لقد غطّت إشاعة خبر رفع الدعم عن المشتقات النفطية على كل الأخبار سواء عبر وسائل الإعلام التقليدية أم غير التقليدية أو مقايل القات وغيرها من المحافل، ومع تزايد الأزمة الناتجة عن شحّة المعروض من الديزل والبنزين والغاز تزداد حدة النقاش اشتعالاً، والأغلبية الساحقة تقف بالصف المعارض لرفع الدعم، تغذّيها المعارضة السياسية، وهذا الأمر طبيعي وخاصة مع غياب المقاربة العلمية والمتأنية والرصينة والجريئة من قبل خبراء الاقتصاد.. وقد جرت العادة في مجتمعنا أن كل شيء مفتوح للمماحكة السياسية، وفي مثل هذه المعارك السياسية تكون الغلبة لمن يمتلك الأصوات الأكثر ضجيجاً وجلبة وليس لمن يقف في صف الحق والعدل أو من يملك الرؤية الصائبة. ولأن مثل هذه المواضيع التي تصبح محل اهتمام الرأي العام المغلوب على أمره بفعل الضغوط والتجاذبات المضلّلة فإن العديد من المسؤولين الذين يمتلكون القرار أو يتحمّلون مسؤوليته عادةً ما يتهرّبون ولا يحبون إقحام أنفسهم في اتخاذ قرار يسيء إلى سمعتهم مهما كان له من فوائد أو نتائج إيجابية تخدم المواطن. ولهذا فإن الواجب يحتم علينا أن نشجّع أي مسؤول يصارح الشعب بالحقيقة مهما كانت مرّةً، ومن هذا المنطق فإني أحيي الأخ صخر الوجيه، وزير المالية على موقفه الجريء حول الموضوع، فقد علمت أنه قد طلب من مجلس النواب الموافقة على رفع الدعم، فغيره كان من الممكن أن يصمت وينقل المشكلة أو «البؤرة» لمن يأتي بعده «علماً أنني لا تربطني أية صداقة شخصية مع الأخ الوزير». ورغم أن مثلي قد يتجاهل الموضوع باعتبار أنه لا ناقة لي به ولا جمل، كوني لست مسؤولاً حكومياً ولا مكلّفاً به، إلا أنني أعتبر أن واجبي الوطني يحتّم عليّ التدخُّل لإنصاف الوطن في قضية هي من أهم القضايا التي قد تعصف بالوطن إذا لم يتخذ القرار المناسب في الوقت المناسب؛ خاصة أن الموضوع في صميم اختصاصي «الاقتصاد». ففي مجتمع يعاني التخلُّف كمجتمعنا قد تعوّدنا في كثير من الحالات طلب الحلول من أهلها أو أصحاب التخصُّص، فمن يمرض يذهب إلى الطبيب، والخلافات تُحل في المحاكم و......إلخ إلا القضايا الأساسية التي تمس لقمة العيش أو مصلحة الوطن والمواطن؛ على رغم أهميتها وحيويتها إلا أننا للأسف لم نطرحها على قضاتها وهم خبراء الاقتصاد، وعوضاً عن ذلك يكون مصيرها أدراج ودهاليز السياسة، وهو أمر يشابه المريض عندما يختار الشعوذة بديلاً عن الطبيب، ولهذا فلا عجب أن نرى الحكومات المتعاقبة خلال العقدين الماضيين لا ترى حاجة لخبراء الاقتصاد، ولنبدأ بتلمُّس أهم إيجابيات وسلبيات الدعم: أولاً: الإيجابيات دعم الديزل يساعد في تخفيض تكاليف نقل السلع الزراعية والصناعية ومواد البناء وتخفيض أجور مضخّات المياه وتوليد الكهرباء...إلخ، بينما دعم أسعار الغاز يساعد في تخفيض كلفة الطبخ في المنازل والمطاعم والتنقل بالسيارات التي تعمل بالغاز، كما يساعد في التخفيف من استخدام الحطب وبالتالي يحمي الغطاء النباتي من النفاد، ويحافظ على بقاء التربة في المناطق الجبلية. أما دعم البنزين فهو يؤدّي إلى تشجيع الحركة والسفر والتنقُّل بأسعار زهيدة. ثانياً: السلبيات أما السلبيات فهي عديدة؛ أبرزها أن الدعم معناه المساعدة، والمساعدة لا تكون مشروعة إلا إذا كانت لصالح الفقراء ذوي الحاجة، ودعم المشتقات النفطية لا يصل منه إلى الفقراء إلا الجزء اليسير، فأغلب الدعم يذهب إلى جيوب الأغنياء ممن يملكون وسائل النقل أو من يمتلكون إمكانيات التنقل ويسرفون فيه ويساعد على زحام السيارات في الشوارع، ومن يصر على أن هذا النوع من الدعم هو للفقراء كمن يقرُّ دعم لأحد المساكين الذي يسكن في حارة ما وبدلاً من أن يتعب في البحث عن الفقير ليسلّم له مبلغ الدعم؛ يقوم بدلاً عن ذلك بتوزيع المبلغ على كل أهل الحارة على أمل أن يكون الفقير أحد المستفيدين..!!. وقد أجاز علماء الاقتصاد وحبّذوا بعض أنواع الدعم التي تساعد القطاعات الإنتاجية على النهوض في البلدان النامية، ولكن ذلك يجب أن يتم عبر وسائل تدعم القطاعات الإنتاجية مباشرة دون غيرها وتحافظ على الاستدامة مع ضمان عدم تسرُّب الدعم إلى غير مستحقيه، وهو أمر لم يكفله دعم المشتقات النفطية حيث الدعم بهذه الطريقة يصل إلى الفئات والقطاعات الخطأ. وفوق كل ذلك فإن الدعم يجب أن يكون مصدره فائض الدخل أو حتى نسبة ضئيلة من الدخل أو غير مؤثّرة على القطاعات الإنتاجية، وهذا أمر لا ينطبق على الحال في بلادنا، فقد بلغ حجم الدعم مبالغ كبيرة تفوق إمكانات الاقتصاد الوطني؛ بل شكّلت عامل إعاقة دائمة لنموّه وخاصة أنها ترافقت مع تزايد الإنفاق وانخفاض الدخل لأسباب معروفة. لقد حاولت الحصول على أرقام مؤكدة من وزارة المالية ولم أتمكن من ذلك، ولكن قيل لي من أحد الأصدقاء إن دعم الديزل فقط بلغ مائتين وخمسة وثمانين مليار ريال، ومن الانترنت حصلت على رقم يبلغ ثلاثمائة وواحداً وثلاثين مليار ريال في موازنة هذا العام 2014م؛ على أساس سعر برميل النفط الخام 75 دولاراً أمريكياً، وهو مبلغ مهول خاصة إذا ما تم حسابه على أساس سعر البرميل الفعلي والذي يتراوح بين «107 - 117» دولاراً أمريكياً للبرميل تقريباً. ففي هذه الحالة قد يصل فعلياً إلى خمسمائة مليار ريال, وحيث إن المبلغ يموّل عبر «أذون الخزانة» بفائدة قدرها 15 % تقريباً، فسنضيف مبلغ الفائدة والذي يبلغ تقريبا «75» مليار ريال، وبالتالي فإن المبلغ الفعلي سيبلغ خمسمائة وخمسة وسبعين مليار ريال، وهو مبلغ كبير قد يشكّل نسبة تصل إلى 20 % من الموازنة العامة للدولة، ويشكّل إعاقة لعملية التنمية, لأن سحب مبلغ بهذا الحجم من البنوك المحلية يحرم القطاعات الإنتاجية أهم عامل دافع لها وهو التمويل. كما أنه يساوي حوالي اثنين مليار وسبعمائة ألف دولار «بعد تحرير هذه الدراسة؛ أكد لي أحد المسؤولين أن مبلغ الدعم يفوق الثلاثة مليارات دولار أمريكي» وهو مبلغ يقرب من نصف المساعدات الدولية التي أقرّت لبلادنا بمبلغ حوالي ستة مليارات دولار، والذي بات شبه مؤكد أننا لن نحصل عليه إلا بعد إلغاء الدعم للمواد البترولية؛ لأنه يشكّل أحد الشروط الجوهرية التي يجب علينا إنجازها قبل أن نستحق المساعدات الدولية بحسب شروط الدول والمنظمات المانحة. ولهذا فإننا أمام وضع صعب للغاية في حالة عدم رفع الدعم الآن؛ لأن أي تأخير سيترتب عليه تأخير الحصول على المساعدات الدولية، وهو أمر سيزيد بلادنا فقراً أو بؤساً. كما أن رفع الدعم يؤدّي إلى رفع أسعار النقل وغيرها من السلع والخدمات التي تستخدم المواد البترولية، والحقيقة أن الأزمة الأخيرة الناتجة عن نقص أو عدم توفر الديزل بالسوق قد ترتب عليها زيادة كبيرة في الأسعار، وإذا لم يرفع الدعم فإن الأزمة ستتفاقم وسترتفع الأسعار مع تفاقم الأزمة المتمثّلة في نقص الديزل والبنزين والغاز في السوق أكثر وأكثر وبالتالي فإن ارتفاع الأسعار أمر وارد ويصعب تجنّبه بأي حال مادام النقص مستمراً في الكميات المعروضة في السوق سواء تم إيقاف الدعم أم استمر الدعم، والحل الوحيد هو التخفيف من آثاره على الفئات الفقيرة؛ وهو أمر لا تستطيع الحكومة القيام به إلا إذا ألغت الدعم، كما أن الدعم يشكّل جزءاً لا يُستهان به من عملية الفساد، حيث يُعاد تصدير المواد المدعومة إلى الخارج لصالح عصابات الفساد. خطة لتوجيه الدعم لبناء غدٍ أفضل المطلوب إذاً ليس إلغاء الدعم؛ ولكن إعادة توجيهه لخدمة الجهات المستهدفة «الفقراء» ولدفع عملية التنمية إلى الأمام، هذا الهدف يمكن تحقيقه بتحويل المبالغ المخصّصة لدعم المواد البترولية إلى إعادة تخصيصها على النحو التالي: أولاً: تخفيف حدّة الفقر 1 - زيادة مخصّصات الدعم المقدّم للفقراء والمحالين إلى المعاش وأسر الشهداء. 2 - توسيع قاعدة المستفيدين لتشمل بقية الفقراء والمحتاجين والمعاقين والأيتام وإضافة التأمين الصحي لهم. 3 - توفير إعانات موقتة للعاطلين عن العمل حتى يجدوا لهم أعمالاً. ثانياً: دعم القطاعات الإنتاجية - تخصيص مبالغ تكفي لدعم القطاع الزراعي لرفع الكفاءة وتحقيق الاستدامة؛ وذلك عبر توفير شبكات الري الحديث بالتنقيط بأسعار زهيدة أو مجانية؛ وهو أمر حيوي يحقّق عدة أهداف ، منها تحسين الكفاءة الإنتاجية والاقتصادية في استخدام المياه بشكل كبير قد يصل فوق التسعين بالمائة، كما يؤكد خبراء الري وتقليل ملوحة التربة مما يحقّق الاستدامة ويقلّل من الاعتماد على أو الاحتياج للديزل اللازم لضخ المياه. كما يتم تخصيص مبالغ للدعم الفني لمساعدة الفلاحين على تحسين الزراعة، وترشيد استخدام المبيدات والكيماويات، وتقديم العون لتسويق المنتجات الزراعية في الداخل والخارج، وتوفير مخازن مناسبة حتى لا تتلف المحاصيل في حالة الوفرة في «الموسم». - تخصيص مبالغ لإنشاء منظومة مؤسسية تحقّق مجموعة من الأهداف في آنٍ واحد؛ كأن يتم إنشاء مؤسسة لتقديم الاستشارات ودراسات الجدوى والدعم للمشاريع الصغيرة، وإنشاء مصرف لتمويل المشاريع الصغيرة والأصغر والمنتجات الحرفية التقليدية بالإضافة إلى شركة استثمارية تسهم في إنشاء هذه المشاريع وتدخل شريكاً فيها، وتقدم الضمانات لإنجاحها بالإضافة إلى شركة تأمين لدعم هذه المشاريع بما فيها التأمين على القروض، وإنشاء شركات تسويق لمساعدة المشاريع الصغيرة في تسويق منتجاتها بالداخل والخارج. هذا المشروع إذا ما تم بالشكل المطلوب سيقضي على البطالة ويوظّف الشباب العاطلين عن العمل ويخلق طلباً على السلع والخدمات ويعزّز القدرة الإنتاجية فتدور عجلة التنمية. - تخصيص مبالغ كافية لإنشاء مصرف لتشجيع الصادرات والإنتاج المحلي. - تخصيص مبالغ لدعم المشاريع الإنتاجية التي ستتضرّر من تطبيق اتفاقية التجارة الحرة، وذلك برفع كفاءتها وتزويدها بالخبرات والاستشارات التي تمكّنها من الاستفادة من إيجابيات عضوية اليمن في المنظمة وتجنب سلبياتها؛ وذلك عبر إنشاء جهاز أو أجهزة متخصّصة مع مجموعة مستشارين اقتصاديين يكّلفوا بعمل دراسات متخصّصة تمكنهم من تقديم حلول ومقترحات لتطوير القطاع الإنتاجي المحلّي بما يتواكب مع متطلبات واستحقاقات المرحلة ولتطوير الأداء وتحسين القدرة التنافسية للاقتصاد اليمني، وإنشاء أجهزة لمكافحة الإغراق ودعم المنافسة. - تخصيص مبالغ لتعويض هيئة الاستثمار والأجهزة الأخرى في الدولة التي تتقاضى من المستثمرين رسوماً أخرى «إدارية وغيرها غير الرسوم الجمركية والضريبة» وإلزام هذه الجهات بعدم تحميل المستثمرين أي أعباء مهما كانت ضئيلة، ودعم الهيئة والأجهزة المختصة إلى الدرجة التي تمكنها من تقديم دراسات جدوى مجانية لمشاريع يمكّن تنفيذها من قبل القطاع وتقديم الدعم الفني والتسويق الخارجي كحافز إضافي لجذب الاستثمارات. - تخصيص مبالغ لإنشاء مناطق صناعية في كل إقليم لتوفير اللبنية التحتية اللازمة لدعم الصناعة بما يكفل إعادة توطين الصناعة وتوزيعها على كل الأقاليم وخاصة المناطق كثيفة السكان لامتصاص العمالة؛ على أن تكون هذه المناطق الصناعية بعيدة عن المدن المزدحمة وقريبة من مصادر مأمونة للمياه. - تخصيص مبالغ لدعم جهود البحث العلمي في مختلف التخصُّصات والاستفادة من التجربة التركية والمصرية «تجربة أحمد زويل» بإنشاء شبكة مراكز بحوث متخصّصة ومرتبطة ببعض الجامعات أو إنشاء جامعة نموذجية لدعم هذا التوجه. المخصّصات هذه كلها قد لا تصل إلى نصف المبلغ المخصّص لدعم الوقود حالياً وبقية المبلغ سيشكّل اللبنة الأولى لإصلاح الموازنة والتخلُّص من أهم عوامل تشويه بنية الاقتصاد وتحقيق الاستقرار المالي، حيث ستتمكّن وزارة المالية من تخفيض الدين المحلّي أو المبالغ المخصّصة لشراء «أذون خزينة» بمقدار هذا المبلغ؛ على شرط ألا تبتلعها زيادة الإنفاق الجاري «غير المبرّر».