وصف الرحالة الدنمركي نيبور مدينة صنعاء خلال زيارته لها مع أفراد البعثة الدنمركية خلال القرن السابع عشر الميلادي «بأنهم شاهدو الدخان المتصاعد من مداخن البيوت المختلط ببخار المطر يغطي جوانب التلال وكل شيء جميل في سكونه وحركته وطائر الوروار يجثم على أحد الغضون ليعود إلى نفس الغصن الذي طار منه ، فهذا شذا الأرض الطري ينقله الهواء من حولهم وهذه هي فعلاً قطرات المطر المتساقطة من الأشجار. إنهم ليسوا في حلم ، إنهم أمام مدينة صنعاء عاصمة العربية السعيدة ». ووصفها الرحالة والكاتب العربي الشهير أمين الريحاني خلال عشرينيات القرن الماضي «إننا لا نزال بين صنعاء وجبل عصر في سهل واسع مزروع شاءت الطبيعة أن يكون ربيعه دائماً - إن الهواء والسماء والماء تبتسم كلها لأرض اليمن». كما وصف مدينة إب بقوله «كأنها حفنة من اللؤلؤ على بساط أخضر مفروش في بحيرة تملأ العين بهجة والنفس سروراً». ومدينة جبلة في عهد الدولة الصليحية قال فيها المؤرخون بأنها تقع بين نهرين دائمين طوال العام. ووصف الرحالة الايطالي باول مدينة تعز عام 1840م قائلاً: « كل سهل في تعز مغطى بالمزارع التي كانت تسقى بواسطة قنوات توصل إليها المياه من جبل صبر ومدينة تعز غارقة في الخضرة وتشبه الجزيرة وسط البحر ولا يسمع المرء في هذا السكون الخالي إلا شدو العصافير وغناء الطيور». كما ان اختطاط موقع مدينة تعز في الموضع الذي هي عليه الآن لم يكن اعتباطياً بل كان مقصوداً، لكي يكون جبل صبر مصدر مائها والقاهرة حصنها المنيع ووادي عصيفرة والضباب فدانها وسهل الجند سلة غذائها، ويؤكد المؤرخ ابن الديبع الذي عاصر الدولة الرسولية والتي اتخذت من تعز عاصمة لها بأن المدينة «كانت عامرة بالقصور الفخمة والتي زينوها بالبساتين الخضراء وبالعديد من أصناف الفواكه والتي قيل بأنهم أرسلوا في طلبها من مصر والهند». هكذا كانت المدن اليمنية القديمة في غاية الروعة والصفاء والجمال لأنها كانت تبنى وفق عرف اجتماعي غاية في الدقة والتنسيق والابداع ، لقد كانت تبنى المساكن فوق المناطق الصلبة والقوية التي تتحمل البناء ولا تصلح للزراعة، فضلاً عن التوسع الرأسي للمبنى والذي يتكوّن عادة من عدة طوابق مرتفعة تسكن فيه أكثر من أسرة بالإضافة إلى بناء تلك المساكن في مساحات صغيرة ومحددة تلتقي كلها عند سقف واحد وحوش وبستان واحد . ومن ينظر الى المدن القديمة لليمن تتجسد أمامه هذه الصورة الرائعة في هندسة البناء والتعامل الجيد مع البيئة، حيث يتم التوسع في الجانب الرأسي لطوابق متعددة تصل في بعض الأحيان إلى أكثر من سبع طوابق وفي مساحة صغيرة تستوعب كل أفراد الأسرة و لا يزال هذا التلاحم الاجتماعي قائم في مراكز المدن القديمة الى اليوم ، كما كانت تلك المدن اليمنية تقع خلف الأسوار التي تحد من توسعها وتجبر ساكنيها على التوسع الرأسي بالإضافة إلى حمايتها من هجوم الأعداء إن مدينة تعز كانت أكثر كثافة وأكثر ازدحاماً بالسكان عما هي عليه اليوم حسب ما أورده المؤرخ اليمني محمد المجاهد في كتابه«تعز غصن نظير في دوحة التاريخ» لكنها لم تخرج عن وصاية ذلك السور هي ومعظم المدن اليمنية إلا في الفترات القريبة بسبب التوسع العشوائي للبناء والذي تعاني منه تعز وكل المدن اليمنية باستثناء مدينة عدن أثناء فترة الاستعمار فقط.. لقد كان البناء اليمني القديم يراعي الظروف البيئية للمنطقة، فكانت الأحجار من نفس البيئية بالإضافة الى استخدام كل مواد البناء والتجميل من البيئة المحلية والتي كانت تتناسب مع كل فصول السنة وكان البيت اليمني سواء في المدينة أو الريف يعتبر مخزناً للحبوب والمواد الغذائية ومسكناً للحيوانات الداجنة في الدور الأول فضلاً عن أن سطح البيت ونوافذ الغرف بمثابة مشتل جميل تزرع فيه النباتات والشتلات المنزلية من مشاقر وروائح وزهور وخضروات تضفي على المكان الروعة والجمال، ونظراً للاحتياج للمياه فقد كانت أسطح المنازل بمثابة خزانات مائية أثناء سقوط الأمطار، بحيث يتم تصريف تلك المياه القادمة من سطح المنزل وتوزيعها إلى الحمامات والمطابخ وما بقي يُجمع في خزانات خاصة بحفظ المياه إلى فترة الجفاف، لقد كان المخطط اليمنيسابقاً يراعى في البناء الظروف المناخية والمتعلقة بنزول الأمطار وهبوب الرياح الباردة فكانت معظم الأبواب و النوافذ تقع في الجهات الجنوبية والشرقية والغربية تلافياً للبرد القادم من النواحي الشمالية. إن سر عظمة الإنسان اليمني القديم وعبقريته تكمن في تعامله السليم مع البيئية التي يعيش فيها، فقد وجدت الأمطار الموسمية في الصيف، لذلك اهتم الإنسان اليمني القديم بترشيد مياه الأمطار ووسائل تصريفها عن طريق حسن ترشيد مياه السيول من خلال إقامة السدود والحواجز المائية والصهاريج والبرك والقنوات، لضمان توفير أكبر كمية من المياه اللازمة لسقي الأرض في المواسم غير المطيرة ولذلك فقد تحولت المرتفعات في جنوب شبه الجزيرة العربية إلى مدرجات خضراء طوال العام وصدق الشاعر اليمني القديم حينما يفاخر بذلك بقوله: وفي البقعة الخضراء من أرض يحصب ثمانون سداً تقذف الماء سائلا وتشهد على ذلك مئات السدود والقنوات والتي شيدها اليمنيون القدماء في مختلف أرجاء البلاد ولا أدل على ذلك الجهد الكبير الذي بذلته الحضارة اليمنية القديمة بتحويل الصحراء إلى جنة وارفة الظلال ببناء سد مأرب الجبار والتي أكدت عليها المصادر التاريخية. وصفها القران الكريم بأنها جنتان عن يمين وشمال ، كما أطلق عليها الإغريق ببلاد العربية السعيدة وعرفها العرب باليمن الخضراء وذلك بسبب الحالة الاقتصادية المتقدمة التي وصلوا إليها نتيجة للاهتمام بالزراعة والمتاجرة بالمحصولات المرتبطة بالزراعة، فكانت أهم السلع المصدرة هي التوابل والمر والعطور والصمغ والبخور. لقد تجسدت الحكمة اليمنية في الحضارة القديمة لكنها غابت عندنا نحن في حضارة القرن الواحد والعشرين. فالمياه التي كانت تسقط سابقاً هي نفس المياه التي تسقط علينا حالياً وفوق سنة كونية ثابتة لم تتغير لكن للأسف الشديد تغيرت طريقة تعاملنا مع تلك المياه الهاطلة من السماء فمعظمها اليوم تذهب سدى إما الى الصحراء وإما الى البحر ناهيكم عن التوسع العمراني العشوائي الذي لا تحكمه نظم أو محددات، فاليمنيون ينهكون الأرض بالبناء مما أنهك الطبيعة في اليمن وحول مدننا الجميلة الى كتل كبيرة من الاسمنت والحديد خالية من كل معاني الجمال والذوق والتي تسببت في طمس وتشويه الشكل الحضاري للمدن اليمنية فضلاً عن عدم توحد النمط أو الشكل الموحد للبناء من حيث المواد الداخلة في البناء ومستوى الارتفاع ولون المبنى وغيرها من الجماليات التي غابت في معظم المدن اليمنية . ان العناصر الأساسية المساعدة في زيادة انتشار هذه الظاهرة الهجرة الداخلية والمتزايدة على المدن اليمنية وبعقلية الريف والبحث عن الأرض الرخيصة الثمن وذات مساحات صغيرة والبناء بالبلك يمثل عاملا مساعدا في سرعة قيام البناء العشوائي ليلا أو نهارا فخلال ساعات ينجز المبنى الذي غالبا ما يتكون من غرفة أو غرفتين ومطبخ وحمام حيث يقوم المخالف بتجهيز البلك والنوافذ والقمريات والأخشاب والنساء والأطفال الذين يسكنون المبنى فور انتهاء عملية البناء, في ظل غياب وصمت الجهات ذات العلاقة والممثلة بالسلطة المحلية ووزارة الإسكان والتخطيط الحضري مما أدى إلى تنامي هذه الظاهرة المنتشرة والتي تلتهم الأراضي الزراعية والأحواض المائية والمتمثلة بهذا الزحف العمراني الهائل بشتى صوره المختلفة على ما تبقى من مناطق زراعية في ضواحي وأطراف المدن . ان انعدام الغطاء النباتي والمساحات الخضراء داخل المدن اليمنية أدى الى زحف العوائق الترابية حيث باتت الأجواء داخل المدينةترابية للغاية ان الغطاء النباتي يكاد يكون منعدم في معظم المدن اليمنية والتي غيب فيها الجانب البيئي كثيرا أثناء التخطيط ، فلا توجد مسطحات خضراء او متنفسات طبيعية او أشجار والتي تعمل على تنقية الهواء وخفض نسبة التربة فضلا عن ان الشجرة تعتبر رئة المدينة والتي تأخذ أول اوكسيد الكربون وتمنحنا الأوكسجين اللازم لاستمرار الحياة على سطح الأرض . ما نلاحظه جميعا هذه الأيام ان المدن اليمنية اختفت فيها الأشجار والمسطحات الخضراء والمناطق الزراعية سواء داخل الأحياء وخارجها باستثناء مدينة صنعاء القديمة وذلك بسبب التوسع العمراني الكبير والهجوم الخراساني الكاسح والذي فتك بالكثير من المناطق الزراعية الخصبة وخير مثال على ذلك مدينة اب في ظل صمت كبير ومخيف للجهات الحكومية المعنية و كم نشعر جميعا بالألم لتراجع اللون الأخضر في عاصمة اللواء الأخضر ، وذلك بعد التوسع العمراني الكبير الذي تشهده المنطقة فقد اختفت المناطق الزراعية والمسطحات الخضراء ممّا أفقدا لمدينة بريقها وذلك بعد تعمد بعض ملاك الأراضي إخفاء الملامح الزراعية في بعض الأحياء وتحويل الأراضي إلى مخططات سكنية ومناطق تجارية غير مدركين أهمية بقاء ونشر المساحات الخضراء للحفاظ على البيئة . هذه المظاهر جميعها تشير إلى حدوث خلل في عملية التخطيط والتي غالباً لم تأخذ النواحي البيئية بالاعتبار، بينما تم التركيز على النواحي الاقتصادية والتنموية فقط وبما أن البيئة أساس التنمية المستدامة والحفاظ عليها يعني ديمومة النشاطات الأخرى، لذلك تأتي أهمية التخطيط البيئي لاستعمالات الأراضي لأخذ الأولويات البيئية والتحذير من الظواهر السلبية التي بدأت تؤثر بوضوح على المنطقة، ولعلّ أبرزها تدهور التربة وتراجع المناطق الخضراء ونضوب الموارد المائية بسب التوسع العمراني والذي أدى إلى تدهور الموارد الطبيعية أن ارتفاع معدل النمو السكاني أدى إلى ازدياد حاجة السكان للبناء وهذا يعني استغلال كل المساحات داخل المدن بشكل غير متوازن، مما أدى إلى ظهور مشكلات عديدة مثل التصحر وتناقص الغطاء النباتي الطبيعي، وتدهور الموارد المائية وانتشار الغبار والأتربة في سماء المدن والتي تؤدي الى انتشار العديد من الأمراض المتعلقة بالجهاز التنفسي بسبب تلوث الهواء لقلة الغطاء النباتي وفي الختام أقول بأنه لا حل لمشكلة التوسع العمراني العشوائي سوى وضع مخططات تليق بالمستقبل واسعة الأفق تكون بديلة للمدن المنتهية الصلاحية والتي لا روح فيها ولا جمال، ناهيكم من أن هذا الموضوع هام وكبير ومتداخل ولا بد من دق ناقوس الخطر لهذه الظاهرة والتي تنتشر بسرعة الريح دون تخطيط ودون إدراك للعواقب البيئية والسياحية أيضا ولا بد من تفعيل دور المخطط اليمني في هذا الجانب ومراعاة البعد البيئي عند التخطيط كما يجب العمل على توفير الغطاء النباتي ، وإيجاد مساحات خضراء ومتنفسات للسكان في التوسعات العمرانية الجديدة، وتوفير خدمات البنية التحتية في أماكن التوسع العمراني في المدن اليمنية وتحديد مواقعها حسب الاحتياجات الضرورية بمراتبها على مستوى القطاع والحي والحارة مما يسهم في تنظيم التوسعات العمرانية في المدن اليمنية والحفاظ على هويتها، وإعادة النظر في التشريعات العمرانية بما يكفل الحفاظ على الهوية التخطيطية – المعمارية . في مسار توسع المدن وبما يتناغم وسلامة بيئتها والارتقاء بأدائها ضمن طيف استخدامات الأرض للمدينة، الى جانب ضرورة تحديد الأراضي الزراعية ذات التربة الخصبة والمخزون المائي كمناطق يحرم فيها البناء والتوسع العمراني .