كم هو مؤسف ومحزن أن تحل علينا مناسبة الاحتفال بالعيد الواحد والخمسين لثورة 26 سبتمبر والعيد الفضي لثورة 14 أكتوبر ونحن اليمنيين مازلنا نتصارع على بناء الدولة وإحداث التغيير المنشود الذي قامت ثورتا سبتمبر وأكتوبر من أجل تحقيقه ولم نتفق بعد على شكل الدولة التي نريدها.. ورغم هذه الفترة الطويلة التي مرت من عمر النظام الجمهوري إلا أن أوضاعنا من حيث مفهومنا ونظرتنا لمؤسسات الدولة لم تختلف عما كان عليه الوضع قبل قيام الثورة لأن هناك من لايزال يعتقد اليوم على أن الاحتكام إلى القوة والغلبة كعنصرين أساسيين والى من يمتلك السلاح والمال يمكن أن يحكم بالطريقة التي تضمن له تكييف أهداف ومبادئ الثورة وفق أهواء القبيلة.. ولذلك فقد ظل الشعب اليمني يدفع ثمن صراعات القوى التقليدية على الحكم التي استطاعت أن تحيد القوى الحداثية في شكل اتفاقات ومصالحات تخدم القوى المهيمنة ويخرج الشعب اليمني منها خاسراً. ولتأكيد صدق ما نقول يمكن أن نستشهد بما يجري في أروقة مؤتمر الحوار الوطني الذي يمثل مختلف شرائح المجتمع اليمني من صراعات حادة واختلافات قوية حول مفهوم الدولة الوطنية الحديثة وعدم التوصل إلى صيغة يتوافق عليها المتحاورون وهو ما يؤكد أننا مازلنا نأنس للقديم ونستوحش للجديد وان الثورة اليمنية قامت في وقت لم تكن أرضيتها مهيأة لإحداث التغيير المطلوب مما يجعلنا نستذكر ما قاله اللواء حمود بن عائض الجائفي رحمه الله للضباط الأحرار قبل قيام الثورة بعدة أيام حينما جاءوا إليه ليعرضوا عليه قيادتها كونه حينها الشخصية العسكرية الأكفأ وكان معلمهم وأستاذهم.. لكن فكره الناضج ونظرته الثاقبة من وحي خبرته وتجربته جعلانه يرفض تسلم قيادة الثورة لأنه كان يعلم إلى ماذا ستؤول إليه الأمور والأحداث بعد قيام الثورة.. ولذلك فقد قدم للضباط الأحرار نصيحة لو أخذوا بها لكنا اليوم في وضع مختلف حيث قال لهم: يا أولادي الوقت الراهن غير مناسب للقيام بالثورة لأن الظروف لم تتهيأ بعد والوعي الوطني لدى الناس غير ناضج وما زال محدودا وسنواجه صعوبات في حمايتها ونكرر تجربتي 1948و1955م.. ولكنهم لم يصغوا إليه وأصروا على القيام بالثورة مهما كانت النتائج فوجه لهم نصيحة أخيرة قائلا: ستتخلصون من بيت حميد الدين ويحل محلهم المشائخ ليركبوا على رؤوسكم وستظلون تتصارعون معهم سبعين سنة قادمة.. وحين يئسوا من تجاوبه وقاموا بالثورة لم يكن أمامهم إلا الاتجاه للعميد عبدالله السلال قائد الحرس الملكي لقيادة الثورة وكان اختيارا موفقا لأنه بحكم منصبه قائداً لحرس الإمام البدر وجه بفتح قصر السلاح للحصول على ذخيرة لمدافع الدبابات التي كانت قد نفدت وكادت الثورة أن تفشل فأنقذها توجيه السلال بفتح قصر السلاح وهذا يحسب له ولولم يقدم للثورة سوى هذا العمل لكفاه وادخله التاريخ من أوسع أبوابه. ونتيجة لعدم وجود وعي وطني كاف لدى القبائل فقد اعتبر بعضهم الثورة كفراً وارتداداً عن الإسلام فتم مقاومتها منذ أول يوم وزاد الطين بلة الإعدامات العشوائية لرجال العهد الإمامي دون محاكمة والتي وصفها القاضي عبدالرحمن الإرياني رئيس المجلس الجمهوري الأسبق في مذكراته بأنها شكلت وقودا للثورة المضادة التي استمرت ثماني سنوات حتى تحققت المصالحة الوطنية عام 1970م وقد تحقق ما قاله اللواء حمود الجائفي للضباط الأحرار حرفيا فقد تم الاستعانة بالجيش العربي المصري للدفاع عن الثورة والجمهورية وحمايتها وكان القرار اليمني بيد الإخوة المصريين أثناء تواجدهم في اليمن مستغلين الخلافات في الصف الجمهوري منذ الأسبوع الأول لقيام الثورة والجهل المعشعش في رؤوس القبائل وهو الأمر الذي أتاح فرصة فيما بعد للقوى التقليدية ممثلة في المشائخ للسيطرة على مقاليد الأمور حيث تم إقصاء القوى الحداثية صاحبة المصلحة الحقيقية في قيام الثورة كما تنبأ به اللواء الجائفي الذي حورب بعد الثورة مباشرة فقد تآمر عليه البعض من القيادة فتم إبعاده من اليمن لاعتقادهما انه كان يشكل عليهما خطراً لما كان يوجد له من شعبية في أوساط الضباط وأوساط الشعب.. مع أن القاضي عبدالرحمن الإرياني يؤكد في مذكراته أن الجائفي كان زاهدا في الحكم ولو أراده لقبل عرض الضباط الأحرار لقيادة الثورة ولكن حساسية السلال والبيضاني تجاهه جعلتهما يصران على إبعاده وكان الإرياني وسيطا لإقناع الجائفي برغبة السلال والبيضاني بسفره إلى الخارج وهذا ما حدث عقب قيام الثورة.. بالإضافة إلى إبعاد شخصيات أخرى لها وزنها وثقلها الوطني مثل الأستاذ احمد محمد نعمان والأستاذ محسن العيني والشيخ محمد علي عثمان وغيرهم.. وقد جاء الصراع في أوساط الصف الجمهوري على الحكم والمناصب والذي امتد إلى يومنا هذا على حساب العمل والتفكير في بناء دولة وطنية حديثة. فهل يعني فشلنا في بناء دولة النظام والقانون أننا صلبنا الثورة والجمهورية في وسائل الإعلام واكتفينا بالتغني بها بعيداً عن تطبيق أهدافها ومبادئها على ارض الواقع؟ كما تفعل بعض الأطراف اليوم حين تصر على صلب الشريعة الإسلامية على الورق للمزايدة بها بينما تطبق شريعة الغاب وتمارس أشد أنواع الظلم على المواطنين. لقد ضاق الشعب اليمني ذرعا من هذه الثقافة التي يصر من بيدهم مقاليد الأمور أن يلقنوها له يوميا لكي تزداد رسوخا في عقول أبناء الشعب بهدف تزييف وعيهم الوطني المحدود وجعلهم ينساقون وراء ما يراد لهم وليس ما يريدون هم وقد يأتي يوم يكتشفون فيه أن المقارنة بعد أكثر من خمسين عاما لصالح الوضع الذي ثاروا عليه واعتقدوا فعلاً أنهم قد تجاوزوه ولحقوا بركب الحضارة والتقدم الذي لم نرها إلا في مخيلتنا من خلال ما يحققه الآخرون.. أما نحن فمازلنا نعيش واقعنا المتخلف ونضحك على انفسنا بأننا قد وصلنا إلى نهاية الطريق غير مدركين أن المشوار مازال طويلاً جداً..! [email protected] رابط المقال على الفيس بوك