لم تزل بعض الأعمال الفنية الخالدة، معلقة في أكبر متاحف الدنيا، ولم تزل رغم مرور قرون عديدة على بعضها، تثير دهشة المشاهد، وتدفع بالناقد لأن يسعى للبحث وراء سرّ الخلود، فالناقد هنا يتحول إلى "جلجامش" الأسطوري الذي عبر الصحارى والجبال بحثاً عن عشبة الخلود، أو على الأقل عن ذلك الجواب الذي يقنعه بالطريق الصحيح صوب الخلود . وربما لهذا السبب، تعاضد ثلاثة عشر ناقداً وباحثاً في تقنيات الفن، لكي يبحثوا في سرّ خلود روائع الأعمال الفنية، وبالتالي لكي يكشفوا عن التقنيات التي كانت تستعمل في محترفات الفنانين، الذين كانوا أقرب إلى السيميائيين الذين اشتغلوا على العناصر الأساسية، بغية تحويل التراب الى تبر أو اكتشاف العنصر الخامس الذي كانوا يعتقدون أنه القوة السحرية المسيطرة . لكن بحوث دافيد إنفايم، وماري بيل، وإدوارد بوباوز، وأنتياكولن، وجوديث كولينز، وتشارل ميرديث، وجيني ماكليري، وجون ووشمان وغيرهم لم تؤدّ الى الحصول على الجواب المقنع، بقدر ما كشفت عن بعض الجوانب التقنية التي يعرفها مرمّم الأعمال الفنية أكثر مما يعرفها بعض الفنانين . لذلك يجب أن نقرّ مبدئياً بأن جودة العمل مصدرها قامة الفنان وسيطرته على مسطحه التصويري منذ اللحظة التي يبتدئ فيها تنفيذ مشروعه الفني، وفقاً للأسلوب الذي بحث فيه وطوّره . بل توصل عبره إلى الإجابة عن العديد من الأسئلة القلقة . مع ذلك فالبحث بالتقنية هو بحث بالجرأة والمقدرة الفذّة للفنان، فالذي يتجرأ على استعمال المواد الزيتية الى جانب المواد المائية من دون أن تتنافر المادتان مع مرور الزمن، هو فنان تقني يدرك النتائج المحتملة من تجاور المواد المتنافرة . هذا إن لم نعترف اليوم وبعد مرور زمن طويل بأن فكرة لوحة المواد المتنوعة كانت مطروحة في العديد من المحترفات العالمية، وعلى أيدي العديد من كبار الفنانين . إذا أخذنا على سبيل المثال الفنان "بول كلي" وبحثنا في لوحته التي أنجزها في عام 1930 وأطلق عليها اسم "الملجأ"، وهي من الأعمال المتحفية، لوجدنا أن المادة أو المواد التي أنجز بواسطتها هذه اللوحة هي: الزيت والألوان المائية على مسطح ورقي محضر بمواد تجهيزية . وهذا الورق ملصق على خشب . وهي بحجم 57 * 38 سم . ولكن السؤال هو كيف نجح هذا الفنان في خلق كل هذه الديمومة لهذا المسطح التصويري، فللكارتون الذي استعمله، لصقه أولاً على قطعة خشبية مجهزة بدورها، لكنه أشبع سطح الكرتونة بالزيت المخلوط بمادة الزنك الأبيض، مانحاً ذلك السطح قوة وشراسة، وعندما بدأ يرسم بالألوان الزيتية بواسطة الريشة الدقيقة من درجة (3) أو درجة (5) استعمل ريشة الحبر الصيني في رسم حدود الأشكال الداخلية، ثم رسم بطبقة من التامبرا وهي لون مائي أشكالاً ملائمة سرعان ما طبع عليها بواسطة قماشة امتدت على السطح التصويري ورفعت بسرعة تاركة آثار نسيجها على السطح المائل الى الأحمر . هذه اللوحة وبغض النظر عن موضوعها المهم، طرحت الداخل الدموي المختنق للكائن المحشور في الملجأ . إذ كل لون حمل للفنان قناعة مميزة بجانب من جوانب الحالة "الملجأية" إذا صحّ لنا التعبير . الفنان الذي أثار العديد من الأسئلة التقنية كان بيت موندريان المولود في عام 1872 في منطقة قريبة من أمستردام الهولندية لكنه تنقل كثيراً حيث عاش ورسم في باريس وروما ونيويورك التي مات فيها عام 1944 . ويعتبر هذا الفنان من أبرز الفنانين الذين تعاملوا مع التجريد انطلاقاً من مفاهيمه الهندسية المساحية . فالعلم المرئي بالنسبة إليه مجموعة من الحقول التي تحتاج إلى تأكيد حدودها الفكرية . فاشتغل بذلك على فكرة تقاطع الحدود وتعدد التكوينات وقد استعمل بذلك مواد مبتكرة . وأدوات يصعب أن تستعمل على القماش، لكنه نجح في تحويل المسطح القماشي الى طاقة متفاعلة وقد آمن بقوتها رهط من المهندسين الذين اشتغلوا على موضوع الهندسة الفراغية . بل وحتى بعض الفنانين الذين اعتمدوا التجريد الهندسي كمفردة في لوحاتهم، أمثال الفنان الألماني الأمريكي "ليزلي موهلي ناجي" المولود في عام 1895 والمتوفى في شيكاغو عام 1946 . لقد استعمل كلي الشرائط اللاصقة لكي يؤسس بها خطوطه الأفقية، وهي الخطوة الأولى في الدخول إلى موضوعاته، لكن الخطوط العمودية التي سوف تتقاطع مع الأفقية فقد استعمل فيها المساطر وأقلام "الكريون" السوداء . فيما المربعات الكثيرة المستحدثة، سوف يشتغل فيها ويلونها بالألوان الأساسية: الأزرق، الأحمر، والأصفر . إن تقنية تحول البياض السلبي الى قوة إيجابية متفاعلة، تعتبر من أهم إنجازات هذا الفنان الذي كانت المسطرة أهم أدوات الرسم لديه . بالنسبة للفنان الأمريكي الكبير جاكسون بولوك المولود في عام 1912 والمتوفى عام 1956 . فإن ثورة هذا الفنان كانت على الاستعمال الدقيق لتقنية التكوين، وكان يرى أن فوضى الألوان هي الحالة الطبيعية الأسمى والأقرب لصورة الكون . أما الملوانة الأكثر ثراء من بين ملوانات الانطباعيين الكبار، فهي من نصيب الفنان الانطباعي الكبير كلود مونيه المولود في باريس عام 1840 والمتوفى عام 1926 في العاصمة الفرنسية . ولقد افتتن هذا الفنان بالتفاصيل والضوء . ووجد أن البراعة التصويرية للطبيعة لا تتحقق بالمطابقة بل بالتفوق . بمعنى أن اللوحة هي ما تضيفه إلى الطبيعة من جمال، وربما لهذا السبب أخضعت لوحته لمراحل متعددة، فكان يرسم عناصر الخلفية أولاً، ثم يترك العمل لكي يجف نهائياً . ثم يعيد الرسم على ما رسمه سابقاً ولكن بمادة زيتية أكثر كثافة حتى لتبدو وهي في مقدمة اللوحة ذات ملمس مستقل، أما عدد الألوان التي يجهزها مسبقاً فهي عشرة أغلبها مأخوذ من مكملات اللون الأساسي . وفي لوحة هذا الفنان نرى نور شمس سرية لا نراها . ولكننا نحسّ بها ساقطة على الأرض وعلى أوراق الشجرة . جيرام بوش المولود عام 1450 والمتوفى عام ،1516 وهو حسب رأي بعض الباحثين من أقدر فناني الأراضي المنخفضة على تمثيل رؤيا القيامة أو الدينونة . وفقاً للتفسير الشعبي المسيحي وعطفاً على المعتقد الديني . لكنه كان المؤسس الأقدر لتلك الحالة السوريالية التي طالما اشتغل عليها عدد كبير من أفراد عائلة بروغل، ومن أبرز تقنيات هذا الفنان، أنه كان يمزج الألوان مباشرة على السطح التصويري أثناء عملية الرسم . لذلك كانت العناصر التشريحية في الوجوه والحركات، هي عبارة عن تصادم "كونتراستي" بين لونين متباينين . وقد كان بوش من الرسامين الذين يشتغلون على مسطح من خشب السنديان الذي يجهزه بمادة غرائية متينة يمنحها اللون البني الذي يرسم عليه بالأقلام . ثم يلون كل جزء بحيث يصير مكملاً للأجزاء الأخرى، والتي بمجملها تشكل موضوعه العام . فلوحة "حاملو الصليب" أراد بوش من خلال غرابة الوجوه وشيخوختها أن يمنح التقوى لأولئك الفقراء وحدهم .