في 19 يناير 1839م تمكنت بريطانيا من احتلال عدن؛ إثر افتعال حادثة جنوح ونهب السفينة التجارية البريطانية «داريا دولت». وكان هذا الاحتلال تعبيراً عن مدى الأهمية التي احتلتها عدن للسيطرة على طريق التجارة إلى الهند، ولقطع الطريق عن القوى الاستعمارية المنافسة لبريطانيا والتي كانت تسعى لاحتلال موطئ قدم على الطرق المؤدية الى شبه القارة الهندية. وبافتتاح قناة السويس عام 1869م ازدادت الأهمية الاستراتيجية لميناء عدن في إطار المخططات الهادفة إلى حماية الامبراطورية البريطانية ومصالحها. فأصبحت عدن أهم القواعد البريطانية شرق السويس. وبالانطلاق من هذه الأهمية المتعاظمة سعت بريطانيا إلى تأمين الساحة الخلفية لعدن، حيث قامت بالاستيلاء على المناطق المجاورة للميناء واحدة تلو الأخرى، إما بالسيطرة المباشرة مثل منطقة خور مكسر أو بالشراء مثل منطقة الشيخ عثمان والتي تم شراؤها من سلطان لحج، وعدن الصغرى وجبل الإحسان التي تم شراؤها من السلطان العقربي.وقدمت السلطات البريطانية الرواتب والمساعدات المالية لحكام المناطق المجاورة لعدن. لكن العودة الثانية للأتراك إلى شمال اليمن عام 1872م، فرضت ضوابط جديدة في علاقة السلطات البريطانية بحكام الولايات، حيث «اقترحت» بريطانيا على حكام الولايات توقيع اتفاقيات حماية وأمن، ثم تطورت إلى اتفاقيات استشارة يتم بموجبها تعيين مستشار بريطاني «ضابط سياسي» إلى جانب السلطان أو الحاكم وتعتبر نصائحه ملزمة. وهكذا فقدت القبائل استقلالها الذي كانت تتمتع به منذ قدم الزمان. لقد كان من الطبيعي أن تتصادم الطموحات التركية في السيطرة على اليمن مع المطامع البريطانية الرامية لحماية وتعزيز مواقعها على أرض الجنوب؛ لذلك توصل الطرفان بعد عدد من الاحتكاكات بينهما إلى توقيع اتفاقية لترسيم الحدود بين مناطق نفوذهما والتي تم التوقيع عليها في 9 مارس 1914م. لكن ذلك لم يكن يعني أن المنطقة قد دانت بشكل كامل للسيطرة البريطانية، فقد شهدت مناطق الجنوب هبات وانتفاضات كانت تعبيراً عن الرفض للأوضاع التي فرضتها السلطة الاستعمارية والمتعاونين معها. فمنذ أربعينيات القرن العشرين اندلعت الانتفاضات في مختلف مناطق الجنوب، حيث شهدت حضرموت خلال أعوام 41 - 45م تمرداً قمعته السلطات البريطانية بصعوبة بالغة. وفي عام 1951م شهدت المكلا انتفاضة كبرى هاجمت خلالها الجماهير الثائرة قصر السلطان ومزقوا العلم البريطاني. كما شهد ريف الجنوب انتفاضات طوال اعوام 54 - 58م كان من أهمها وأبرزها انتفاضة سالم الربيزي في العوالق العليا والمراقشة والنخعين في الفضلي والمجعلي في دثينة. لقد تزامنت هذه التمردات والانتفاضات مع تنامي المد القومي التحرري الذي جسَّدته ثورة 23 يوليو 1952م وما تحقق من انتصارات ونجاحات عززت ثقة الشعوب العربية بقدراتها ورسخَّت في وجدانها الإيمان العميق بحتمية الوحدة وانتصارها على الاستعمار. وكان لذلك أثره البالغ في تسريع المخططات البريطانية الهادفة إلى إحكام سيطرتها على ميناء عدن الذي ازدادت أهميته في منظومة حماية المصالح البريطانية والغربية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، فبالرغم من الدور المحدود الذي لعبه ميناء عدن والقاعدة العسكرية البريطانية فيها في إطار الاستراتيجية البريطانية أثناء الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945) بسبب بعده عن ميادين القتال، إلا أنه كان يمثل الخط الدفاعي عن المصالح البريطانية والغربية في الجزيرة العربية في مواجهة التواجد الإيطالي في منطقة القرن الأفريقي. ومع بروز نذر الحرب الباردة، شرعت بريطانيا بتهيئة قاعدتها في عدن لكي تلعب دوراً أكبر في حماية المصالح البريطانية. فرداً على خسارة بريطانيا لمواقعها في إيران قامت بريطانيا عام 1952م بالبدء ببناء مصفاة للنفط بواسطة شركة «برتش بتروليوم» حيث تم افتتاحها عام 1954م. وبعد تأكد بريطانيا من خسارة قادتها العسكرية في السويس بعد توقيع اتفاقية الجلاء، أكدت ورقة الدفاع البريطانية لعام 1957م أهمية شرق أفريقيا والمنطقة الواقعة شرق السويس وعلى عدن كحامية فيها وراء البحار تساعد على تنفيذ المسؤوليات البريطانية. وتصاعدت الأهمية العسكرية لعدن في إطار الاستراتيجية البريطانية؛ حيث تم اعتبارها عام 1959م بل «القاعدة الرئيسية» في المنطقة، ولهذا بدأ بتطوير عدن كي تصبح مقراً لقيادة القوات البريطانية في الشرق الأوسط، وهو ما حدث بالفعل عام 1960م. وهكذا أطل عام 1962م - عام اندلاع ثورة سبتمبر- ليتواكب مع أقصى أهمية حققتها قاعدة عدن في الاستراتيجية البريطانية، وقد عبر الكتاب الأبيض الصادر في عام 1962م بعنوان: «السنوات الخمس المقبلة» عن ذلك حيث تحدث عن عدن كقاعدة «دائمة» للقوات البريطانية، وبرر ذلك بالاحتياجات الاستراتيجية العالمية والدفاع عن مصالح البترول في الخليج العربي وحماية الحلفاء من العرب وغيرهم، وأصبحت قاعدة عدن مع بريطانيا نفسها وسنغفورة أحد ثلاثة مواقع أساسية في الانتشار العسكري لبريطانيا. (فرد هوليداي - الصراع السياسي في الجزيرة العربية). لقد كانت المشكلة التي واجهت بريطانيا تكمن في أنه مع ازدياد الأهمية الاستراتيجية لعدن في إطار السياسة البريطانية، كان وعي الحركة الوطنية اليمنية ونضالها يتصاعد بتأثير انتصارات الحركة القومية العربية، لهذا قررت بريطانيا إعادة النظر في نظام الحماية والاستشارة الذي أقامته مع مشائخ وسلاطين المشيخات والسلطنات لتوثيق صلاتهم بها وضمان تبعيتهم لها، وإقامة اتحاد يجمع عدن بالمحميات، وهي الفكرة التي عرضت على حكام المحميات لأول مرة عام 1954م ولكن دون تحديد موعد لتنفيذها أو ضغط حقيقي عليهم لقبولها، واكتسبت الفكرة دافعاً جديداً لتنفيذها إثر إعلان الإمام أحمد انضمام اليمن إلى الجمهورية العربية المتحدة في مارس 1958م، وما أحدثه ذلك من رد فعل إيجابي في صفوف الحركة الوطنية اليمنية، وما أثاره بالمقابل من مخاوف لدى معظم حكام المحميات، فتحولت الحكومة البريطانية من موقع عرض المقترحات إلى فرضها، فتم التوقيع على دستور الاتحاد في فبراير 1959م، والذي بدأ بست محميات غربية ثم توالى انضمام باقي المحميات، ووقعت في نفس الوقت معاهدة بين الاتحاد وبريطانيا. وباستخدام المناورات والضغوط تمكنت بريطانيا من دفع المجلس التشريعي في عدن (رغم تغيب معظم الأعضاء المنتخبين) إلى التصويت لصالح دستور اتحاد الجنوب العربي.. وكان ذلك قبل ساعات فقط من اندلاع ثورة 26سبتمبر 1962م. لقد عبر المندوب السامي البريطاني في عدن حينها -تريفاسكس- أنه كانت لديهم مخاوف من التطورات التي ستشهدها اليمن عقب الوفاة المتوقعة للإمام أحمد (بعد إطلاق الرصاص عليه في مستشفى الحديدة في مارس 1961م) وأن ذلك كان دافعهم للإسراع بعملية ضم عدن إلى اتحاد الجنوب العربي. (أحمد يوسف أحمد- الدور المصري في اليمن). وباعتراف السلطات البريطانية لم تكن عملية السيطرة على مناطق الجنوب سهلة، فقد واجه الاحتلال البريطاني مقاومة باسلة منذ اللحظات الأولى وتطورت أشكالها وأساليبها مع تطور الزمن، لكننا يمكن أن نلحظ وصولها لمرحلة النضج السياسي والتنظيمي بدءاً من أواخر الأربعينيات للقرن العشرين بسبب المؤثرات التي أحدثتها نتائج الحرب العالمية الثانية، والتي كان نصيب الوطن العربي منها دامياً ومؤلماً، فقد تم زراعة اسرائيل كدولة غربية في قلبه وعند نقطة اتصال مشرقه بمغربه ووضعت التصورات الاستعمارية حول تفتيت وتمزيق الأرض العربية موضع التفصيل. وفي مواجهة هذه المخططات وبفضل انتصار ثورة 23 يوليو 1952م تبلور الحس الوطني ونضج بشكل واضح من خلال تشكل حركة وطنية منظمة فظهرت الجمعيات والأحزاب السياسية وتوحدت الجماهير العمالية في إطار نقابات وبرز طيف واسع من التوجهات الصحفية والعقائدية. وكانت أولى هذه المحطات الهامة هي تشكيل الجمعية الإسلامية الكبرى التي حملت بالأساس دعوة تنويرية إصلاحية - خيرية لم تستطع التجاوب مع المتغيرات السياسية التي عصفت بالمنطقة فبقيت حيث هي ولم تتقدم. فتم في عام 1950م تأسيس «الجمعية العدنية» التي رفعت بعض المطالب السياسية الضيقة التي لم تجد شعبية أو تجاوباً في أوساط الناس، فانحصرت على نفسها وظلت حيث هي، حتى عندما تحولت إلى حزب سياسي تحت مسمى «المؤتمر الشعبي» فقد بقيت في حالة عزلة ولم تحقق شيئاً يذكر وحتى عندما انشق المؤتمر الشعبي إلى حزبين هما: الحزب الدستوري والحزب الوطني الاتحادي فقد بقى الحزبان يسيران في فلك السياسة البريطانية ولم يتمكنا من استيعاب التحولات الجارية في المنطقة واتجاه المشاعر الوطنية، فكان من الطبيعي أن يخليا الساحة لقوى أكثر قدرة على الاقتراب من الجماهير الشعبية والتعبير عن تطلعاتها وطموحاتها. وكان من الطبيعي أن يظهر وعاء سياسي جديد يستطيع أن يستوعب هذه الحركة الوطنية ويؤطرها.. فتم تأسيس «رابطة أبناء الجنوب» في عام 1951م. إن مؤسسي الرابطة كانوا ينتمون إلى مختلف التيارات السياسية، والتي أجمعت على قضيتين هما: «وحدة الجنوب العربي المستقل ومعاداة الاستعمار»، وكانت قيادات الرابطة هي أول قيادات حزبية تتعرض لمطاردة السلطات البريطانية بالاعتقال أو بالنفي، لكن عوامل ذاتية ترتبط بتركيبة قيادات الرابطة وفكرها السياسي الذي عجز عن استيعاب التحولات في المنطقة، إلى جانب إهمال القضايا الاجتماعية - الاقتصادية لشعب جنوباليمن في برنامجها، ومحدودية طرائقها النضالية قد أدت إلى الانفضاض التدريجي لقاعدتها العريضة ومن ثم عجزها عن قيادة الحركة الوطنية إلى نهاية الشوط فانتقلت قيادتها إلى الخارج وبقيت هناك كقوة معارضة بدءاً من عام 1967م. إن تشكيل الجبهة الوطنية الممتدة عام 1955م قد شكل علامة فارقة في أساليب العمل السياسي وشعاراته، فقد رفعت لأول مرة شعارات تنادي بوحدة اليمن الكبرى، وإعلان معاداة الاستعمار والرأسمالية وعدم الفصل بينهما، والإيمان بالوحدة العربية وبمبادئ الثورة العربية.. رغم أن الهدف المعلن لتأسيس الجبهة كان إفشال انتخابات المجلس التشريعي. كما كان لأساليب الجبهة الوطنية المتحدة النضالية وطرائق عملها التنظيمي دور هام في دفع الحركة العمالية إلى الوحدة في إطار المؤتمر العالمي الذي تأسس على يد القادة النقابيين المنضويين في الجبهة الوطنية المتحدة وكانت إضرابات عام 1956م العمالية الضخمة أهم مؤشرات على مدى قوتها وفاعليتها. لكن ظهور وبروز تيارات سياسية جديدة، أثار مخاوف قيادة المؤتمر العمالي من أن تفقد سيطرتها على الحياة السياسية في عدن، لذلك قررت تأسيس حزب سياسي تحت مسمى حزب «الشعب الاشتراكي» والذي أعلن عن قيامه في يوليو 1962م، وظلت قيادة المؤتمر العمالي هي قيادة الحزب.. وتضمن برنامجه شعارات تهدف إلى استيعاب اتجاهات وتيارات متعددة، ليتمكن من الاستمرار في تجسيد الإرادة الوطنية. لكن موقف حزب الشعب الاشتراكي من اندلاع ثورة 14أكتوبر 1962م ورفضه دعمها ومساندتها قد أدى إلى فقدانه التأييد الشعبي الذي حصل عليه بفضل قيادته للحركة النقابية، وحتى عندما شاركت قيادته في تشكيل «منظمة التحرير» ثم «جبهة تحرير جنوباليمن المحتل» لم تجد قبولاً لدى القوى الوطنية فأصبحت معارضة تعمل من خارج البلاد. لقد كان لتأسيس التيارات الوطنية الراديكالية: الاتحاد الشعبي الديمقراطي، حزب البعث العربي الاشتراكي وحركة القوميين العرب كان لها مؤثر هام على تجذر ونضج العمل الوطني في الجنوب.. وأن طريق الكفاح المسلح كوسيلة وحيدة لإجلاء المستعمر قد أصبح سالكاً.. لذلك يمكن أن نجعل من العوامل التالية مبرراً لما ذكر آنفاً: - خبرة حزب البعث في ميدان العمل الثوري العربي. - وضوح الرؤى والمواقف السياسية للاتحاد الشعبي الديمقراطي. - قوة وصلابة تنظيم حركة القوميين العرب وخبراته الثورية البارزة في فلسطين والجزائر وغيرها من المناطق. وهكذا كانت ثورة سبتمبر 1962م.. هي الأساس والقاعدة التي انطلق منها الثوار لخوض حرب التحرير الشرسة ضد المستعمر وإرغامه على الجلاء في 30 نوفمبر 1967م. رابط المقال على فيس بوك