اللَّهِ الرَّجلُ يحبُّ أن يَكونَ ثوبُه حسنًا ونعلُه حسنةً فقال رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّم:َ إنَّ اللَّهَ جميلٌ يحبُّ الجمالَ إنَّ الكبرَ مَن بطِرَ الحقِّ وغمَصَ النَّاسَ. وسفه الحق هو إباؤه ورده وعدم الخضوع له، والغمط الاستهانة والاحتقار وهو مثل الغمص أو قريب منه، إذاً فالكبر رذيلة تدعو صاحبها إلى احتقار الناس والتعالي عليهم، وإلى إنكار الحق وجحد العدل، نسأل الله جلّ جلاله أن يعلمنا التواضع، وأن يباعد بيننا وبين الكبر. قال تعالى:{وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}«لقمان:18». وقال تعالى:{وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً}«الاسراء:37». وقال تعالى:(إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ) النحل:23. وقال تعالى: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكبِّرِينَ}«الزمر..هذا عن الكبر لكن ماذا عن التواضع عَنْ أبي هريرة رضي اللَّه عنه أَن رسول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قال:« ما نَقَصَتْ صَدقَةٌ من مالٍ، وما زاد اللَّه عَبداً بِعَفوٍ إِلاَّ عِزّاً، ومَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ للَّهِ إِلاَّ رَفَعَهُ اللَّهُ» رواه مسلم. وسئل الفضيل بن عياض عن التواضع، فقال: أن تخضع للحق وتنقاد إليه، ولو سمعته من صبي قبلتَه، ولو سمعتَه من أجهل الناس قبلته. وقول طاغور: ندنو من العظمة بقدر ما ندنو من التواضع اطلب دائماً العلو والسمو.. والعلو شيء والتعالي شيء آخر.. الأول حقيقة والآخر خيال. إذاً هناك فرق بين العلو والتعالي، فالعلو هو السمو والتسامي والتعالي هو الكبر والتكبر، وفي حياتنا اليومية سنجد أن الكبر ليس فقط يخرج الإنسان المتكبر من دائرة احترام الناس ولكنه أيضاً ينزع عنه احترام ذاته، فعبارات الاحتقارات والدونية تسيء لآدميته وتخلق لديه أفكاراً تجعل من نفسه سيئة ويعشش في ذهن المتكبر، خيال التعالي ليكون بعيداً عن الناس قريباً من نفسه الأمارة بالسوء، وبالتالي يصنع لنفسه قيداً يقيد حركات ويجعله إنساناً آلياً تحركه نزواته وشهواته، فالمتكبر تراه يطلب التجمل إذا رآه الناس ولا يبال إذا انفرد بنفسه كيف كان.. وقال الشاعر: يا مظهر الكبر إعجاباً بصورته أبصر خلاء كأنّ المين تثريبُ لو فكر النّاس فيما في بطونهم ما استشعر الكبر شبّانٌ ولا شيبُ على العكس تماماً التواضع يجعلك تقترب أكثر من نفسك لتسمو أكثر تماماً، مثلاً السجود فكلما دنوت لتسجد لله كنت قريباً منه أكثر، ولقد قالوا: أروع ما في السجود هو أنك تهمس في أذن الأرض فيسمعك من في السماء. ولكي تحقق شرط التواضع من غير مذلة فقد قال الإمام الغزالي في إحياء علوم الدين: التواضع كسائر الأخلاق له طرفان ووسط، فطرفه الذي يميل إلى الزيادة [ص: 253] يسمى تكبراً، وطرفه الذي يميل إلى النقصان يسمى تخسساً ومذلة، والوسط يسمى تواضعاً، والمحمود أن يتواضع في غير مذلة وتخاسس، فإن كلاً طرفا قصد الأمور ذميم وأحب الأمور إلى الله تعالى أوساطها، فمن يتقدم على أمثاله فهو متكبر، ومن يتأخر عنهم فهو متواضع، أي وضع شيئاً من قدره الذي يستحقه، ويقال: لا عز إلا لمن تذلل لله عز وجل ولا رفعة إلا لمن تواضع لله عز وجل ولا أمن إلا لمن خاف الله عز وجل ولا ربح إلا لمن ابتاع نفسه من الله عز وجل. إن المتواضعين على المستوى الإنساني أو الروحاني تجدهم يزرعون البسمة هنا وهناك يفعمون حياتهم وحياة الآخرين بالحيوية والنشاط، يعيشون حياة بسيطة في خارجها لكنها عظيمة في داخل نفوسهم ، فالجنة التي تعيش بداخلهم تشع رواحها عبر ألسنتهم وحركاتهم يؤثرون ويتأثرون هؤلاء وجودهم كالنسمات لا نشعر بوجودهم و تفتقدهم عند غيابهم لنظل نبحث عنهم، قوة جاذبيتهم هي تواضعهم وهذه الجاذبية لا تقاس إلا في مقاييس أهل الجنة. في المقابل هناك أناس تضيق صدورنا لوجودهم، يزدحم المكان بروائحهم يزداد المكان ظلمة بأحاديثهم، تتكدر الدقائق والثواني معهم وتشعر بآدميتك وأنت معهم، هؤلاء هم المتغطرسون، تواضع تكن كالنجم لاح لناظرٍ على صفحات الجو وهو رفيعُ ولا تكُ كالدخان يعلو بذاته إلى طبقات الجو وهو وضيعُ ..الشافعي ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعا فكم تحتها قوم همُ منك أرفعُ فإن كنت في عز وحزر ومنعة فكم مات من قوم همُ منك أمنعُ فعليك أن تتجاوز حدود عقلك لتغور في أرجاء نفسك الطيبة لتعيش الجنة بداخلك تكون صفاتك، كما قال أبو الدرداء: إنهم لا يلعنون شيئاً ولا يؤذونه ولا يحقرونه ولا يتطاولون عليه ولا يحسدون أحداً ولا يحصرون على الدنيا، هم أطيب الناس خيراً وألينهم عريكة وأسخاهم نفساً علامتهم السخاء وسجيتهم البشاشة وصفتهم السلامة ليسوا اليوم في خشية وغداً في غفلة ولكن مدامين على حالهم الظاهر، وهم فيما بينهم وبين ربهم لا تدركهم الرياح العواصف ولا الخيل المجراة، قلوبهم تصعد ارتياحاً إلى الله واشتياقاً إليه وقدماً في استباق الخيرات. اللهم اجعلنا منهم ومن أهل الجنة.