صدى عدن / بقلم/ افتتاحية صحيفة الثوري.. بصعوبة بالغة اقتنع مجلس الأمن بأن هناك من يعرقل العملية السياسية والحوار الوطني في اليمن .. وبسهولة قبل أن يحشر اسم علي البيض في عملية العرقلة تلك إلى جانب علي عبدالله صالح صاحب المصلحة الحقيقية في العرقلة. جرى حشر اسم البيض بصورة لا توحي بشيء أكثر من أن المجلس كان في حاجة إلى رشفة شاي أو جرعة عصير لتمرير اللقمة الجافة . من داخل حقبة من التاريخ المفتوح للهواء والريح والتزييف أُسْتحضر اسم علي البيض , بدون مقدمات , بهدف إعادة أرشفته إلى جانب الرجل الذي غدر به وبمشروع الوحدة بعد مدة قليلة من قرارهما التاريخي بتوحيد اليمن. الفكرة هي أنه لا يمكن أن تبدو صورة "صالح " واضحة في هذا المشهد الجديد, مثلما كان الحال كذلك في المشهد القديم, بدون هذا النقيض( contrast )حتى ولو كان ذلك سبباً في تحميله مسؤولية عمل لا ناقة له فيه ولا جمل . مجلس الأمن كان ذا بصيرة بقراءته للأحداث المتعاقبة, فقد رأى البيض ينقذ صالح في محطات مختلفة من حياة حكمه بدءاً من الوحدة (ومطلَعْ ), فلماذا لا يحشر اسمه إلى جانبه اليوم في المشهد ؟ هذا هو التفسير الوحيد ربما لحشر اسم علي البيض إلى جانب علي صالح . ويبدو أن مجلس الأمن كان قد عرض أكثر من صورة إلى جانب صالح لغرض إبرازه في المشهد كصانع حقيقي للعرقلة فلم يجد فيها ما يميزها كثيراً عن المستهدف فلجأ إلى النقيض الذي لم يكن في أي يوم من الأيام سوى الضحية .. والضحية هنا هو الجنوب برمزية 22مايو 1990 ,"والوجوه الكريهة "منذ 1967م , بتعبير محافظ عدن, وحيد رشيد, الذي لم يتورع في خطابه الرسمي الأخير أن يبدو وكأنه قد خلع حلته الرسمية ولبس حلة المحارب ليخاطب "المهزومين" والمقهورين والمطاردين بتلك اللغة المغمسة بقبح السنين الطويلة من القمع والقهر والفساد. ولاندري من هي" الوجوه الكريهة ", أهي التي صمدت في وجه الطغيان والقهر لتقاومه وتقضي عليه ؟ أم هي التي تسكعت عند أبوابه ؟ والباقي يعرفه الجميع . إذن , إخراج "الوجوه الكريهة "من حافظة ذكريات السيد المحافظ وأمثاله إلى أرشيف مجلس الأمن هو بيت القصيد في المسألة كلها . وما لم يقله الخطاب الرسمي لسلطة ما بعد الثورة بوضوح قاله محافظ عدن ومن داخل عاصمة ما بعد الاستقلال 1967: تصفية حساب مع مرحلة كاملة , ولا يمكن أن يؤخذ ذلك بمعزل عن دلالة حشر اسم البيض في بيان أممي كهذا , وفي لحظة كان يتطلع فيها الجميع إلى إبراز العملية السياسية والحوار كطريق وحيد للحل العادل الذي يتطلع إليه الجنوب والشمال على حد سواء . على العموم ,مجلس الأمن , ببيانه هذا ,اعترف لأول مرة بأن الجنوب هو نصف المشكلة. ويبقى عليه أن يعترف بأنه نصف الحل . وهو وإن كان في الأولى " قسمة ضيزى" فإن من يتحمل جزءاً من مسؤوليتها هم الذين ظلوا يتجاهلون تأثير المجتمع الدولي في معادلة الحل لأي قضية من هذا النوع . حاصروا هذه القضية داخل وهم الحل القائم على كسر عظم الآخر , أو استجدائه أحيانا بلغة ملتوية لا يبرز فيها إلا رفض خوض المعركة السياسية الحقيقية, وبالاستناد إلى موقف مجدول في حبل رخو من عبارات طائشة مثل "لا يعنينا " : فما يدور في الشمال "لا يعنينا ", وما يدور خارج حرم "مشروعنا " وإن كان في قلب الجنوب نفسه "لا يعنينا " وما يدور في عواصم الإقليم "لا يعنينا " وما يجري في مجلس الأمن "لا يعنينا " .. ولا يعنيهم إلا ما يقوله فلاسفة العبارات المبهمة التي تغالط الغضبان والمقهور وتغازل المغتصب لطمأنته في وقت واحد . رسالة مجلس الأمن يجب أن تقرأ بعناية من قبل الجميع , بمن فيهم السيد المحافظ , ومجملها أن في الجنوب قضية عادلة , ولكن المجتمع الدولي لن يقبل أن تصبح هذه القضية رهينة بيد أي قوة داخلية أو خارجية تجعل منها عامل استقطاب سياسي واجتماعي وأمني يربك الوضع الأمني في المنطقة وفي العالم .. فالذين يهربون من العملية السياسية والحوار واستحقاقاتهما إلى (الوحدة) بإعادة إنتاج خطاب الصراع والمواجهة والتكفير والعنف الذي شهدته البلاد عام 1994م لا يختلفون عمن يهربون من استحقاقات العملية السياسية والحوار إلى مشاريع مجهولة كالانفصال . ولا شك أن إعادة استقطاب الوضع السياسي على قاعدة مغايرة لمضمون ومحتوى العملية السياسية وأهداف الحوار يشكل رفضاً عملياً للحوار الذي من شأنه أن يبحث عن حل عادل لكل هذه القضايا التي تم الاعتراف من قبل الجميع بوجودها كنتاج لسياسة النظام السابق وفي مقدمتها القضية الجنوبية . لا مخرج أمام الرافضين للحوار أو المناورين بالحوار سوى القبول بالآخر والحوار الجاد والمسؤول والتفاهم وإشراك الشعب في تقرير المستقبل وتوفير الظروف المناسبة له بقول كلمته في ما يخص مستقبل الدولة . اللاعبون في اليمن كثيرون بعد أن أصبح محط أنظار قوى عديدة تريد أن تصفي حساباتها على أرض اليمن , وبواخر السلاح التي تمخر عباب بحر العرب وخليج عدن والبحر الأحمر في طريقها إلى شواطئ اليمن وموانيه كثيرة لم يكتشف منها سوى القليل, مما يؤكد أن اطرافاً كثيرة متورطة في الاستعداد لحروب قادمة . ولم يكن حديث الأستاذ محمد سالم باسندوة, رئيس الوزراء, لقناة الجزيرة , بتلك الشفافية والصدق ,إلا تأكيداً على أن الوضع لا يزال مغتصباً بيد القوى نفسها التي توزعت السلاح والثروة والدعم الخارجي تحت عناوين ومسميات مختلفة . ربما أن هذه القوى نظرت إلى العملية السياسية والى الحوار باعتبارها محطة لإعادة ترتيب الأوراق واستعداداً لجولات أخرى من الصراع والهيمنة واقتسام النفوذ وقمع الحياة السياسية . ومما يجعل هذه المسألة تبدو وكأنها حقيقية هي أن معظم الغارقين في الفساد هم الذين تتم ترقيتهم وإعادة تعيينهم في المراكز الحساسة للجهاز الإداري والاقتصادي للدولة , وكأن البلاد قد فرغت إلا من أصحاب صفقة الغاز وشركاء غسيل الأموال و "بلوكات " النفط الموهوبة للمحاسيب والموالين وغيرهم ممن صاروا يتصرفون كمبشَّرين بنعيم "الدولة المدنية الحديثة "بعد أن تقلبوا طويلاً في رغد دولة العائلة . ندرك ما يحيط بالرئيس هادي من ألغام , فجَّر بعضها لتسوية مساحة ملعبه , وكان موفقاً في ذلك ,فقد تحمل المسؤولية في ظروف لم يكن فيها أمامه من خيار سوىَ أن ينظر أولاً أين يقف ؟ وما هي المساحة التي سينطلق منها لانجاز مهامه الكبيرة. والآن , ومن داخل هذه المساحة ,عليه أن ينطلق لتفجير بقية الألغام واستخراجها لتسوية الأرضية الكاملة لبناء الدولة التي بشرت بها الثورة الشبابية الشعبية السلمية. ولن يكون بإمكانه القيام بذلك إلا برعاية الشراكة السياسية والشراكة الوطنية وقيادتها نحو أهدافهما إن أراد . لن يكون بمقدوره القيام بذلك بمفرده أو بآليات تعمل, على نحو مستمر, على إضعاف وتجميد هذه الشراكة . إن القوى التي تحملت عبء العملية السياسية وانطلقت جميعها من هدف واحد, وهو التغيير استجابة لأهداف الثورة , لا يكفي أن يحضر بعضها الآن لأسباب متعلقة بمراكز النفوذ ويغيب المتمسكون بالخيار السياسي والمدني . ولابد من التذكير هنا بحقيقة أساسية في هذه العملية المعقدة كلها وهي أن دعم الحياة السياسية والقوى المدنية هو الذي من شأنه أن يعيد بناء المعادلة مع قوى النفوذ والسلاح على أسس مضمونة في مجرى عملية التغيير , ما لم فإن الغائب سيجد نفسه في مواجهة مباشرة مع هذه القوى التي ستندفع فيما بعد لتصفية حسابات قديمة جديدة في ما بينها سواء بغيابه أو بوجوده . ولذلك آن الأوان أن ينطلق من مساحة ملعبه إلى حيث يجب أن تكون معركته الحقيقية وهي بناء الدولة الضامنة لنجاح العملية السياسية .. من الآن ودون إبطاء .. ولن تكون هناك بعد اليوم فرصة أخرى .