من زاويته الخاصة ينظر الدكتور محمد عبد الملك المتوكل إلى خصائص خمسين عاما مضت على حكم الإمامة التي لم يكن النظام بعدها إلا تغيير أشخاص فقط حسبما يذكر، فقد جاء حكام ما بعد سبتمبر جميعهم بنفس العقلية التي كان يحملها الإمام، ولهذا نقوم اليوم بثورة جديدة بنفس تلك الأهداف مشيرا إلى أن الشعب كان في اتجاه والنخبة الثقافية والسياسية في اتجاه آخر بدليل استمرارهم في الحرب الأهلية لثماني سنوات بعد الثورة، وأن الأهداف الستة للثورة لم تكن في الأصل هي أهدافهم أو من بنات أفكارهم، وهو يؤمل كثيرا اليوم على الشباب الواعين من مختلف التيارات الحزبية والثقافية لإرساء دعائم المجتمع اليمني بتطلعاته الجديدة.. - تهل علينا اليوم الذكرى الخمسون لثورة السادس والعشرين من سبتمبر المجيدة عام 1962م، حبذا لو عدنا بالذاكرة قليلا إلى الخلف مستقرئين الحدث من حيث هو؟ أولا أقول: إن ثمة مشكلة تتعلق بالثورات الشعبية بشكل عام، وهي أن أول من يفكر بها هم المثقفون والمتعلمون، لكنهم يعتمدون في ثوراتهم على قوى متخلفة لصناعة التغيير، فتصنع التغيير فعلا ثم تعود إليهم فتصنعهم هم!! أنظر مثلا في مصر في ثورة يوليو 52م كان للإخوان المسلمين دور كبير في إيصال العسكريين إلى السلطة، وصلوا إلى السلطة ثم عادوا فضربوا الإخوان المسلمين أنفسهم، أيضا الإخوان المسلمون كان لهم دور كبير في إيصال الفريق حسن البشير في السودان إلى الحكم، فوصل البشير إلى السلطة والحكم، وكانت النتيجة أن تم بعد ذلك إدخال الترابي إلى السجن وهو الذي لم يدخله في حياته قبل ذلك!! نفس الخبر عندنا في اليمن الإخوان المسلمون، والإصلاح مؤخرا كان لهم دور كبير في دعم السلطة وإيجادها فشربوا من نفس الكأس التي شرب منها إخوانهم في مصر والسودان!! وقد كان عندهم تصور أنهم سيكسبون كل شيء في النهاية، وسيكونون المهيمنين، وبشكل عام فاستخدام أدوات متخلفة في التغيير يؤدي إلى تغيير متخلف، ولهذا أتساءل اليوم: هل من الممكن أن نتعلم من هذه التجارب حتى نبدأ في صناعة تغيير حقيقي، خاصة وقد أصبح لدينا خبرة متراكمة وأصبح لدينا شباب متعلمون ومثقفون. - دكتور التصور السليم لبناء دولة ما بعد الثورة أي ثورة أين ذهب خاصة ومن يقود الثورات هم مثقفون ورجالات فكر وكلمة؟ ثم لماذا يستخدم هؤلاء أدوات متخلفة في التغيير؟ كانوا يريدون تغيير الحكم فقط، مثلا عندنا في 48م وقد هيمن الإمام يحيى وسيطر خاصة وقد بدأ يردد: “العيال كبرت لسنا محتاجين لأحد” بدأ الثوار يفكرون بإزالة الإمام ولم يكن لهم أفق واسع في التفكير فكان ما كان، في ثورة 26 سبتمبر 62م كنا نفكر بنفس العقلية وجلسنا في حرب أهلية لثماني سنوات. حتى إن الثوار أنفسهم لم يستطيعوا أن يقيموا الثورة إلا بقوة خارجية وهي القوة المصرية. - عفواً دكتور القوة المصرية هنا هي معادل موضوعي لقوة إقليمية أخرى استقدمها الطرف الملكي واستعان بها؟ ما دام عندك ثورة فعليك أن تصنع التغيير أنت لا أن تستعين بالآخر ليساعدك ومعنى استقدام الآخرين من الخارج أن بينك وبين المواطن خلاف. - هل أفهم من حديثك أن القوى الجمهورية الثورية كانت في طريق والشعب في طريق آخر؟ وإلا كيف حصلت الحرب لسبع سنوات، أنا أذكر أني خرجت إلى اليمن قبل الثورة بشهر، دعاني البدر وقال لي: أرجو أن تلتقي بالأستاذ النعمان والأستاذ الزبيري وقل لهم يأتوا لنتعاون, فاليمن ستضيع علينا جميعاً، ثمة أخطار محدقة بالبلاد، أمريكا اليوم حاضرة والسعودية حاضرة ومصر حاضرة فيها ولدينا مشكلات داخلية أخرى، فقل لهم يأتون ولهم ما يريدون، ذهبت إليهما، فوافق النعمان على الفور، بينما رفض الزبيري، الزبيري كان يؤمن بالحقد المقدس، ولم يعد لديه استعداد للتعامل مع أحد من بيت الإمام يحيى، لأن الإمام حبسه، وهو شاعر عنده حساسية خاصة، الأستاذ النعمان كان رجل دولة, وافق على الفور، وقال: دعنا نجرب، ووصلت إلى عدن والتقيت عددا من الإخوة في الاتحاد اليمني، وتناقشت معهم كثيرا وكان منهم المؤيد ومنهم المعارض، وأذكر أن الأستاذ علي حسن الأحمدي الذي تم تعيينه وزيراً للإعلام لاحقاً أخذني إلى المطار وأنا عائد ووجدت هناك اثنين من أبناء حميد الدين, محمد بن الحسين ويحيى بن الحسين في الطريق إلى صنعاء للإمساك بالبدر لأنهما من المحسوبين على عمهم الحسن المعارض للبدر، وطلبوا مني التأخر فرفضت، وصدفة فتحنا الراديو فسمعناه يردد من صنعاء: إذاعة الجمهورية اليمنية العربية.. إذاعة الجمهورية العربية اليمنية.. تتكرر هكذا بعشوائية وقررت السفر على الفور إلى صنعاء، فأشار علي بالتأخر لأن المطار سيكون مغلقاً، وقلت لمحمد بن الحسين ويحيى بن الحسين: خلاص ارجعوا لكم فقد انتهت عليكم، اذهبوا لكم إلى السعودية وطلبوا مني السفر معهم فرفضت، رجعت إلى الفندق أستمع إلى الأخبار وإذا الإعدامات تتوالى وقد أخذت طابعا عنصريا، فقررت الذهاب إلى المملكة وحاول البعض أن يراجعني فقلت لهم: حكموا علينا بالإعدام بسبب اللقب أو الهوية، وهذه ليست ثورة وطنية، وذهبت وجلست في المملكة حوالي خمسة عشر يوما ويومها سمعت خطابا للرئيس السلال يقول: إن هذه الثورة ليست ضد الهاشميين أو غيرهم من أبناء الشعب أبداً، وانتقلت إلى بيروت والتقيت هناك الأستاذ أحمد جابر عفيف الذي كان في السفارة وأبرقت للسلال من هناك، لكن جاءني أمر من الخارجية اليمنية بواسطة محمد النعمان أن أرافق محمد الوريث إلى لندن للعلاج، ذهبت إلى هناك ورجعت إلى مصر، وهناك التقيت الأستاذ حسن السحولي، وكان السلال فيها للعلاج فزرناه وتم تعييني بعد ذلك سكرتير أول في السفارة، وأنا لا زلت أدرس في كلية الآداب قسم الإعلام. - عفواً دكتور فيما أعرف أن الزبيري تلك الأيام لم يكن في اليمن من أساسه بل كان في القاهرة.. كيف التقيته؟ الزبيري كان في القاهرة نعم، وكنا على تواصل، ولهذا لما جئت له مع الأستاذ النعمان رفض، المصريون بدورهم رفضوا التعامل مع الأستاذ النعمان، وبدءوا يتعاملون مع البيضاني. - من ناحية ثانية يا دكتور اسمح لي أقول: أنت تقول: إن البدر كان لديه إصلاحات ومشروع جديد.. لكن ما ذا عن خطابه الذي ألقاه في يوم الجمعة في المسجد قبيل الثورة بستة أيام وقال فيه: إذا كان أبي يفصل الرأس عن الجسد فإنني سأقسم الجسد نصفين. أين المشروع الحضاري من هذا الإعلان الرسمي؟ كان خطأ كبيرا، والحقيقة أن السبب في هذا الخطاب ليس البدر صراحة، بل من القوى التقليدية التي حوله من البطانة التي جرجرته إلى هذا الخطاب، بحجة تخويف الناس وكتبوا له هذا الخطاب المتخلف ولم يدركوا حقيقة التغير الذي حصل، البدر لم يكن بتلك الدموية كان الحاقدون عليه يعللون حقدهم بأنه ضعيف، وكانوا يشتمونه لأنه ضعيف، وكأن الناس يريدون شخصية قوية تقتل الناس، والحقيقة أنه كان من المؤمل أن يصنع شيئا من التغيير، إنما حسم الأمر. - لكن بالنهاية حكم بيت حميد الدين كان قد انتهى وإلى غير رجعة بحكم سياستهم المتخلفة التي اتبعوها؟ طبعاً، الأمر وصل إلى مرحلة النهاية. الإمام أحمد رحمه الله لم يسمح بعملية التطور إلا بشكل جزئي ومحدود، وأسرف في الإعدامات التي تبناها بحق شخصييات وطنية خاصة بعد 48م، التي استعجلها الثوار أيضا وكان من الممكن أن يصنعوا تغييرا جيدا لو انتظروا موت الإمام الذي كان مشارفا على الهلاك، إنما هناك أناس طفح بهم الكيل وأرادوا الخلاص النهائي، حمود الجايفي بعد الثورة رفض أن يكون رئيس البلاد لأنه يعرف الأمور ويعرف الوضع، ولما ذهبوا للسلال وافق، لأنه كان مغامرا وشجاعا واشترط عليهم شرطا أن من وجدناه من أركان النظام السابق قتلناه، وقتلوا حوالي سبعين شخصا بمن في ذلك غير الهاشميين من أجل أن يبرروا أن الثورة لم تستهدف الهاشميين، فقتلوا “عاموه” وقتلوا عبد الرحمن السياغي، حتى لا يقول الناس إن القتل يطال الهاشميين فقط. - أدبيات الثورة التي نقرؤها اليوم تذكر غير ما تقول الآن يا دكتور من أن السلال كان متسامحا وصرح أن الثورة لم تستهدف الهاشميين؟ نعم. السلال كان النموذج الذي في رأسه هو الإمام، ولذا اختلف مع الزبيري والنعمان والآخرين اختلافا كثيرا، وعملوا مؤتمر عمران ثم مؤتمر خمر، وتلا ذلك تعيين الأستاذ النعمان رئيسا للوزراء. - أي أن القوى الثورية/ الجمهورية لم تكن تحمل مشروعا لبناء دولة بعد أن أقاموا الثورة؟ لم تكن تحمل مشروعاً بالفعل، كان نموذجهم هو الإمام، وكان الشعب لا يعرف شيئا غير الإمام، لم يكن الوعي موجودا، في ثورة 48م جاء مدير سجن نافع بحجة للمساجين يقول لهم: أبشروا سوف يتم إطلاق سراحكم قريبا، فسألوه لماذا؟ فقال قد حبسوا الدستور وزوجته في بيت الفقيه!! - طيب بعد عهد السلال جاء عهد الإرياني وحكومة خمسة نوفمبر 67م؟ القاضي الإرياني رجل مدني وعالم ورجل دين، كان غير عنيف وكانت بعض القوى التي حوله غاضبة منه لأنه لم يكن عنيفا، ولطالما طلبت منه القوى التقليدية ومراكز النفوذ اتخاذ إجراءات قوية ضد البعض المناوئين لمصالحهم فرد عليهم بيتاً من الشعر: “ومكلف الأشياء ضد طباعها متطلب في الماء جذوة نار” قال لهم: طبيعتي هكذا. وقد دعمه سنان أبو لحوم والشيخ الأحمر، ولما قرر أن يجري تغييرا في الحكومة بعد ذلك ووضع الدكتور حسن مكي بدلاً عن محسن العيني صهر سنان أبو لحوم غضب سنان أبو لحوم ومن ثم اتفق مع الشيخ عبدالله على إزاحة الإرياني وسهل الأمر عليهم فيما بعد، وكان من ضمن المآخذ التي أخذوها عليه أنه يشجع أبناء المناطق الوسطى ويتساهل مع البعض الآخر، وقد اقترح مجاهد أبو شوارب يحيى المتوكل رئيسا للبلاد فرفضه الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر وقال له: “تشتينا نرجع نحبب ركبهم من جديد” وجاء الحمدي وهو ابن قاضٍ وشخصية مثقفة ورجل دولة ودخلوا في خلافات معه. - دكتور قبل أن نواصل الحديث عن هذه الفترة أفضل أن نعرج على حقيقة الخلاف الذي دار بين رفقاء السلاح في أغسطس 68م وأفرز متغيرات جديدة بعد ذلك؟ الخلاف بين قوى جديدة من اليمن الأسفل والمناطق الوسطى ناشئة ومتعلمة من جهة وبين قوى من اليمن الأعلى تمسك بالسلطة ولا تريد أن تتركها، وكان الناس محتارون حول حقيقة هذا القتال، فقال بعضهم هو شافعي/ زيدي، والحقيقة أنه ليس شافعيا زيديا، هو خلاف حول السلطة فقط، قوى جديدة تريد أن تشارك في السلطة وقوى متخلفة مهيمنة تريد أن تبقى فيها، هذه حقيقة الأمر. هذه القوى الجديدة والضباط الجدد كانوا من بناء المصريين الذين علموهم ودربوهم، وهم الذين حموا صنعاء ودافعوا عنها في حرب السبعين. وهناك مقوله للشيخ عبدالله بن حسين الأحمر قال: “ما فيش إمام دخل من باب اليمن” أي لم يأت إمام للسلطة من جهة باب اليمن، إنما يأتون من باب شعوب. اليوم أخشى أن تتكرر مآسي الماضي، وأنا أقول للإخوة الإصلاحيين لا تفكروا أنكم ستحكمون الناس لوحدكم فقط، أولاً ستدخلون في صراع أنتم والسلفيون، وكذا الحوثيون والحراكيون، والقبائل، والعسكر، اليوم مثلاً تعز وإب والحديدة والجنوب لم يعودوا مستعدين أن يتقبلوا الحكم بالطريقة التي كانت سابقاً. بل إن كثيرا من أعضاء الإصلاح هم من هذه المناطق، إذن لا يوجد من حل أمام اليمنيين إلا الديمقراطية. - هل ترى أن ثمة ما يشي إلى ذلك منهم؟ هذا ما يقوله الآخرون، وبالنهاية الاحتمال قائم. لأن طبيعة الناس تريد السلطة، ولما تريد السلطة معناها أنك تريد أن تنفذ قضايا هي مرسومة في رأسك. - لننتقل إلى موضوع آخر في الحديث.. هل تحققت أهداف ثورة 26 سبتمبر 62م؟ لم تتحقق، هذه الأهداف لم تكن مرسومة من قبل الذين قاموا بالثورة، ليست هدف الثوار أنفسهم لا من قريب ولا من بعيد، النموذج الذي كان مرسوما في ذهنية الثوار هو نموذج الإمام فقط. السلال تولى الحكم بطريقة الإمام وعلي عبدالله صالح تولى الحكم بطريقة الإمام. - من صاغ أهداف ثورة 26 سبتمبر؟ سمعت أنها أرسلت من مصر. ولاحظ كلمة “إزالة” في الهدف الأول من أهداف الثورة، قال المصري الذي كان يمليها بلهجته: “إذابة” فتخيلها المتلقي: “إزالة” وكتبوها هكذا، ولا يوجد شيء أصلا اسمه إزالة الفوارق بين الطبقات، ممكن تذيب لكن لا تستطيع أن تزيل الفوارق، هناك متفوقون في جوانب معينة فهل تريد أن تجعلهم سواء مع غيرهم من الكسالى وغير المتفوقين؟! - مزيدا من التوضيح بين “الإذابة” و”الإزالة”؟ الإذابة التفريق بين عوامل غير عادلة. هذه الإذابة وهي تأتي إما نتيجة لاستخدام الثروة العامة أو الوظيفة العامة أو ما أشبه، والإزالة معناه عدم إبقاء الفوارق وهذا غير ممكن. أنت شخص متعلم من حقك أن تكون في الوظيفة بدلا عن الشخص الجاهل، وإزالة الفوارق تجعل الاثنين سواء، وهذا غير ممكن. أحيانا قد يكون لك نشاط اقتصادي وآخر ليس له ذلك فهل سنزيل الفوارق بينكما لنساوي صاحب العمل والقاعد عن العمل؟ - يدخل ضمن ذلك العوامل السلالية؟ سلطان أحمد عمر كتب عن الفوارق الطبقية، وتساءل: هل الجوانب الاقتصادية هي العامل في ذلك؟ هل العوامل الثقافية؟ في العالم كله كان العامل الاقتصادي هو الأساس وعامل الحكم وليست في قضية أنت هاشمي أو قحطاني، هذه قضية ذات طابع ثقافي، اتصل بي مرة الرئيس السابق علي عبدالله صالح وقال لي: لا نريد التعامل بطبقية وسلالية، فقلت له: أنتم الذين تتعاملون بالسلالية والطبقية، أنتم الذين نشأتم في الريف وتعودتم أن ابن المزين مزين، وابن الجزار جزار، وابن الشيخ شيخ، الرسول يقول لأهله: لا يأتوني الناس بأعمالهم يوم القيامة وتأتوني بأنسابكم. لا أغني عنكم من الله شيئا. أنا أمي قبيلية وأبي هاشمي، فهل أفرق بين أمي وأبي؟ هذا غير وارد. التعامل مع الآخرين على أساس العرق سلوك متخلف جدا. كما قلت المسألة ثقافية بحتة، القبيلة في خلال مراحلها عملوا الشيخ وعملوا العريفة، وعملوا المحاربين وكانت القبيلة دائما في حروب مع جارتها فكان من لا يريد أن يحارب يقولون له أنت قم بالأعمال في القبيلة ونحن نخرج للحرب، وعمل البعض منهم في مهن وحرف كالجزارة والحلاقة وغيرها، ولما رجع أصحابهم من المعارك ومعهم الأسلاب والغنائم تفاخروا عليهم وقالوا لهم: “نحن بذلنا رؤوسنا” وكانوا يعطونهم خمس ما غنموا وتسموا بعد ذلك ببني الخمس، ومع مرور الأيام عاد البعض بلا سلب ولا غنم المرة تلو المرة فاضطروا للعمل مع إخوانهم في هذه المهن، فرد عليهم هؤلاء العمال: كيف تعملون معنا وأنتم قبائل، وكانوا بهذا يريدون تنفيرهم عن مشاركتهم مهنهم وحرفهم فقط. وهكذا تشكلت هذه الثقافة.. أنا دائما أناقش طلبتي في الجامعة أقول لهم: هل يجوز زواج المسلمة من كتابي؟ فيقولون بامتعاض: لا. أقول لهم: هل يجوز زواج المسلمة من مسلم؟ فيقولون: باستغراب: نعم. أقول لهم بعد ذلك: هل ستزوج المسلم المزين ابنتك أو أختك؟ فيمتعض الكثير منهم ويرفض. إذن الرفض هنا من الثقافة بدرجة رئيسية. كنت ذات مرة في حضرموت مع الأستاذ محمد حسين العيدروس وجاء أحد القبائل من الهاشميين إليّ يقول لي: يا دكتور نشكو إليك من الهاشميين عندنا يرفضون تزويجنا، فالتفت إلى العيدروس وقلت له: لماذا يا أخي لا تزوجوا الناس حرام عليكم؟ فقال: قل له يزوج ابنته على مزين وأنا أزوجه، فغضب القبيلي من كلام الأستاذ عيدروس، وقال مش معقول. الموقف هنا ثقافي. - بالفعل هي هنا ذات طابع ثقافي لكنها لا تزال عند البعض ذات طابع ديني؟ سأعود إلى جذر القضية الإمام الهادي يحيى بن الحسين عندما جاء إلى صعدة كانت القبائل تتحارب فيما بينها، وقد بحثوا طويلا عن شخص “يفرع” بينهم، فقرروا أن يأتوا بالهادي، وقصدهم هذا ابن رسول الله، كلمته مقبولة، وأتى إليهم وجلس بينهم فترة ووجدهم ينهبون ويسلبون باسم ابن رسول الله فغضب منهم ورجع المدينة، فذهبوا إليه مرة ثانية، لكنه لم يعد إلا ومعه العساكر والمرافقون أقل شيء ليحموه، فطرح مسألة البطنين كشرط مهم في الحاكم، وهي مسألة تشبه مسألة عمر بن الخطاب وإمامة قريش يوم السقيفة تماماً “إن الناس لا تدين إلا لهذا الحي من قريش” فظن الناس أن ذلك من الدين، مثلما ظن أصحاب الهادي أن ذلك دين!! - الهادي لم يطرحها كشرط ديني بل كتكتيك سياسي إذن؟ نعم لم يقل إنها من الدين، بل الناس فهموها هكذا. خاصة وقد عرف أن القبائل لا يقبلون ببعضهم بعضا. وقد “ودف بنا لو بقي هناك كان أحسن” “يضحك”!! - لكنها تحولت إلى عقيدة ودين عند البعض؟ لو كانت من الدين لما كان الخليفة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق ولا عمر ولا عثمان، ولا كان قبل ذلك الإمام علي كرم الله وجهه. والحقيقة أن الإمام الهادي قد طرح أفكارا أخرى متحررة وجيدة تعتبر متقدمة لكن “محقها” بهذه وإلا فقضية الانتخابات والتنافس والبيعة الخاصة والبيعة العامة هذه معايير متقدمة، وأضاف شرط البطنين مراعاة لعقلية القبائل آنذاك وهو شرط مرتبط بزمنه. وقد بدأنا نحن أنا وإخواني نكسر هذا القيد فزوجنا بناتنا على غير هاشميين. - نعود إلى السؤال الرئيس وتحقيق أهداف الثورة اليمنية؟ ما يتعلق بالجيش كان المصريون قد بنوا بعض الفرق العسكرية بعد الثورة الذي دخلوا التجنيد وكان معظمهم من اليمن الأسفل، لأن أصحابنا “يقصد صنعاء وما حولها” لا يقبلون الانتظام في التجنيد لأن في أذهانهم ثقافة العسكري البراني النمط السائد أيام الإمام يحيى وأحمد من بعده، المهم جاء هؤلاء وبدأ الخلاف، والواقع أن هؤلاء الذين جاءوا من اليمن الأسفل والمناطق الوسطى أثبتوا شجاعة عالية في حرب السبعين الذين بقوا أكثر من غيرهم بينما هرب كثير من الضباط الكبار، ولم يثبت إلا هؤلاء ومشهود لهم، ولما انتصروا رجع هؤلاء مطالبين بمناصبهم وانظر كيف كانت نهاية عبد الرقيب عبد الوهاب نعمان! قتلوه في بيت علي سيف الخولاني. - لم يتم بناء جيش وطني؟ لا. لم يتم. بنيت الجيوش حسب المواقع فقط، باتفاق بين الرؤوس الكبيرة بين علي عبدالله صالح والشيخ عبدالله ومجاهد وسنان، فقط، وهذه المشكلة. للأسف كلهم “جاءوا من باب شعوب”!! وللأسف ارتبط الحكم بالثروة، أنظر لما تولى هؤلاء وهم من أبناء الريف وتربوا على ثقافة الفيد نهبوا الدولة مثلما فعل القبائل عام 48م حين دخلوا صنعاء ونهبوها، هؤلاء نهبوا الدولة بنفس العقلية بعد أن توزعوا الدولة فيما بينهم. - على ذكر الجيش لك رأي هنا في الوقت الحالي يتعلق بإعادة هيكلة الجيش حيث ترفض إعادة هيكلته في الوقت الحالي.. مزيدا من التوضيح؟ سمعت من قال بضرورة إعادة هيكلة الجيش في الوقت الحالي وتوحيده، قلت لهم: “بلا خيبلة” أنتم توحدونهم من جديد من أجل أن يخططوا لانقلاب قريب، الناس فرحوا أنهم تمزقوا فكيف تعيدون توحيدهم اليوم؟ دعونا أولاً نقرر في لجنة الحوار ما هو الجيش الذي نريده؟ لنضع الأسس والمعايير المتعلقة بذلك ثم نؤسس لجيش دولة، الإصلاحيون يصرون على ذلك لأن لهم أتباعاً كثراً في الجيش؛ لكن الأهم من ذلك أن نفكر في مصلحة وطن لا في مصلحة حزب، الجيش اليوم تم اختياره على أسس متخلفة من سابق. - هناك توحيد الجيش وهناك هيكلة الجيش، الأولى سريعة وعاجلة بينما الثانية طويلة المدى..؟ إذا عملت على توحيد الجيش اليوم فإنك تؤسس لانقلاب قريب، يجب ألا يتم ذلك اليوم، يجب أن تكون هناك لجنة من الجيش تدخل الحوار حتى يكون الحوار شاملا، قد يرى طرف ما من أطراف الجيش أنه المستهدف من عملية الهيكلة ومن ثم ينزلق إلى عملية عنف من باب: “أنا الغريق فما خوفي من البلل” وقد يرى الطرف الآخر أنه أصبح قويا فيبلع صاحبه، لا بد من التوازن وهذا أمر ضروري، لتتفق أولاً كل القوى السياسية على الأسس الجامعة في عملية إعادة الهيكلة والدمج، هناك تخلف في التفكير اليوم يجب أن نقف ضده لأنه هو الذي يخرب المؤسسات من زمن، يجب ردم وإلغاء الثقافات والمفاهيم الخاطئة، حتى نؤسس لمستقبل عادل ومضمون لأبنائنا من بعدنا. - عودة إلى أهداف الثورة اليمنية..؟ هي أهداف وضعت بدون وعي كامل بمضامينها وبما تحمل، ولم تكن هناك أدوات تترجمها إلى واقع حي، يجب أن نسعى إلى إذابة الفوارق لا إزالة الفوارق، يأتي واحد ويقول: “ليش ثابت هذا معه فلوس”؟ “يا أخي اشتغل وعمل” بينما الآخر عاطل عن العمل لم يعمل، هل نساوي بينهما؟ يجب أن نقضي على الرواسب المتخلفة من خلال الحوار ومن خلال الاستماع لبعضنا البعض. - بم تعلل عودة أصوات الإمامة اليوم بعد خمسين عاما على الثورة والجمهورية؟ هذا كلام. هذا كلام يأتي من طرفين، طرف متعصب من جهة، وطرف محارب يريد أن يعريه، هذا غير موجود، لعلك تقصد الحوثيين، أقول لك الحوثيون لا يريدون الإمامة من جديد اليوم.. - تصريحات بدر الدين الحوثي نفسه تقول بذلك وكذا أدبيات حسين الحوثي ابنه وأخيراً الوثيقة الثقافية والفكرية التي نشروها؟ هذا من الثقافة فقط، وقد مات الأب وابنه وانتهى الأمر. ومثلها مثل القرشية عند البعض، مجرد ثقافة من الماضي مترسبة في أذهان البعض، هذه قضية الإمامة لم تعد واردة أبدا لا في أذهان الإماميين ولا في أذهان غيرهم هي توظف فقط كورقة سياسية لا غير! ومن جهة ثانية فمن ينادي بالإمامة مثل الذي ينادي بالخلافة الإسلامية، ما الفرق؟ وما ذا يعني ذلك؟ - أتفق معك أن من يقول بالإمامة من جديد أو بالخلافة الإسلامية وفق الثقافة المرسومة في ذهنياتهم هو من الماضي الرجعي ومن رواسب الثقافة التقليدية لكن خلال خمسين عاما مضت لما ذا لم تترسخ لدى هؤلاء وغيرهم ثقافة الدولة المدنية، ثقافة الديمقراطية.. الدولة الوطنية الجامعة بلا مذهبية أو عصبية؟ العلماء الهاشميون أصدروا بيانا ضد من يقول اليوم بالإمامة، بينوا فيه رأيهم، والمسألة طبيعية بعض الناس يشعر بالامتهان لنفسه فيظن أن الناس يحتقرونه ومن ثم يصب الدعاية على غيره والأمور “سلامات” لا يوجد شي! وعموما فهذه الثقافة لن تتم إلا بوجود الدولة الوطنية الجامعة للكل، دولة المواطنة المتساوية، لي تجربة أذكرها منذ الصغر، كانت أمي قبيلية اسمها قبول، ولي خالة “زوجة أبي الأخرى” هاشمية من بيت المتوكل كانوا يدعونها “شريفة” فقلت على أي أساس هذا؟ وكنت أستنكر منهم هذا. كانوا يدعونني “يا سيدي محمد” فقلت لهم: لا. ادعوني يا محمد وبس. ذات مرة كتب أحد أصدقاء والدي إليه أنني ألبس بنطلونا صغيرا وكنت حينها في تعز. ورآها الأستاذ النعمان وأحرج من والدي لئلا يظن أنه أثر فيّ هو، فعرف والدي ذلك منه وقال له: ليس أنت، هو “يهودي وعادو صغير كان يقول للشغالة لا تدعيني سيدي محمد”!! فهل أستطيع أن أفرق بين أمي وأبي. - طيب الحالة واقعة وعملية إلى اليوم كيف نزيلها؟ بالتعليم. التعليم رهان قوي وغرس ثقافة الحقوق بين الناس، وتجسيد ذلك عمليا، للأسف لم نأخذ بما في كتابنا الكريم، نريد أن نعود إلى كتابنا وإلى معينه الصافي. - ما هي أولويات اليمن خلال الفترة القادمة؟ خلال الفترة القادمة يجب إعادة الدولة العادلة القوية للناس جميعا، دولة نبني فيها جيشا مستقلا وقضاء مستقلا، ونبني فيها دستورا وقوانين تطبق على الجميع، وبدون هذا فلن تستقر الأوضاع في اليمن. المساواة بين الجميع بلا تمييز، انظر ما حصل في الماضي من تمييز، أخرجوا المرأة وأخرجوا غير المسلمين من العملية السياسية، رئيس الدولة لابد أن يكون مؤديا للشعائر الإسلامية.. رئيس البرلمان لابد أن يكون مؤديا للشعائر الإسلامية.. عضو البرلمان كذلك، الله يقول: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم) تبر هؤلاء مثل أمك وأبيك، الرسول لما نزل المدينة عمل فيدرالية لليهود وفيدرالية للمسيحيين، وفيدرالية للمسلمين، وتعامل معهم بالعدل والمساواة ولو يفرق بين هؤلاء أبدا، جمعتهم الدولة الواحدة، أنا لست أي إسلام هذا الذي يدعو إليه. شيء محزن والله أن تستورد ثقافة دخيلة على ديننا وثقافتنا، هذا من الثقافة التي طرأت علينا مؤخرا والتي تمنع عليك أي تطور، لأنه في نظرها بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار..هل من الدين ما يقوم به بعض الشباب المنتمين لتنظيم القاعدة وقد أغروه بالحور العين، لماذا لا يسبقون هم للحور العين؟ ولاحظ الذين يفجرون أنفسهم كلهم شباب محرومون جنسيا، لا يوجد فيهم شيخ كبير أبدا. هذه الثقافة لا تزول إلا ببناء دولة العدل والمساواة، وبدونها الأمور قد لا يحمد عقباها. - دعوت مؤخرا المؤتمر الشعبي العام إلى تبني الدولة المدنية وراهنت عليه.. كيف؟ قلت للرئيس المطلوب منك أن تعمل شيئا لهذا البلد، فقال: لقد تركت الرئاسة، قلت له دعك من الرئاسة. وقد أنقذك الله من موت محقق، إنما أنت اليوم لا تزال تؤثر في المؤتمر الشعبي العام، ومن ثم فعليك أن تدعه يتبنى خيار الدولة المدنية خلال الفترة القادمة، يدخل مع الناس ويتشارك معهم لبناء دولة مدنية ديمقراطية عادلة.. - لكن وحسب مفهومي أنك ربطت الدولة بالمؤتمر الشعبي العام فقط؟ هو شريك أساسي أصلا في بناء الدولة خلال الفترة القادمة، والمؤتمر سيخلق نوعا من التوازن، ثم إنه بالنهاية مؤسسة مدنية قائمة وإذا انهارت هذه المؤسسة فليست في صالح البلد، في المؤتمر الشعبي العام كوادر وطنية ممتازة وجيدة ونزيهة، وليس لهذه المؤسسة من مكان في المستقبل إلا إذا تبنت قضية وطنية وهي قضية الدولة المدنية يدخلون بها الحوار.. - ألا ترى أن المؤتمر الشعبي العام قد فشل في تحقيق الدولة المدنية العادلة خلال الفترة الماضية؟ كلهم فشلوا. الاشتراكي والإصلاح وغيرهم الذين شاركوه الحكم. كلهم شاركوا وكلهم حكموا. من الذي لم يفشل أصلا؟ في الشمال والجنوب. فكرة بناء الدولة لم تكن واردة عند أحد منهم. - ولكن ماذا لو بقي علي عبدالله صالح رئيسا للمؤتمر خلال الفترة القادمة كيف سيساهم في بناء دولة ديمقراطية عادلة من موقعه الحزبي؟ ممكن، ومن حقه أن يرأس حزبه، وقد انتقدت الدكتور ياسين سعيد نعمان ذات مرة حين لم يستسغ بقاء علي عبدالله صالح رئيسا للمؤتمر، وقلت له: ليس لك حق أن تتدخل في شئون المؤتمر الشعبي العام كحزب. - المبادرة الخليجية أخرجت علي عبدالله صالح عن السياسة؟ أخرجته من سياسة الرئاسة للدولة لا من سياسة الحزب. - المفهوم من المبادرة الخليجية انعزاله السياسة بشكل عام حزبية أو غيرها؟ لا. الآخرون يريدون أن يفهموا هكذا. المؤتمر الشعبي العام حزب وله حق اختيار قيادته، ولست أنت من تختار قيادة المؤتمر الشعبي العام. هل تتقبل من المؤتمر الشعبي العام أن يقول لا نريد ياسين سعيد نعمان رئيسا للحزب الاشتراكي أو لا نريد عبد الوهاب الآنسي رئيسا للإصلاح؟ غير وارد، وعلى هذا فقس. إذا تبنى المؤتمر الشعبي الدولة المدنية الديمقراطية فلا خيار للطرف الآخر إلا أن يقبل به، وإذا وجدت قضية علي علي عبدالله صالح فالقضاء العادل هو الذي يفصل فيها. نحن محتاجون لثورة بناء لا ثورة انتقام.الشباب اليوم يراكمون الأحجار إلى الطريق التي فتحت لليمنيين اليوم ببعض مطالبهم المثالية. العالم اليوم فتح لنا طريقا للخروج من المأزق فلا نسده بهذه الدعوات، دعونا نستغل الفرصة، ودعونا نؤسس الدولة التي نريد وبدون ذلك سنعود إلى دورات العنف. الحوثي سيتقاتل مع الإصلاحيين، الحراكيون سيتقاتلون مع الاشتراكي، وهكذا ستسير الأوضاع! يا أخي لن نبني دولة مدنية ديمقراطية إلا بالتوازن، والحقيقة أن الكل قد تعب حتى الآن، والكل يشعر بأنه ارتكب خطأ، وأتذكر بالمناسبة مقولة السيد المسيح في المرأة التي أخطأت: “من كان منكم بلا ذنب فليرمها بحجر”.