الإحساس بالنهاية يزعزع كيان النفس البشرية، ويمزقها بين مشاعر مضطربة، فجأة سيتغير كل شيء ويذهب ذلك الإنسان تاركاً وراءه أحبته وماله وذكرياته وكل ما نسجه من علاقات جميلة، يُستل من ذلك كله ويهال عليه التراب في حفرة من الأرض لتبلى عظامه ويضمحل، وإذا اجتمع هذا الإحساس مع الغربة، وفي أرض "الأعادي" يكون ألماً فوق ألم وعذاباً فوق عذاب . هذه الحالة هي التي وجد مالك بن الريب المازني التميمي نفسه فيها، وكان في جيش المسلمين في خراسان فجرح جراحات عميقة أيقن معها بالموت، فكان يقلب طرفه في كل اتجاه فلا يرى غير الخلاء الكئيب أو أولئك الرجال الغرباء من الجيش المكلفين بنقله، ويصل إلى حالة من الوحشة يصبح معها أي شيء يمت بصلة إلى أهله وأرضه مبعث أنس حتى ولو كان نجماً في السماء "سهيل" بزغ من جهة بادية البصرة حيث توقد نار المازينات . بين وحشة الغربة ويأس النهاية في الحاضر وبين أنس الأهل وسعادة الحياة التي كانت، تتداعى لدى الفارس الشاعر الأفكار والصور لترسم مشاهد من حياة رجل أعطى للحياة كل شيء، فعاشها بشجاعة الفارس الذي لا يهاب الموت ولا يهزم، ويد الكريم المدودة دوماً، وقلب المحب الحنون الذي لا يخلف وراءه مبغضاً، ورغم ذلك ها هو يموت وحيداً بعيداً "صريع على أيدي الرجال بقفرة"، لا يجد من نسائه من تبكيه ولا يجد رجاله الذين يعرفون قدره فيحسنون تجهيزه لرقدته الأخيرة، ولأنه غير واثق من أن رفقاءه القائمين عليه سيقدرونه حق قدره فيحسنون تجهيزه، فقد آثر أن يصف لهم ما يفعلون به إذا ما مات، ويبين لهم مكانته، فلئن كان الآن جثة هامدة بين أيدي أولئك الرجال يجرونها كيف يشاؤون، فقد كان قبل ذلك فارساً شجاعاً صعب القياد يكر حين يحجم الآخرون ويصبر حين لا يصبرون . لم يكن ابن الريب يتمنى لنفسه أن يكون موته موتاً صامتاً لا يحدث رجة من حوله، بل كان يريده موتاً مشهوراً على قدر قوة بأسه وشجاعة نفسه وصبره على مجالدة الفرسان، على قدر كرمه وحسن خلقه وبعده عن الشتيمة والنقيصة، على قدر حرص أبويه عليه وفجيعة نساء الحي، كان يريده موتاً كموت الرجال العظام، فتتلف عليه الأكباد وتبكيه البواكي، لذلك تولى هو نفسه تخليد موته عبر لغة تتقاذفها زفرات الألم والحزن وانتشاءات الذكريات الجميلة، في قصيدة نادرة الشبه، لأنها رثاء حي لنفسه وهو على فراش الموت في بلاد الغربة . ألا لَيتَ شِعري هَل أَبيتَن لَيلَةً بِجَنبِ الغَضا أُزجي القَلاصَ النَواجِيا فَلَيتَ الغَضا لَم يَقطَعِ الرَكبُ عرضه وَلَيتَ الغَضا ماشى الركابَ لَيالِيا لَقَد كانَ في أَهلِ الغَضا لَو دَنا الغَضا مَزارٌ وَلَكِن الغَضا لَيسَ دانِيا أَلَم تَرَني بِعتُ الضَلالَةَ بِالهُدى وَأَصبَحتُ في جَيشِ اِبنِ عَفّانَ غازِيا وَأَصبَحتُ في أَرضِ الأَعادي بَعدَما أرانِيَ عَن أَرضِ الأَعادِي نائِيا دَعاني الهَوى مِن أَهلِ أَودَ وَصُحبَتي بِذي الطبَسَينِ فَالتَفَت وَرائِيا أَجَبتُ الهَوى لَمّا دَعاني بِزَفرَة تَقَنعتُ مِنها أَن أُلامَ رِدائِيا أَقولُ وَقَد حالَت قُرى الكُردِ بَينَنا جَزى اللهُ عَمراً خَيرَ ما كانَ جازِيا إِن الله يُرجِعني مِنَ الغَزوِ لا أُرى وَإِن قَل مالي طالِباً ما وَرائِيا تَقولُ اِبنَتي لَمّا رَأَت وَشكَ رحلَتي سفارُكَ هَذا تارِكي لا أَبالِيا لَعَمرِي لَئِن غالَت خُراسانُ هامَتي لَقَد كُنتُ عَن بابَي خُراسانَ نائِيا فَإِن أَنجُ مِن بابَي خُراسانَ لا أَعُد إِلَيها وَإِن مَنيتُموني الأَمانِيا فَللهِ دري يَومَ أتركُ طائِعاً بَنِي بِأَعلى الرَقمَتَينِ وَمالِيا وَدَر الظباءِ السانِحاتِ عَشِية يُخَبرنَ أَنّي هالِكٌ مِن وَرائِيا وَدَر كَبيرَي اللَذين كِلاهُما عَلَي شَفيقٌ ناصِحٌ لو نهانيا وَدَر الرجالِ الشاهِدينَ تَفتكي بِأَمرِيَ أَلا يقصِروا مِن وَثاقِيا وَدَر الهَوى مِن حَيثُ يَدعو صَحابَتي وَدَر لُجاجَتي وَدَر اِنتِهائِيا تَذَكرتُ مَن يَبكي عَلَي فَلَم أَجِد سِوى السيفِ وَالرمحِ الرُدَينِي باكِيا وَأَشقَرَ مَحبوكٍ يَجُر عَنانَهُ إِلى الماءِ لَم يَترُك لَهُ المَوتُ ساقِيا يُقادُ ذَليلاً بَعدَما ماتَ رَبهُ يُباعُ بِبَخسٍ بَعدَما كانَ غالِيا وَلَكِن بِأَكنافِ السُمَينَةِ نسوَةٌ عَزيزٌ عَلَيهِن العيشَةَ ما بِيا صَريعٌ عَلى أَيدي الرِجالِ بِقَفرَة يُسَوونَ لحدي حَيثُ حُم قَضائِيا وَلَمّا تَراءَت عِندَ مَروٍ منِيتي وَخَل بِها جِسمي وَحانَت وَفاتِيا أَقولُ لأَصحابي اِرفَعوني فَإِنهُ يَقَر بِعَيني أَن سُهَيلٌ بَدا لِيا فَيا صاحِبيْ رَحلي دَنا المَوتُ فَاِنزِلا بِرابِيَةٍ إِنّي مُقيمٌ لَيالِيا أقيما عَلَي اليَومَ أَو بَعضَ لَيلَةٍ وَلا تُعجلاني قَد تَبَينَ شانِيا وَقوما إِذا ما اِستُل روحي فَهَيئا لِيَ السّدرَ وَالأَكفانَ عِندَ فَنائِيا وَخُطّا بِأَطرافِ الأَسِنةِ مَضجَعي وَرُدا عَلى عَينَي فَضلَ ردائِيا وَلا تَحسداني بارَكَ اللهُ فيكُما مِنَ الأَرضِ ذاتَ العَرضِ أَن توسِعا لِيا خُذاني فَجُرّاني بِثَوبي إِلَيكُما فَقَد كُنتُ قَبلَ اليَومِ صَعباً قيادِيا (مالك بن الريب)