تؤدّي الصورة مهمّة سحرية بالغة التأثير، فهي تحطّم واقع وحقيقة أن الإنسان يرفض كل ما لا يتواءم مع اهتمامه ورغباته؛ لأن الصورة عندما تقع أمام العين تبدأ التأثير على التفكير والاهتمام، وتطلق في المخيلة العديد من الأفكار والتساؤلات بسرعات فائقة، وتتكاثف هذه الأفكار والتساؤلات كلما كانت الصورة تحمل سمات ومظاهر عالم لا تألفه العين، فالصورة هي تثبيت للزمن في لحظة معيّنة تُمكِّن المرء من استعادتها والتأمل فيها. إلا أن هذا التأمُّل لا ينحصر في العقل فقط، بل إنه يسقط في مركز العواطف وينفجر فيها، ويتعاظم تأثير الصورة كلما كانت غريبة، أو أنه تم تركيبها بطرق لم تألفها العين من قبل، ويزداد هذا التكاثف في الأفكار والتساؤلات إذا كانت الصورة متحرّكة، فكل حركة تصبح صورة لوحدها، وقبل أن يتم استيعاب ما فجّرته من أفكار وتساؤلات، تكون صورة أخرى قد سقطت في البال وفي عمق العاطفة أيضاً، وأطلقت موجة أخرى، وهكذا لا يعود العقل ولا العاطفة مسيطرين على الأحداث الحاصلة فيهما نتيجة تساقط الصور على مركزيهما، ولا يمكنهما بالطبع السيطرة على الأحداث التي تنقلها الصورة، فينقادان خلف تلك الوقائع بنفس بساطة وسهولة تتابع الصور أمام العين. إن تكرار الصورة أمام المتلقّي يفقدها حيويتها الفكرية، وينقل الفكر من زاوية التأمل إلى مساحة لممارسة سلوك ذهني يمكن تحويله إلى سلوك جسدي، فالصور لم تعد تلقائية أو تتدفّق لمجرد التسلية، فثمة عقل مسيطر ومحرّك يعمل على قيادة المشاهد التي تصنعها الصور، ويعيد إنتاجها بمعالم جديدة حسب خلفية ووعي وثقافة المتلقي. هذا التدفق الضخم من الصور، وهو تدفق عشوائي ولا يمكن تنظيمه، يحقّق في الفكر والسلوك إرباكاً مستمراً ومتذبذباً حسب كمية ونوعية الصور التي يتلقاها الذهن، ومن معالم هذا الإرباك، ثمة عملية الإحساس بالزمن، وهو الإحساس الذي يتغيّر بفعل تداخل أشياء كثيرة في الحياة، وبروز أحداث كبيرة ومهمّة على سياق المعيشة التي يُفترض أن تكون هادئة وطبيعية؛ إلا أن الصدمات التي يتلقّاها الذهن تجعل من الزمن مادة هلامية تتكاثف أو تتلاشى بحسب قوة وتأثير الحدث، لكن الصورة، وهي عملية تثبيت للزمن في مكان ما، ومن ثم إعادة إنتاجه في البال والواقع أيضاً تجعل الوعي بالزمن واستيعابه مسألة غاية في الحساسية، وهي أيضاً عملية غير مدركة. يؤكد المخرج الروسي الشهير أندريه تاركوفسكي: “كل أفلامي تشير إلى أن الناس ليسوا وحيدين ومهجورين في كون خالٍ، إنما هم متصلون بالماضي والمستقبل بخيوط لا تحصى، وأن كل فرد فيما يعيش حياته الخاصة يعقد رباطاً مع العالم بأسره ومع تاريخ البشرية كله... لكن الأمل بأن كل حياة منفصلة وكل نشاط إنساني له معنى جوهري يجعل مسؤولية الفرد تجاه المسلك الإجمالي للحياة أكبر على نحو لا يمكن التنبؤ به”. لكن تاركوفسكي يعتقد أن الزمن مجرد فكرة، أي أنه ليس حقيقة إلا بقدر تعاطينا معها ونقل هذا التعاطي إلى الواقع وهو يخص البشر وبه يتفقون على توثيق أحداثهم وتحديد المشتركات بينهم، تتمثّل إحدى أهم إشكاليات وجود السينما في أنها، كأي فن، وجدت لتعبّر عن ذات الإنسان وهمومه وتطلّعاته، وتنتج في ذات الوقت عوالم تخيلية لوجوده وإنجازاته، ولأن ليس من وظيفة الفن أن يكون معلماً أو موجهاً، إلا أنه لابد أن يعمل وبشكل غير مباشر أو مخطط له على تهذيب الروح سواء لدى الأفراد أم الجماعات وتدريبها على مواجهة أزمات الإنسانية والمخاطر التي تحيط بها وصراعاتها المهددة للوجود، إلا أن السينما والدراما عموماً أصبحت موجهاً وقائداً جماهيرياً خصوصاً مع تحوّلها إلى أكثر الفنون شعبوية وأشدّها تأثيراً وانتشاراً، فلم يعد بينها والمسرح والغناء مثلاً سوى قواسم مشتركة عريضة تختفي بين التفاصيل الكثيرة التي تنتجها السينما. وأدت شعبوية السينما إلى أن تصبح أحد فضاءات الإعلام، حتى إن الكثير من الجامعات حول العالم تقوم بتخصيص أقسام لها في كليات الإعلام، وبالعودة إلى تاركوفسكي، فهو يذهب إلى أن المشاهد حين يشتري تذكرته لدخول السينما، يبدو كمن يلتمس محاولة لسد النقص أو الثغرات في تجربته الخاصة، فيرمي نفسه في البحث عن الزمن المفقود، أي إلى ملء الفراغ الروحي الذي تشكّل نتيجة الشروط الخاصة لكينونته. إن السينما تمنح المرء فرصة تحقيق ذاته مجدّداً، بمعنى إنتاج ذاته التي فشل في تحقيقها في الواقع على الشاشة، الأمر الذي يجعل المخرجين قادرين على جذب المشاهدين بخفّة وبساطة، فهم يحقّقون لهم أحلامهم، وإعادة صياغة حياتهم، أي أن السينما يمكنها أن تفعل للمرء كل ما عجز عنه، وعلى هذا الأساس تقوم السينما بإعادة إنتاج الواقع والتلاعب بالزمن في سياقه لتحقّق تراكماً ذهنياً يمنح المشاهد فرصة اكتشاف ما ليس ممكناً على الواقع أصلاً، وبذا يُمكن التلاعب بهوية أي شيء بدءاً بهوية الإنسان الفرد ذاته وليس انتهاء بهويات الأمم والشعوب. ظلّ هاجس الحرب وصناعة الأعداء والمتربصين فضاء مفتوحاً أمام أية مؤسسات سينمائية خصوصاً تلك التي تحظى بدعم حكومي أو تقف خلفها مصالح كبرى تتجمع كلها في مركز السلطة السياسية والاقتصادية، ولم تتوقف هوليوود مثلاً عن إعادة استنساخ الماضي أو إنتاج الماضي في الحاضر بأكثر من طريقة، فهاجس الحرب الباردة لايزال قائماً ومسيطراً على المشهد الهوليوودي، لكنه صار أكثر ابتذالاً، ولا ينتج قيماً جمالية، بقدر ما يذهب إلى زراعة أنواع من الكراهية، فهو مثلاً يتعاطى مع شعوب أوروبا الشرقية وروسيا خصوصاً بنفس الصورة النمطية التي تمَّ إنتاجها منذ بدء الحرب البادرة، وحيث إن أفلام الحرب الباردة كانت قديماً تخلق أجواءها من وجود حرب حقيقية تدور في الخفاء والعلن بين أجهزة الأمن والمخابرات لدى المعسكرين الكبيرين في العالم حينها؛ فإن استمرار تلك الموجة لم يعد يجد له ما يبرّره آنياً بعد عقدين ونيف من انتهاء تلك الحرب سوى أن المؤسسات السينمائية أدمنت صناعة الأعداء، ولم تعد تستطيع التصالح مع الإنسان الذي أنتجت له مجموعة من التعريفات والنماذج التي كأنها أمست قدراً لا مهرب منه..!!. [email protected]