العدوان الأمريكي يستهدف الحزم بالجوف ب15غارة منذ الصباح    الرهوي يناقش مع الوزير المحاقري إنشاء منصة للأسر المنتجة    بمتابعة من الزبيدي.. إضافة 120 ميجا لمحطة الطاقة الشمسية بعدن    الزعوري يبحث مع الأمم المتحدة تعزيز حماية وتمكين المرأة في اليمن    الكثيري يبحث مع فريدريش إيبرت فتح آفاق دعم دولي للجنوب    وزارة الشباب والرياضة تكرم موظفي الديوان العام ومكتب عدن بمناسبة عيد العمال    مؤسستي الكهرباء والمياه بذمار تحييان الذكرى السنوية للصرخة    مليون لكل لاعب.. مكافأة "خيالية" للأهلي السعودي بعد الفوز بأبطال آسيا    إلى رئيس الوزراء الجديد    كيف أصبح السيئ بطلاً؟    أرواحهم في رقبة رشاد العليمي.. وفاة رجل وزوجته في سيارتهما اختناقا هربا من الحر    القسام توقع قوة صهيونية بين قتيل وجريح بكمين مركب في خانيونس    الأرصاد تتوقع أمطاراً رعدية بالمناطق الساحلية والجبلية وطقساً حاراً بالمناطق الصحراوية    من أين تأتي قوة الحوثيين؟    تفاصيل جديدة لمقتل شاب دافع عن أرضه بالحسوة برصاص من داخل مسجد    بيع شهادات في جامعة عدن: الفاسد يُكافأ بمنصب رفيع (وثيقة)    شركات الطيران العالمية تلغي رحلاتها إلى كيان العدو بعد تحذيرات اليمن    تشيلسي يضرب ليفربول ويتمسك بأمل الأبطال    تدشين برنامج ترسيخ قيم النزاهة لطلاب الدورات الصيفية بمديرية الوحدة بأمانة العاصمة    وسائل إعلام غربية: صدمة في إسرائيل..الصاروخ اليمني يحرق مطار بن غوريون    نائب رئيس مجلس القيادة الرئاسي الدكتور عبدالله العليمي يعزي في استشهاد عمر عبده فرحان    بدء تنفيذ قرار فرض حظر على الملاحة الجوية لمطارات الكيان    رسميًا.. بايرن ميونخ بطلًا للبوندسليجا    ورطة إسرائيل.. "أرو" و"ثاد" فشلا في اعتراض صاروخ الحوثيين    تدمير المؤسسة العسكرية الجنوبية مفتاح عودة صنعاء لحكم الجنوب    يادوب مرت علي 24 ساعة"... لكن بلا كهرباء!    وزير الصحة ومنظمات دولية يتفقدون مستشفى إسناد للطب النفسي    قدسية نصوص الشريعة    فيما مصير علي عشال ما يزال مجهولا .. مجهولون يختطفون عمه من وسط عدن    صرخةُ البراءة.. المسار والمسير    الاجتماع ال 19 للجمعية العامة يستعرض انجازات العام 2024م ومسيرة العطاء والتطور النوعي للشركة: «يمن موبايل» تحافظ على مركزها المالي وتوزع أعلى الارباح على المساهمين بنسبة 40 بالمائة    متى نعثر على وطن لا نحلم بمغادرته؟    تطور القدرات العسكرية والتصنيع الحربي    من أسبرطة إلى صنعاء: درس لم نتعلمه بعد    أمريكا بين صناعة الأساطير في هوليود وواقع الهشاشة    ملفات على طاولة بن بريك.. "الاقتصاد والخدمات واستعادة الدولة" هل يخترق جدار الأزمات؟    المصلحة الحقيقية    أول النصر صرخة    مرض الفشل الكلوي (3)    وسط إغلاق شامل للمحطات.. الحوثيون يفرضون تقنينًا جديدًا للوقود    التحذير من شراء الأراضي الواقعة ضمن حمى المواقع الأثرية    صنعاء .. طوابير سيارات واسطوانات أما محطات الوقود وشركتا النفط والغاز توضحان    إلى متى سيظل العبر طريق الموت ؟!!    دوي انفجارات في صنعاء بالتزامن مع تحليق للطيران    العشاري: احراق محتويات مكتب المعهد العالي للتوجيه والارشاد بصنعاء توجه إلغائي عنصري    نصيحة لبن بريك سالم: لا تقترب من ملف الكهرباء ولا نصوص الدستور    قيادي حوثي يفتتح صيدلية خاصة داخل حرم مستشفى العدين بإب    ريال مدريد يحقق فوزًا ثمينًا على سيلتا فيغو    أطباء تعز يسرقون "كُعال" مرضاهم (وثيقة)    لاعب في الدوري الإنجليزي يوقف المباراة بسبب إصابة الحكم    الأهلي السعودي يتوج بطلاً لكأس النخبة الآسيوية الأولى    المعهد الثقافي الفرنسي في القاهرة حاضنة للإبداع    - حكومة صنعاء تحذير من شراء الأراضي بمناطق معينة وإجراءات صارمة بحق المخالفين! اقرا ماهي المناطق ؟    "ألغام غرفة الأخبار".. كتاب إعلامي "مثير" للصحفي آلجي حسين    مقاومة الحوثي انتصار للحق و الحرية    مقاومة الحوثي انتصار للحق و الحرية    القاعدة الأساسية للأكل الصحي    الكوليرا تدق ناقوس الخطر في عدن ومحافظات مجاورة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أ. د. أحمد محمد الدغشي
جوهر العدالة الانتقالية يتضمَّن مصالحة وطنية شاملة ..!!
نشر في الجمهورية يوم 04 - 10 - 2013

تواصلاً للنقاشات الفكرية الأسبوعية نعرّج هذا الأسبوع مع الأستاذ الدكتور أحمد محمد الدغشي- أستاذ أصول التربية وفلسفتها – كلية التربية - جامعة صنعاء على أهم القضايا الشائكة في الفكر المعاصر .. و كذلك أهم القضايا الوطنية التي تدور حولها إشكالات عديدة .. !!
نبدأ من حكاية خمس الخمس التي تحدث عنها الشيخ عبدالمجيد الزنداني في الاجتماع الأخير لهيئة علماء اليمن .. و قال: ينبغي أن يسلّم إلى آل البيت .. ألا تعتقد أن القول بأن خمس الثروة لسلالة من الناس من هفوات وسقطات التراث البليد الذي لا ينبغي أن ينشغل الناس به في عصر الديمقراطية والمساواة ..؟
- بعد الشكر لك ولصحيفة الجمهورية دعني أؤكد أولاً على أن في تراثنا الإسلامي إشكالات كثيرة كأي تراث قام به أفراد إنسانيون، إما لأن بعض تلك الاجتهادات كانت مناسبة في زمنها، وإما لأنها خطأ على الأقل من وجهة نظر آخرين، في زمن ظهورها نفسه، مابالك بزماننا، مع التأكيد على أن المقصود بالتراث هنا كل اجتهاد إنساني قام به عالم أو فقيه أو فيلسوف مسلم أو سواهم عبر التاريخ الإسلامي، مع التأكيد أكثر على أن ذلك الإشكال في الاجتهاد وليس في النص القرآني أو النبوي الصحيح الصريح ناهيك عن المتواتر، الذي استند إلى فهمه أيٍّ من أولئك المجتهدين. ومع أننا نؤكد هذه الأخطاء في الحالتين، لكن لا أسمح لنفسي – أدبياً - أن أصفها ب(التراث البليد) على حد ما ورد في السؤال، ذلك أنه – يا صديقي- قد يقال عن رأيك غداً مثل ذلك، لأن معطيات جديدة تغيرت فهل تقبل؟ فلننتقد الرأي أو الاجتهاد بعيداً عن التجريح والإساءة لأصحابه، ومهما قلت لي بأنك تعمل الشيء ذاته فإن وصف (البلادة) لابد أن تطال صاحب الرأي بالضرورة .وأما عن موضوع السؤال فقد كنت بالمناسبة حاضراً في اللقاء (المؤتمر) الذي دعت إليه هيئة علماء اليمن وغيرها واستمعت إلى كلمة الشيخ الزنداني في اللقاء (المؤتمر) ووجدتها بالجملة كلمة تاريخية جامعة، عمل فيها على محاولة تقديم رؤية عملية للقضايا الكلية الثلاث، الجنوب وصعدة والجماعات المسلحة، دعك من محاولة تصيّد الأخطاء، وتحميل الرجل فوق ماقصد، وهذا هو المؤسف أن تضيع القضية الكلية التي من أجلها دعا الشيخ الزنداني الى ذلك اللقاء في أتون تأويلات بعضها متعسف، وتكلف غير أخلاقي أحيان، يرجع من قبل بعض من خاض في هذا الأمر إلى موقف سياسي وشخصي ونفسي من الشيخ، حتى من داخل الإطار الذي ينتمي إليه. والأغرب أن بعضاً ممن يشنع على الشيخ اليوم ويذهب في تأويل حديثه بعيداً بقصد الإمعان في الإساءة لشخص الرجل قد يكون من خصومه المنتمين إلى هذه الفئة التي لطالما طالب بعضها وصرّح في أكثر من مناسبة بأنهم ظلموا طيلة حكم الثورة، بسبب انتمائهم العائلي، كما أن غيرهم ممن ينتمي إلى تيار الحداثة و(الدولة المدنية الحديثة) أضحى لا يرى مشكلة في فكر الحوثيين، فلِم جن جنون هؤلاء وأولئك حين جاء الحديث (المتوازن) من قبل الشيخ الزنداني، وراحوا يتحدثون عن مشايعة الشيخ للتمييز ورفض المساواة وجعجعة نعرفها من أخزم – كما تقول العرب -، وهؤلاء الأخيرون من وصفتهم في كتابي الأخير عن الحوثية(مستقبل الحركة الحوثية وسبل التعايش) ب(الحداثويين الحوثيين). أما موضوع الخمس في حديث الشيخ وما قيل فيه فليس له علاقة بثابت (المساواة)، إذ تاريخ الشيخ معروف في الجهاد ضد الاستبداد وادعاء التميز لأيٍّ كان فرداً أو شريحة اجتماعية، وهو تلميذ أبي الأحرار الزبيري، لكنه أكد – في سياق المعالجة لقضية صعدة- على أن موضوع الخمس مسألة فقهية اجتهادية، كما صرّح في السياق نفسه على أن ذلك لا يعني فضلاً لبني هاشم على غيرهم ليتميزوا، ولا يجوز لهم أن يدّعوا حقاً خاصاً في الحكم وغيره، بل الشيخ يقرر رفض الظلم والحرمان على أي أحد. وعموما فالحوار الصحفي لا يتسع للحديث التفصيلي في الأمر، ولدي رغبة في الكتابة المستقلة عن الموضوع بحول الله.
.. الوثيقة الفكرية للحوثيين تؤكد أن الله اصطفاهم على العالمين ، وجعل فيهم دون غيرهم العلم والحكم وقيادة البشرية .. ما الذي تسعى إليه جماعة الحوثي من وراء هذا الأمر ؟
- أخذت الوثيقة الفكرية والثقافية للحوثيين جانباً من النقاش والتفنيد من قبل نخبة من الباحثين الجادين وفي مقدمتهم: العزيزان زايد جابر وعبد الله السالمي، كما ناقشتها كذلك في كتابي الأخير المشار إليه آنفاً عن الحوثيين، بما حاصله أنها وثيقة مؤسفة أن يخرج علينا بعض إخواننا الذين يرفعون في خطابهم الإعلامي شعار (الدولة المدنية الحديثة) وينطلي ذلك على كثيرين – مع الأسف- على حين أنهم يؤصلون لذلك التميز لأفرادهم بمثل هذه الوثيقة، وينشئونهم عليها، وهذا - في الواقع- حاصل ما قاله الناطق الرسمي للحوثيين الأستاذ محمد عبد السلام للباحث العسكري المعروف العميد محسن خصروف - حسب رواية الأخير على قناة سهيل في 2/9/2012م في برنامج “الحكمة يمانية” - حين اندهش العميد خصروف مما ورد في الوثيقة من مجاهرة بالفكر العنصري وادعاء التميز على اليمنيين، فاتصل هاتفياً على الفور بالناطق الرسمي للجماعة، وأعرب له عن اندهاشه مما ورد في الوثيقة، وهل يعقل ذلك؟ فكان المثير في جواب محمد عبد السلام اعترافه بالحرج البليغ الذي أحدثته الوثيقة، والضرر الأكبر الذي لحق بسمعة الجماعة، لكنه أكّد للعميد خصروف - في الوقت ذاته- إن الوثيقة محض تثقيف داخلي لأفراد الجماعة غير قابل للنشر!
.. في ضوء الصراع اللفظي حول الدولة المدنية و الإسلامية .. هناك رأي ثالث يقول: نريد دولة أو حكومة شرعية فما تعليقك ؟
- الحقيقة إن ممارسات بعض دعاة الدولة المدنية الحديثة من اليسار واليمين تجاه الأحداث الجارية في مصر وسوريا- ومصر بوجه خاص- عمّق المشكلة اليوم أكثر، حيث عزّز عملياً موقف الرافضين لشعار هذه الدولة، وراحوا يقولون انظروا أول مخرجات دعاتها : الوقوف مع ما حدث في مصر، تجاه الإسلاميين - يقول الرافضون لشعار الدولة المدنية الحديثة- عن حرية الرأي والتعبير من خلال وقوفهم مع الانقلابين إغلاق عشرات المنابر الإعلامية ، واستغلوا المنابر الرسمية – فضلاً عن الأهلية والخاصة- للتحريض ضد خصومهم وبث ثقافة الكراهية والعنف عبرها، وحظي ذلك كله بدعم رسمي علني من بعضهم، ولا يمنعهم ذلك من أن يرددوا شعار (الدولة المدنية الحديثة)، ثم جاء مؤتمر اليسار اليمني عندنا ليصدم كثيرين حين نادى برفض السماح لأحزاب ذات مرجعية دينية، وغير ذلك من الغرائب التي تدفع لإعادة السؤال التقليدي ذي الدلالة الكبيرة : من المستفيد من تهييج الأطراف الأخرى وهي أكبر منهم وأوسع وأعمق شعبياً –بطبيعة الحال- أليس في ذلك استعداء – مريب- على اليسار من خلال مثل هذه التصريحات؟ وليس أدل على ذلك من أن خصوم شعار (الدولة المدنية الحديثة) صاحوا: الحمد لله الذي كشفكم على حقيقتكم باكراً، هل هذا ما تبشرونا به؟!
أما رأيي - وهو بدهية هنا لا يختلف عليها نظرياً على الأقل أحد من كل أطياف الإسلاميين- إنه لا توجد في الإسلام دولة دينية (ثيوقراطية)، بل الدولة في الإسلام (مدنية) والحاكم ليس معصوماً عن المساءلة، وليس فوق الشرع أو القانون، ولكن ذلك لا يعني (علمانية) الدولة، أو إلغاء مرجعية الدولة (الإسلامية) بل المقصود أن تظل مرجعية الشريعة الإسلامية هي النموذج الحاكم للجميع عند النزاع، وأرجو هنا أن لا يردد البعض تلك المقولة الهشة: الشريعة وفق أي مذهب أو جماعة؟ الحقيقة- مرة أخرى- إن حديثاً صحفياً لا يتسع لتناول القضية على نحو معمق، لذلك أشير إلى أن هذه الشبهة تناولها بعض المفكرين والباحثين، كما ناقشتها – حسب اجتهادي- في دراستي عن الموضوع ضمن كتاب (من يمثل الإسلام: قراءة حضارية في إشكالات فكرية معاصرة) طبعة مركز الناقد الثقافي بدمشق .. ولكن – وبمعزل عن الممارسات السيئة الجديدة لبعض دعاة الدولة المدنية الحديثة من اليسار واليمين- أحسب أن مصطلح الدولة المدنية الحديثة بات – ولاسيما مع هذه الممارسات- يمثّل مشكلة ذهنية ونفسية -دعك من الجانب العلمي والشرعي الآن- لكثيرين حتى مع الإسلاميين الذين كانوا يؤيدون المصطلح بسبب الظلال التي يوحي بها المصطلح سواء من حيث نشأته الغربية ودلالتها (Civil State)، أم من حيث هذه المسلكيات الجديدة الداعمة لخصومه. ولهذا فأقترح أن يستبدل بمصطلح (دولة العدالة) (Justice STATE)( الذي يؤدي ذات الدلالات الإيجابية من حيث تقرير حقوق الحرية والمساواة والكرامة، ورفض الظلم والتمييز ونحو ذلك، لكنه مصطلح محايد ينزع الالتباس (المعجمي) الذي يكتنف مصطلح (الدولة المدنية)، وإذا كان إخواننا – بالذات- الليبراليين واليساريين ومن يذهب نحو رأيهم معنيين بالمضامين والدلالات والنتائج وليس بالصور والتراكيب والألفاظ فإنهم لن يعترضوا على مقترح كهذا، أما إن اكتشفنا- لا قدّر الله – أنهم أصوليون – من الأصولية الحرفية الغربية Fundamentalism أكثر من غلاة السلفية في الفكر الإسلامي، فحينها سيتعزز اتجاه الطرف الرافض للمصطلح أكثر، وسيقول بالصوت العالي: أرأيتم المسألة ليست مسألة عدالة وحرية ومساواة ورفض ما يناقضها، بل ذلك مجرد شعار خادع لهدف أكبر حقيقته استيراد نموذج غربي (معلّب) كامل، رافض للدين والشريعة، معادٍ لقيم الأمة وهويتها ومرجعيتها. وحقيقة هذا ما لا يريده أيّ ناصح مخلص لكل الصادقين في الدعوة لإقامة دولة مدنية حديثة وفق ثوابت الأمة ومرجعيتها الكلية.
.. هناك الكثير من الباحثين يقول : إن العلمانية من صميم الدين الإسلامي .. فلماذا الخوف من كل هذا .. أم أن اللفظ يثيركم ؟
- أرجوك أولاً لا تقل لي الكثير، ولكن ثمة أصواتاً تقول بذلك، وأقول : إن جئت إلى دلالة العلمانية ( Secularism ) المعجمية فحسب علمي لن تجدها من العلم Science ولكن من الدنيوية Earthliness، وعدم الاكتراث بشأن الدين. أما إن أصر البعض على أنها من العلم فذلك شأنه، ولكني أقول : هب أنها كذلك، غير أن ما استقر عليه الأمر في أوروبا، على خلفية النزاع في أوروبا من بعد القرن الخامس عشر الميلادي أنها حركة فكرية اجتماعية سياسية أقصت الدين عن ميدان الحياة، وحصرتها في نطاق الطقوس الدينية الخاصة، وهذا أخف أنواع الفلسفة العلمانية، أما مسلكياتها العملية أحياناً سواء في فرنسا – على سبيل المثال- أم في التحارب التي فرضت على دول إسلامية كتركيا وتونس يوماً، فتتدخل حتى في أخص الخصوصيات الفردية (نموذج غطاء الرأس)، فذلك يؤكد أن الحديث عن علمانية (إسلامية) محض خرافة! تأمل لو كانت المسألة (لفظية) فقط لفظ (المدنية) لم يكن محل اتفاق – كما سبق القول- رغم أننا نقول : المجتمع النبوي في المدينة (مجتمع مدني) أو (المجتمع المدني)، لكن هل هذا محل اتفاق اليوم من قبل كل من يردد هذا المصطلح؟ بالطبع لا وقس على ذلك مصطلح (الاشتراكية) فلا أحد يختلف بأن اللفظ عربي فصيح، لا إشكال في ذلك لكن دلالة المصطلح متنافرة في كثير من الأحيان، رغم أنها تلتقي مع مبادئ جوهرية في الإسلام كالعدالة الاجتماعية- على سبيل المثال- لكن أبرز أنواعها (الاشتراكية العلمية) ذات المضامين (الأيديولوجية) المناقضة لجوهر الدين ، أيّ دين. وكذا مصطلحات أخرى كالقومية بمفهومها الذي تم التخلي عنه اليوم كثيراً من قبل كثير من الأفراد والقوى القومية، ولو نظرياً، مع أنه وارد في الأصل في القرآن الكريم بلفظ (قوم) و(قومه) و(ياقومي)، وحتى في السودان فإن الحركة الإسلامية كانت يوماً تسمى (الحركة الإسلامية القومية) لكن تلك التسمية غير ذلك المعنى الذي استقر لحقبة زمنية غير قصيرة لدى القوميين في سوريا والعراق- على سبيل المثال- أي ذاك المفهوم الذي كان يقصي رابطة الدين ليُحل محلها رابطة العرق! فإذاً لا تحدثني عن آمال ومثاليات (طوباوية) لاوجود لها على الأرض، بل العبرة بما استقر عليه المصطلح وبدلالاته الفعلية على الأرض.
.. هل باتت العلمانية مطلباً ملحاً وضرورة تفرضها أحداث العصر لاسيما في ظل الظروف التي شهدناها في المرحلة الأخيرة من صراعات مذهبية وطائفية بعد أن كان ظننا خطأ إننا قد تجاوزنا ذلك بزمن وما هو شكل هذه العلمانية إن كانت مناسبة فإن لم تكن كذلك فكيف تفسّر انتكاسة الوضع الاجتماعي وخضم الصراعات الطائفية والمذهبية والصراع على شخوص التاريخ ؟ كيف لنا أن نتجاوز ذلك ؟
- أريد أن آتي على الجواب من آخر السؤال هناك من يفترض أن التعصب المذهبي والطائفي اليوم سببه (الدين) لأن كل جماعة أو مذهب أو طائفة تدعي بأنها تمثل الدين الصحيح، ومن ثم تستبيح دماء خصومها، وهذا تلبيس بل تزييف صارخ للوعي، ذلك أن الذي يجري هو تسييس للدين كما يجري تسييس لأي مبدأ إنساني (عظيم)، فإذا صح أن الذي يجري اليوم باسم الدين يكون مذهبياً أو طائفياً فليس بالضرورة أنه مذهبي أو طائفي ديني بل سياسي، أي مذهبية أو طائفية سياسية، وشواهد الواقع في العراق ولبنان – مثلاً - من أقوى الأدلة على ما أقول. وهنا ثمة تسطيح معيب يقدم على أساس أن العلمانية هي التي ستقضي على كل الخصومات والنزاعات التي تنسب إلى الدين، وكأن العلمانية شيء واحد بسيط متفق عليه، وينسى هؤلاء أنه إذا كانت شكواهم من الدين إنه نماذج كثيرة في صور التدين فإن العلمانية صور أكثر من ذلك بكثير يصعب حصرها هنا، بما في ذلك قيمتها الكبرى (الديموقراطية)، وكثير من القهر والقمع الذي يجري في مجتمعاتنا جرى تحت عنوان العلمانية، أرجوك لا تقل ذلك كذباً على العلمانية، فالعلمانية براء من ذلك، لأنك هنا ستناقض نفسك، إذ إن علماء كثرين ومفكرين إسلاميين عظاماً يؤكدون قبل ذلك أن هذا النموذج الذي يقتل باسم الدين فرداً كان أم جماعة لا يمثّل نموذج الدين الحق، وهل حلت المشكلة إذاً؟ .. لا بل إني أذهب إلى أبعد من ذلك حين أؤكد أنه إذا فرضت العلمانية على مجتمعاتنا المتدينة فستكون كارثة محققة، لأن أغلبية مجتمعاتنا بالقطع ترفض أن تحكمها سوى الشريعة، وقد أفصحت عن رأيي في موضوع العلمانية عما إذا كانت دواءً ناجعاً أم داء أشد، بنقاش مستفيض في سلسلة حلقات نشرتها في أسبوعية الناس قبل ما يقارب العامين تحت عنوان (حوار في الإسلام والعلمانية: هل العلمانية هي الحل؟)، ثم نشرت في مواقع إلكترونية عدة.
.. هل أنت مع الفيدراليات كخيار لإشكاليات الوضع الحالي ؟
- أرى الأمر جد معقداً، وخياري مع الدولة الاندماجية القائمة على أن تمنح كل محافظة كامل الصلاحيات، لتجاوز سلبيات المركزية التي كانت قائمة في عهد النظام السابق. أما خيار الأقاليم – دعك من الإقليمين- فصرت على قناعة بأنه مقدمة للانفصال، خاصة مع تصريحات رئيس فريق القضية الجنوبية بأنه سيمنح العمالة الشمالية أولوية في دولة شعب الجنوب القادمة! وبت على قناعة أكثر بأنه حتى بعض أولئك الذين جاءوا للمشاركة في مؤتمر الحوار الوطني من المحسوبين على جناح الوحدة من الحراك الجنوبي، بأن كثيراً منهم يبيّت الانفصال ولكن بعد أربع أو خمس سنوات، أي بعد أن يقيموا – كما يردد بعضهم- مؤسسات للدولة - في تلك اللحظة يُعلن بأن كل طرق الوحدة وصلت إلى طريق مسدود، ومن ثم فليس أمامنا سوى فك الارتباط فعلياً! ومع اختلافنا مع مبدأ الحراك الشمالي الذي يطالب بالانفصال صراحة، كالحراك الانفصالي في الجنوب إلا أنه قد كشف حقيقة المرامي التي يريدها الانفصاليون الذين قدموا إلى الحوار من الجنوب باسم الوحدة، إذ بدلاً من أن يرحبوا بذلك إذا بهم يشنون حملات ضارية على الحراك الشمالي، لأنه كشف حقيقة مراميهم، وفقاً لحديث الأستاذ عبد الوهاب طواف- رئيس الحراك الشمالي.
.. العدالة الانتقالية .. ما المقصود منها ؟.. و هل تعني عزلاً سياسياً للرئيس السابق وبقية القائمة .. أم أن هناك مصالحة و تعويضاً فقط .. و إذا قلت « عزلاً» ألا ترون أن هذا سيفجّر أزمة سياسية قادمة ؟
فلسفة العدالة الانتقالية بمعناها التفصيلي يُسأل عنها خبراء قانونيون مختصون أو متابعون، لكن ما أفهمه هو أن جوهر العدالة الانتقالية يتضمن مصالحة وطنية شاملة تتم فيها معالجات لمن أصابهم الضرر من الشهداء أو القتلى والجرحى في الفترة المتفق عليها، على أن يكون من مشمولات ذلك بطريق الأولى عزل المتسبب في تلك الجرائم عن العمل السياسي، لكي تكون المصالحة كاملة. وأقول : ما أفهمه بفطرة الإنسان السوي وبلغة القانون والقضاء والسياسة معاً أن من يمنح عفواً أو حصانة عن المساءلة القانونية يعني بداهة أنه متورط في جرائم تستحق ذلك العفو أو الحصانة، ومقابل ذلك العفو أو تلك الحصانة أن يتوقف عن الاستمرار في ممارستها.، أما إذا كان واثقاً من براءته فلماذا ينزعج من كل حديث عن نزع الحصانة، ويعده خروجاً عن بنود المبادرة الخليجية؟ ، وكونه يسعى الى الاستمرار في العمل السياسي، ذلك يعني نسف العدالة الانتقالية بما فيها من مصالحة وطنية من الجذور، لأنهم سيرجعون بنفسية المنتقم الذين يبغون إثبات أن سياستهم مستمرة، وان الربيع اليمني لم يسقطهم، وأن كل من تآمر (هكذا سيقال وهو يقال دائماً ) قد فشل في ذلك، ولابد أن ينال جزاءه العادل، وبذلك نتذكر مقولة (كأنك يابو زيد ماغزيت)، وتذهب – من ثم- دماء الشهداء وتضحيات الجرحى، وما أصاب الشعب من فقر وقهر وضنك ومعاناة أدراج الرياح، فضلاً عن أن هؤلاء سيعودون لإنتاج مسلسل العنف والصراع والتخلّف من جديد – لا سمح الله-.
.. من المعروف أن الفكر السياسي الإسلامي السني يقوم أكثر ما يقوم على ما يمكن تسميته ب« الطاعة السياسية» وفق أحد الباحثين فهل سقطت الآن منظومة الطاعة لاسيما وأننا نشاهد اليوم جماعات الإسلام السياسي وهي سنية تتجاوز ذلك الطود العظيم الذي طالما ارتكزت عليه في منظومتها السياسية ؟؟ هل تتصور أن الفكر السياسي السني سيجدّد من طروحاته أم أن تلك المنظومة التطويعية ستبقى وستكون هذه الأحداث التي جرت في السنوات الأخيرة مؤثرة أم ان التصلب سيكون هو سيد الموقف ؟
- لست أدري ماذا تقصد ب(الطاعة السياسة) ووصف الفكر السني بحق (الامتياز) فيها، إذ إني لا أفهم – من حيث المبدأ- من كل فرد سوي في أي نظام سياسي واجتماعي إلا أن يلتزم بواجباته، في المجال السياسي – على سبيل المثال- كما يطالب بحقوقه، فهل هذه سمة سنية خاصة؟ أم سمة الأفراد والمجتمعات السوية المستقرة الراقية، حتى في الغرب العلماني؟ إلا إذا كان التمرد لذات التمرد خصلة حميدة تستحق الإعجاب، فتلك معايير أعترف بأن فهمي لها لايزال قاصراً. أما إن كان القصد هو أن هناك تنشئة في الإطار السني خاصة بالسمع والطاعة العمياء للحاكم، من قبل الرافضين لأي تغيير إذا خالف هوى الحاكم، المشرعنين للاستبداد والقهر والجهالة باسم السماء، على غرار من يُعرفون ب(حزب الولاة) المنتسبين إلى الاتجاه السلفي، فتلك مشكلة أخرى لا تمثّل في الحقيقة الفكر السني الوسطي الواسع – وهو اتجاه الأمة في أغلبيتها- كما لا تمثّل فصائل أخرى في الجماعات السلفية، بل تمثّل جماعة من جماعاتها، وهذا ما أوضحته بقدر من التفصيل المناسب في الكتاب الجديد الأخير الذي لم ير النور بعد عن (فصائل السلفية في اليمن).
.. كيف تقرأ واقع الفترة الانتقالية بعد انتهاء مؤتمر الحوار الوطني؟
- واقع الفترة الانتقالية بعد مؤتمر الحوار الوطني يبدو لي محفوفاً بجملة من التحديات أبرزها تحدي بقاء اليمن موحداً، وتحدي فرض سلطة الدولة على كل ربوع الوطن، وتحدي صياغة الدستور القادم وبينها مشكلات كثيرة بعضها أساسي وبعضها فرعي، وثمة مسألة هامة، أخشى أن تجرنا خارج القضايا الجوهرية وهي ما إذا كان الحوار الوطني ناجحاً ؟ وإلى أي مدى ؟ وهل يكفي لإعطائه درجة الامتياز أن يعلن الراعون الدوليون والأستاذ جمال بن عمر ذلك ؟ بمعزل عن الحقائق على الأرض؟. وهل فشله في بعض الجوانب يعني أنها الكارثة المحققة؟ كلا، لا أعتقد ذلك، ومن الخطورة الترويج لمثل هكذا قناعة منذ بدايات الحوار، وهو ماحذر منه بعض العقلاء منذ وقت مبكر.
.. أنت قدّمت أطروحة الدكتوراه تحت عنوان (نظرية المعرفة في القرآن وتضميناتها التربوية ) ثم صدرت في 2002م عن المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن، هل يمكن تقديم موجز عن تعريف نظرية المعرفة، وطبيعتها ومصادرها؟
- الموضوع طويل ومعقد وله انعكاساته التربوية، لكن كفكرة عامة نظرية المعرفة تبحث في قضايا طبيعة المعرفة، ومصادرها، ومدى إمكان الحصول عليها. أما طبيعة المعرفة فالبحث في العلاقة بين الذات العارفة (الإنسان)، والموضوع المعروف: عالم الغيب والشهادة وعالم الأنفس والآفاق. أما مدى إمكان الحصول عليها فمبحث فلسفي لا يمثّل مبحثاً أصلياً في نظرية المعرفة في القرآن، لأن القرآن جاء دعوة إلى المعرفة بلا حدود { وقل رب زدني علماً } ،{ وفوق كل ذي علم عليم}، وثمة حثٍّ على الحصول عليها، عبر آيات أخرى وأحاديث صحيحة كثيرة، وهل يمكن أن يكون ذلك إلا لأن الإنسان قادر على أن يحصل عليها بداهة؟.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.