نانسي إبراهيم، اسم يتردّد كثيراً في المشهد الثقافي المصري، وصار له حضوره العربي في أكثر الفعاليات والمهرجانات العربية نقداً وشعراً، كالنحلة لا تحط رحالها في مهرجان إلا لتمنحه شهدها رحيقاً ناقداً حلواً ونثراً شهيّاً بلثغتها المحبّبة وابتسامتها التي لا تشبهها سوى ابتسامة «إيزيس» تمنح خصوبة قلبها لدلتا النيل فيورق الحب ويتسلّل النيل في قنوات أرضها كما يتسلّل همس نانسي في قلوب من يقابلونها فتسكنهم طيبة وأدباً وإبداعاً.. «الجمهورية» كانت السبّاقة في تأسيس جسر ثقافي عربي بين الأدباء والكتّاب والمبدعين العرب من خلال سلسلة من اللقاءات الأسبوعية لتكن نانسي إبراهيم أحد الشخصيات العربية الإبداعية التي كان لنا شرف استضافتها في هذا اللقاء، فإلى الحوار: .. من هي نانسي إبراهيم الإنسانة، ومن هي نانسي إبراهيم الأديبة والناقدة، هل هناك ثمّة مفترق بينهما..؟!. نانسي إبراهيم الإنسانة لا تنفصل مطلقاً عن الأديبة الناقدة، فهما وجهان لعملة واحدة قوامها الصدق والشفافية، فأنا أؤمن بأن أقصر الطرق بين نقطتين هو الطريق المستقيم؛ وذلك الأمر أفادني في حياتي الشخصية والعملية معاً. .. ما هو تقييمكِ للمشهد الثقافي العربي إجمالاً بعد أحداث الربيع العربي، هل استطاع المشهد الثقافي مواكبة الأحداث..؟. للأسف لم يواكب المشهد الثقافي أحداث ثورات الربيع العربي بالسرعة نفسها التي تصاعدت بها أحداث الثورات العربية التي انتشرت بسرعة اشتعال النار في الهشيم، بالرغم من وجود العديد من الأعمال الشعرية والروائية التي عبّرت عن تلك الحالة كقصيدة «اللغز» لأحمد مطر، وقصيدة (ارفع رأسك) لعبدالعزيز المقالح، وقصيدة (عزف منفرد على قيثار دمشقي) لأدونيس، و(تمرينات على كتابة الثورة) للمنصف الوهايبي، والكثير من الروايات (كالعنقاء والأفاعي) لبسمة حمدي، و(عمارة يعقوبيان) لعلاء الأسواني وغيرها من الأعمال الأدبية التي رصدت حالة الغضب أو عبّرت عن الأحداث، إلا أن الحدث الثوري كان أكبر من المتوقع، ولهذا لجأ الكثيرون إلى تمثل روح السابقين (كالشابي وأحمد شوقي، والشيخ إمام) وغيرهم، ولعل وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي الحديثة كانت هي المؤثر المباشر والمواكبة للثورات العربية بكل اتجاهاتها. .. هل استطاع تجاوز حالة الركود التي كان يعيشها..؟. لقد أحدثت الثورات العربية ارتباكاً لدى المجتمع بأسره؛ فقد انقسمت مواقف الأدباء ما بين مؤيدين ورافضين للثورة خشية أن تكون ثورات إسلامية أو معادية لبعض الأيديولوجيات السائدة، وبما أن الأدب يؤثّر ويتأثر بالوسط المحيط من حوله، سنجد أثراً لذلك الحراك الذي من شأنه أن يجعلنا أمام أنماط مختلفة من وسائل التعبير الأدبي سواء بالسلب أم بالإيجاب. .. قصيدة النثر العربية، أين هي اليوم مع وجود هذا الكم من الشعراء، والكم الهائل من وسائل الاتصال والمعلوماتية..؟. إن قصيدة النثر من أكثر الأشكال الفنية التي أحدثت جدلاً كبيراً بين كل مراحل الشعر العربي بالرغم من كونها لم تكن المحاولة الأولى للثورة على النمط العروض (الخليلي) المألوف، فقد نشأت من قبل، الموشحات، والمربعات، والمخمسات، والمسمطات، وامتدت إلى شعر التفعيلة، فهي تطوّر للثورة على العروض أو القيود، فتعرفها (سوزان برنار) بأنها “قطعة نثر موجزة بما فيه الكفاية، موحّدة، مضغوطة، كقطعة من بلور، خلق حر، ليس له من ضرورة غير رغبة المؤلف في البناء خارجاً عن كل تحديد، وشيء مضطرب، إيحاءاته لا نهائية” كما يشترط (أنسي الحاج) أن تكون على قدر كافٍ من التوهج والإيجاز والمجانية، وأعتقد أن النقاش حول ذلك النمط قد أخذ أكثر من حقه، فنصف قرن من الزمن تجعلنا نجزم بوجودها وتأثيرها سواء شئنا أم أبينا، ولكن تجدّد الجدل مع انتشار أو استسهال الكثير من الكتَّاب ذلك النمط الشعري مغفلين فنيتها واعتمادها على إيقاع الجملة وشعريتها والحروف والألفاظ، أو الموسيقى الداخلية للقصيدة، وتكثيف الدلالة بها، وهذا ما يمكن أن يحدث - أيضاً - مع النثر الخالص، ولهذا فأنا أُفضّل الانفصال ما بين القصيدة والنثرية، فلم لا يكون لدينا كتاب للنثر الخالص كمقطوعة فنية، لا تنتمي إلى البنى السردية المألوفة من رواية أو قصة أو مقال وغيرهم، بل تكون قطعة نثرية مقصودة لذاتها تتسم بالشاعرية ولدينا الكثير من الأمثال ككتابات (جبرا خليل جبرا، توفيق صايغ، ومحمد الماغوط، وأنسي الحاج) وغيرهم بالرغم من كونهم من رواد “قصيدة النثر” إذن فالإشكالية تكمن الآن في المصطلح، لا في وجود ذلك النمط الكتابي، وعلى كل حال فقد فات أوان النقاش فيه، وأخذ الكثير من الجدل مما يؤكد أننا نتوارث الإشكاليات أيضاً، برغم ظهور عدّة أنماط بالكتابة الشعرية بعدها، كالنص الحديث، والقصة الشاعرة، والتي عقد لها خمسة ملتقيات في القاهرة منذ ثورة 25، ولم يلتفت إليها أحد..!!. .. ما هي أسباب غياب المشهد النقدي الحقيقي عن الساحة الثقافية العربية، وهل نحن بحاجة إلى إعادة النظر في كل ما تنتجه الساحة الثقافية من خلال مشهد نقدي حقيقي..؟!. للنقد دوره العميق في توجيه وتبصير كل من المبدع والمتلقّي - على سواء - نحو مواضع القوة والضعف بالنص، والحقيقة أن النقد الأدبي لم يغب، ولكن غاب دوره، فقد غفل بعض النقاد عن دورهم الحقيقي في كونهم وسيطاً بين المبدع والمتلقي، ووظيفتهم الحقيقية بتأويل ما بين أيديهم من نصوص وإلقاء الضوء على ما قد يخفي عن المتلقي، فيفسر النص - حسب رؤيته - لا يزيده غموضاً؛ فينشغل المتلقي عن النص بالنقد محاولاً تفسيره، فقد تعمّد بعض النقاد التغريب وممارسات نظريات وألفاظ ليس لها ما يدعمها من النص، وبهذا يفتقد النقد وظيفته الرئيسة وهي “التبصير” كما يفتقد الممارسة العملية التي يدعمها النص ذاته، فقد اختفت أحكام القيمة، وحلَّت عوامل تحليل الخطاب واختفت الأحكام الانطباعية رغم أنها لم تختف عن النص الذي تم اختياره من الأساس، (وعن نفسي) فأنا لا أتناول نصاً لا أجد فيه نقدياً ما يقال، وبالطبع لابد من مشهد نقدي يغطّي كل المساحات الإبداعية بشتى صورها مع دقة اختيار النماذج وتنوعها لتواكب ذلك الكم الهائل من المبدعين والنصوص. .. هناك من يرى أن المشهد النقدي تسيطر عليه الشللية والمحسوبية وهو ما أدّى إلى ضعف المشهد النقدي المواكب للحراك الثقافي العربي..؟. كما قلت - سابقاً - فأنا لا أؤمن مطلقاً بنقد يغرّد خارج النص، والناقد يقع دوماً ما بين (المطرقة والسندان) بين ما يواكب ذائقته الشخصية وما يواكب النظريات الحداثية، وفي قراءة النص نجد الدراسات النفسية تشير إلى ذلك التأثير الذي يحيط بقارئ النص إن كان على معرفة ما يكاتبه، ولكن لا ينبغي أن يتجاوز ذلك التأثير (القراءة العاشقة للنص) فلا ضير في أن يقرأ الناقد نص مبدع بعينه فيبدع معه ومع نصوصه على أن يكون لكل حرف يكتبه ما يدعمه ويعمد إلى مقتطفات من هذا النص - تحديداً - دون غيره، فلا تتوحد الآليات النقدية مع كل النصوص، ومن ثمَّ كانت المعرفة بالعوامل المحيطة بكاتب النص أو فكره تشكّل إضاءة مهمّة لنقّاده، شريطة أن يبقى البطل الأول والأخير عند المبدع والناقد على سواء هو “النص” ومن هنا ظهرت عبارة «موت المؤلف» للناقد الفرنسي (رولان بارت) والمأخوذة من قول الفيلسوف الألماني (نيتشه) (موت الإله)، وهذا ما يجعل القراءة أكثر موضوعية، ويجعل للقارئ سلطة موازية لسلطة الكاتب، ويتوقف نجاح ذلك القارئ على كونه منتجاً للدلالات لا مستهلكاً لها فحسب، فحين يعتمد النقد على النص بصفة أولى ستختفي تلك المحسوبية، وسيصل النقد إلى الموضوعية المنشودة التي ترتقي بالذائقة ويعيد إلى النقد وظيفته الرئيسة وقيمته الحقيقة. .. كيف يمكن إنجاز جسر ثقافي عربي يقرّب بين المبدعين العرب في ظل ثورة المعلومات وتكنولوجيا الاتصال..؟. في رأيي لا تغني وسائل الاتصال التكنولوجية عن إقامة الملتقيات التي يلتقي بها المبدعون والمثقفون وجهاً لوجه، تماماً كمن يفضّل نسخة الكتاب الورقية عن الألكترونية (وأنا منهم) فهي وسيلة لا غاية، تقرّب بين أقطار الوطن العربي بشتى ثقافاتهم بهدف إذابة الأفكار وتقريب وجهات النظر، لكن من لا تسكنه تلك العولمة الثقافية سيظل حبيس بيئته وخبراته، لكن الذكي هو من يستغل كل ما حوله من إمكانات مع الحفاظ على هويّته في الوقت ذاته، فكل فرد فينا هو سفير ثقافته ووطنه وينبغي له في الوقت ذاته أن يستوعب ثقافة الآخر وفكره فيكون حينئذ سفيراً مزدوجاً من وإلى. وهنا يجب على المثقف أن يقف في منطقة الأعراف يأخذ ما يناسبه ويطوّعه ويطوّره ويصدر ما يريد عن ثقافته وبيئته، حينئذ يصبح استيراد وتصدير الأفكار والثقافات تجارة رابحة, فالثقافة تشمل البيئة والتواصل الإنساني والتراث والفنون الشعبية والأرستقراطية والطبيعة وحتى الأزياء وكل ما يحيط بالمبدع وما يشكل إبداعه، فوسائل المعلومات الحداثية تعطي لنا الناتج جاهزاً، لكن كي نكوّن ثقافة إنسانية حضارية ينبغي لنا من استغلال كل أشكال التفاعل وإن كانت هي الوسائل الأكثر تأثيراً وانتشاراً حالياً، وينبغي أيضاً أن نعرف أن ليس كل مبدع أو ناقد أو حتى قارئ يجيد التعامل مع هذه الوسائل، ولاسيما إن كان من وقت يسبق تلك الثورة المعلوماتية، فما كان أعظم المبدعين والنقاد وأرباب الفنون هم الأعظم استخداماً لوسائل التكنولوجيا، وإن كانت اليوم ضرورة ملحّة توفر الوقت والجهد والمال، لكنها لا تغني عن التفاعل الشامل فهي كما قلت وسيلة لا غاية. .. كلمة أخيرة تودين قولها..؟. وفي النهاية، أشكر جريدة «الجمهورية» على إتاحة الفرصة لي للتعبير عن بعض الآراء التي تشكّل جدلاً في أوساطنا العربية، وأرسل باقة ورد من أرض الكنانة «مصر» إلى أرض «اليمن السعيد» من حوار الحضارات إلى حوار الثقافات، متمنّية مزيداً من الاستقرار لشعوبنا العربية على كافة المستويات.