لو أن عدي رشيد بدأ حياته السينمائية قبل غزو العراق، وهو أمر لم يكن ليحدث، لكان أخرج فيلم “كارنتينة” بنفس الرؤية، وباختلاف المشهدية فقط، ففي العراق لم تتوقف الحرب منذ عقود طويلة، ولم يتوقف منطق الحرب عن إثبات وجوده في الحياة اليومية للعراقيين طوال أعمار أجيال بأكملها. فللحرب منطقها الميلودرامي المختلف دائماً، كما أن لها اقتصادها المختلف، وبعد الحرب، أو بدءاً منها، لا يعود أي شيء كما كان، بل إن الحرب تنتج قيماً جديدة، ومهنا جديدة، وحياة جديدة، لكنها حياة لا فرق بينها والموت. وللحرب أيضاً سينماها المختلفة. والحرب في العراق أنتجت أشياء جديدة كثيرة، بينها مثلاً مهنة القتل، وهي المهنة التي صارت الأكثر رواجاً في زمن ما بعد صدام حسين، وجعلت من العراق بلداً كالجحيم، لا يمكن العيش فيه إلا إكراهاً، كما أن هذه الحرب أنتجت سينماها المختلفة أيضاً، سينما عراقية بدأت منذ ما بعد غياب صدام حسين تنتج مشهدية الموت والدمار التي صارت عنوان العراق، وحكاية له منذ 11عاماً. و”كارنتينة” ليس فقط أحد أفلام مشهدية الحرب في العراق، بل هو أحد أنضج وأكمل هذه الأفلام، ويتفوق على غيره من الأفلام العراقية بابتعاده عن الغنائية، واهتمامه بالتفاصيل اليومية لحياة مجموعة من العراقيين الذين تؤثر الحرب على حياتهم، وتزرعهم أكثر في قلب مأساتها، كما أنه ينأى بنفسه عن اقتراح الحلول، أو مخاطبة الضمائر. يبدأ “كارنتينة” بمواجهة المُشاهد بمنظر نهر تلوثه المخلفات والقمامة، وهي إشارة تنبيهية بأن البيئة التي يعالجها الفيلم ملوثة وغير نقية، حيث ثمة رغبة لدى عدي رشيد للتعبير عن حبه لبغداد التي كانت نقية، فالمياه ترمز لذلك، وهذا نهر دجلة، لكن بغداد لم تصبح كارنتينة فحسب، بل ومكب قمامة كبير، حيث اسم الفيلم فيشير إلى ما صارت عليه بغداد بعد الغزو، فهي لم تعد سوى كارنتينة، أي محجر أو مصحة عقلية، فمن يعيش في هذه المدينة السجن فقدوا عقولهم وبدأوا يعتاشون على الموت والخراب المادي والنفسي لبعضهم البعض. البطل الرئيسي في الفيلم شاب فاشل في دراسته وحياته، يكرهه والده ولذا يبتعد عنه ويعيش منفرداً في غرفة تعلو منزل أسرة مكونة من زوجين وطفليهما، الأنثى التي تعاني من مرض نفسي يمنعها من الكلام أو العيش بشكل طبيعي، والولد الذي يدرس في الصباح، ويعمل ماسحاً للأحذية في المساء. وقد يبدو عدم وجود أي مبرر درامي لحالة ووضع كل شخصية في الفيلم عيباً فنياً خطيراً، غير أن عدي رشيد جعل من هذا محسناً درامياً يشي بنضج رؤيته، فكل عراقي أو عراقية يمكن أن يكون أحد شخصيات الفيلم، وبالتالي فلا ضرورة لتبرير حالة أي شخصية، لأن كل شيء يحدث في العراق يوصل إلى نفس النتائج تقريباً، كل حالة هي نتيجة وضع يعيشه العراق منذ عقود، وبالتالي فكل شخصية عراقية يمكنها أن تكون أي شخصية في الفيلم، الجميع ضحايا والجميع تقريباً مذنبون، ليس لأنهم مذنبون أصلاً، بل لأن ثمة نظام يحكم حياتهم، ولا يملكون إزائه إلا أن يحاولوا الاحتفاظ بما تبقى لهم من إنسانية. تشير كل شخصية إلى جزء من مأساة العراق، فحالة الطفلة مريم التي تعاني من مرض نفسي وتعجز عن الكلام، تشير إلى المجتمع العراقي الذي صار عاجزاً ومريضاً، ويفشل في مداواة جراحه أو حتى وصفها ومخاطبة الآخرين عن نفسه، وهناك الطفل الذي يمثل العراق الباحث عن حقه في الحياة، فهو يلتزم بدراسته ويعمل ماسحاً للأحذية بعد الانتهاء منها، وهناك الأم التي جسدتها آلاء عبد المجيد، وتعاني من سطوة الزوج -الذي قام بدوره حاتم عودة- وقسوته الذكورية، الأمر الذي يدفعها إلى خيانته مع القاتل المأجور الذي يسكن أعلى شقتهم، وكأنها إشارة إلى اضطرار العراق لاستقدام محتل أجنبي بسبب قسوة الحاكم المحلي، أما الزوج فهو ذاته السلطة العنيفة الصارمة مع الأسرة، والمستسلمة الخائفة أمام الآخرين، وهي السلطة التي تكون محور مشاكل الأسرة وأزمتها. ولأن القاتل فاشل في دراسته فهو يسرق كتاب الرياضيات المدرسي للطفل ويحرقه، لكن الطفل الذي لا يتخلى عن حقه في التعليم يبحث عن كتاب آخر، ويظل يبحث لوقت طويل حتى يجد ضالته عن أحد زملائه الذي يشترط أن يمنحه كتابه مقابل سكين، هنا ثمة قاتل آخر يستبدل العلم بالقتل، وهذه كلها إشارات نجح فيها عدي إلى حد بعيد. يعمل الفيلم على التحليل النفسي لمهنة القتل، أو لأسباب العنف نفسها، فالقاتل المأجور لا يلتزم بقائمة الشخصيات التي يستلمها من الوسيط بينه والجهة التي تمول عمليات القتل، يقتل مثلاً زوج حبيبته السابقة انتقاماً من حبه الفاشل، وانتقاماً من المعرفة ذاتها، حيث هذا الرجل مدرس جامعي، وغالبية ضحايا هذا القاتل هم من حملة شهادة الدكتوراه العاملين في الجامعات.. ولا يلتزم القاتل بالقائمة المسلمة له، فهو يفرغ عقده الشخصية في الضحايا، وهو ما يريد المخرج أن يقوله، حيث العنف لا ينمو ويزدهر لوجود جهات سياسية تدفع وتمول؛ بل ولأن ثمة أفراد هم ضحايا أزمات المجتمع، ولديهم ثارات شخصية معه يلجئون إلى ممارسة العنف كردة فعل لإقصائهم أو لفشلهم. فشخصية القاتل التي أداها بجدارة أسعد عبد المجيد تعمل على تفكيك أية روابط عاطفية خارج إطارها، ولأن هذه العملية تحقق تراكماً تصاعدياً؛ فإنها تصل بصاحبها إلى ممارسة ذات فعل الحب، أي أنها تصل إلى ممارسة لذة التدمير لحياة وبيئة الحب ذاته، فالقاتل يؤذي حبيبته السابقة بقتل زوجها، الأمر لا يتعلق هنا بالغيرة أو الفشل فحسب؛ بل وبالحب ذاته. يشير الفيلم إلى وحشية ما يحدث في بغداد ليس من خلال عمليات القتل ذاتها، بل من خلال ردة فعل الناس أمامها، ففي أول عملية قتل يدخل القاتل منزلاً ويطلق النار على رجل فيه ويغادر ببساطة، وأثناء مغادرته يصادف مواطناً يرفع يديه بمجرد مشاهدته، أدرك المواطن أن الواقف أمامه قاتل فتعامل معه على هذا الأساس، إذ أن رفع اليدين ليس استسلاماً فحسب، بل تأكيداً للقاتل أنه فهم مهنته من مظهره. ولأكثر من مرة خلال الفيلم تتحرك مصفحة أميركية بشكل مذعور وبصوت هادر حتى ليخيل للمشاهد أنه يركب هذه المصفحة، ويعمل الصوت على تأكيد قوة حضور هذه المصفحة، أي تأكيداً على حضور المحتل في المشهد من وراء ستار، بل وبعين تتفحص كل شيء وتعمل على التأثير فيه بعمق، إذ يبدو في تلك المشاهد وكأننا نتابع ما يحدث من داخل المصفحة ذاتها، أو كأن صناعة الحدث تتم في هذه المصفحة، وفي إحدى المرات تمر الكاميرا من فتحة المصفحة على وجه القاتل لتثبت العلاقة بين عمليات القتل ووجود الاحتلال. يحاول الوسيط بين القاتل وجهات التمويل أن يؤكد للقاتل أنه مجرد سلاح للإيجار فقط، وليس من حقه القتل حسب مزاجه، لكن القتل يواصل التمرد، وهي إشارة أخرى إلى أن الوحش لن يلتزم بالأوامر بعد إطلاقه، ويضطر الوسيط إلى قتل القاتل نفسه تنفيذاً لأوامر جهات التمويل بعد مخالفته الأوامر أكثر من مرة، ويذهب به إلى النهر ليلقي بجثته هناك، وينتهي الفيلم بنفس اللقطة التي بدأ بها، لكن مع إضافة جثة ودمائها إلى التلوث الذي أصاب مياه النهر، وهي إشارة أخرى ذكية، حيث أن المجتمع لن يخلو من الأزمات الأخلاقية حتى مع التخلص من القتلة، لأن القتلة أصبحوا جزءاً من هذه الأزمات حتى وهم موتى، بل وإن ثمة من يخلفهم ليستمر العنف. يبدو “كارنتينة” سوداوياً، وكأنه يوحي أن العراق أصبحت مكاناً مغلقاً للموت والعنف، لكنه لم يغلق المشهد إلا بنافذة أمل جسدها الطفل الذي يتعلم ويعمل، وبهروب الأم من سطوة الزوج تاركة إياه يواجه وحشيته ووحشية المحيط لوحده. والفيلم الذي يمنح أملاً ضئيلاً ينتهي بمشهدين كأنهما الخلاص من كابوس، إذ يلقى القاتل مصرعه في مباغتة من مساعده وتلقى جثته في النهر لتمتزج الدماء بالمخلفات، كما تتمكن الأم من التمرد على سلطة الأب وتغادر البيت مع ولديها. وهذا الهروب الذي أنقذت فيه الزوجة نفسها وطفليها يمثل محوراً ثانوياً في الفيلم، كإعلان عن صرخة أنثوية ضد ذكورية المجتمعات الشرقية وأبويتها. [email protected]