الأسرة هي المسؤولة عن تربية الأبناء، وضبط سلوكهم، وعلى الرغم من ذلك فإن الكثير من الآباء أهملوا تربيتهم عن عمد إيماناً منهم بأنهم يسعون لتوفير حياة كريمة لهم، في ظل عصر تقني لا يرحم، ما أثر بشكل مباشر في سلوك الأبناء، فضلاً عن أن افتقادهم للحنان والتوجيه جعلهم لا يكترثون لمستقبلهم فوقعوا ضحية تبلد الآباء . في هذا التحقيق التقينا مجموعة من الآباء والأمهات وبعض المختصين النفسيين لإبداء آرائهم حول هذا الأمر الذي أدى إلى تدمير نفسية الكثير من الأبناء الذين يتعرضون كل يوم للجفاء من قبل الأهل . يقول عبيد عبدالعزيز، في المرحلة الثانوية: إن والده دائماً خارج البيت ويراه بالمصادفة ولا يجد منه سوى "كيف الحال؟«، مؤكداً أنه لا يتذكر كلمة أخرى سمعها من والده غير تلك، وعندما يحاول الكلام معه لا يجده مستعداً للاستماع إليه، وبحجة أنه مشغول بأمور كبيرة، ويطلب منه أن يتحدث إلى والدته، ولفت إلى أنه بدأ يحكي كل مشكلاته إلى أصدقائه الذين طلبوا منه أن يتبعهم في جلساتهم التي سوف تنسيه كل تلك المآسي، فاندفع إليهم حتى سيطروا على حياته . سعادة مفقودة ويؤكد حميد، طالب بإحدى المدارس الخاصة في الشارقة، أنه لا يجد أحداً في الأسرة يتحدث معه سوى الخادمة التي شعرت به فبثها همومه ومشكلاته، لكنه لا يشعر معها بالسعادة، وكلما تحدث إليها ازداد تعاسة فيندفع إلى عمل أشياء غريبة، مشيراً إلى أن والده يواصل الليل بالنهار في عمله، وأمه مشغولة بفن الرسم، وإخوانه مشغولون بحياتهم العلمية، ومنهم من يدرس في أمريكا والقاهرة، ومنهم في عمل "البيزنس". حياة جديدة الآن لا توجد رقابة على سلوكياتي، هذا ما يقوله علي عبدالواحد، طالب بإحدى المدارس الحكومية في عجمان، مؤكداً أنه يخرج من المدرسة ليذهب مع أصحابه إلى أحد المولات التجارية، يلعب ويمرح من دون أن يسمع أي كلمة عتاب من أحد، فأبوه مشغول بحياته الجديدة بعد أن تزوج مرة أخرى، ووالدته تهرول دائماً إلى مكتب المحامي الذي يؤكد لها أنه سوف "يخرب بيت زوجها«، وعندما ترجع إلى البيت تنشغل بالهاتف مع صديقاتها، ولا تسأل عنه لدرجة أن شقيقته التي تدرس في الجامعة تخرج من البيت في أي وقت تشاء . ولفت إلى أنه يفكر بجدية مع أصحابه بترك الدراسة والتوجه إلى وظيفة بهدف الحصول على معاش شهري . الشعور بالذنب ويلتقط الكلام صديقه عماد عبدالعظيم، مؤكداً أنه في المرحلة الثانوية، وكان من المفترض أن يكون الآن في الجامعة، لكنه رسب لأنه لا يجد من يتابعه أو يسأل عنه في المدرسة، فوالده مدمن الجلوس على المقهى التي جعلها بيته لدرجة أن من يريده يذهب إليه، ووالدته دائماً عصبية داخل البيت، لافتاً إلى أنه لا يشعر بالذنب من جراء رسوبه، لأنه ليس لديه أي هدف أو حلم يمكن أن يسعى لتحقيقه، ولا يذاكر دروسه، ولا يعرف إلا اللعب والمرح، سواء على الكمبيوتر أو في المولات التي يقضي فيها معظم وقته . الزوجة الأخرى ويؤكد هادي علي، موظف في مطار دبي، أن زواجه للمرة الثانية هو السبب في عدم اهتمامه بأولاده من زوجته الأولى، وعلى الرغم من أنهم يتصلون به أسبوعياً من أجل الذهاب إلى مدارسهم التي تتطلب حضور ولي الأمر، إلا أنه لم يستطع تحقيق ذلك نظراً لرعاية ابنته الصغيرة من الزوجة الأخرى، التي يضطر للجلوس معها فور عودته من العمل، ويشير إلى أنه أصبح يشعر بالندم لأنه افتقد الكثير من المعاني الجميلة التي كانت تتحلى بها نفسه بخاصة أن ما يسمعه عن أولاده في المدارس لا يشعره بالاطمئنان . حياة كريمة لا أجد الوقت الذي أريح فيه جسدي، فمتى أهتم بأولادي؟ هذا ما يؤكده علاء الدين أحمد، مشيراً إلى أنه يحاول جاهداً توفير الحياة الكريمة لأسرته بعد أن تعرض مؤخراً للطرد من عمله كاختصاصي اجتماعي بأحد مراكز ذوي الاحتياجات الذي ظل به أكثر من عشر سنوات، وأوضح أنه يعمل يومياً من السادسة صباحاً حتى الثامنة مساء، في مجال لا يمت بصلة لعمله، بأقل من أجره الأول بكثير لكنه اضطر لقبول الأمر لأن أولاده في المدارس والجامعة، لافتاً إلى أنه لا يراهم إلا في الإجازة الأسبوعية والتي غالباً ما يقضيها في النوم، لدرجة أنه لم يعد يستطيع الاستماع إليهم والتعرف إلى مشكلاتهم التي لا تنتهي، ما يجعله يشعر معهم بغربة كبيرة . طبية الحياة ويقول يوسف الفرماوي، مدير المدرسة الإنجليزية بأم القيوين، إنه تعود على متابعة أولاده والسؤال عنهم مثلما كان يفعل معه والده وهو صغير، إلا أن طبيعة الحياة وتقدمها جعله يحس بأن الوقت فيها قصير، لذلك لا يستطيع عمل كل ما يريده، موضحاً أنه يتمنى متابعة أولاده بصفة مستمرة، لكن ظروف عمله أحياناً تحول دون ذلك، ويكتفي بتقديم النصيحة لهم إن طلبوا منه ذلك . وأوضح أنه بعد أن كان يدفع الناس إلى متابعة أولادهم أصبح يلتمس العذر لهم إيماناً منه بأن هذا البعد أصبح من أجل الأبناء أنفسهم، بهدف توفير حياة كريمة لهم . الشعور الخجل ويقول علاء رمضان، أب، إنه لا يعرف أي شيء عن أولاده لدرجة أن يجهل في أي صف يدرسون، لأن عمله يستهلك كل وقته، وزوجته هي التي تقوم بمتابعة كل شؤون الأسرة، مؤكداً أنه لا يتذكر أولاده طوال أيام الأسبوع، ما يجعله يشعر بالخجل منهم يوم الإجازة الأسبوعية، التي يلتقون فيها، وأشار إلى أنه أصبح عاجزاً عن التعامل معهم ويشعر بأنه غريب عنهم، وحين يصدر عنهم ما يرضيه يحس بالتوتر، فتتدخل أمهم على الفور لاحتواء الأمر، مؤكداً أنه يسأل زوجته عن كيفية صبرها على هؤلاء الأولاد؟ عمل مرهق وتؤكد شيماء شمس الدين أنها تتابع أولادها بنفسها، ولا ترهق زوجها في هذا الأمر، لأن عمله شاق ويمتد أحياناً إلى ساعات متأخرة من الليل، مشيرة إلى أنها أحياناً تتراخى في هذه المتابعة بسبب شعورها بالتعب والإرهاق نتيجة دوامها، والعمل في البيت، لكنها سرعان ما تعود مرة أخرى لمتابعتهم بمنتهى الجدية ومن ثم الاهتمام بهم . درس خصوصي ويرجع شوقي عبدالفتاح عدم اهتمامه بأولاده إلى طبيعة عمله كمعلم، فهو من لحظة خروجه من المدرسة يواصل عمله في الدروس الخصوصية حتى الحادية عشرة مساء، ما يجعله يرجع إلى البيت وهو في حالة من عدم الوعي، وينهض في الصباح إلى المدرسة، مشيراً إلى أنه لا يرى أولاده إلا بالمصادفة لكنهم يتابعهم من خلال زوجته التي يعتبرها همزة الوصل بينه وبينهم بخاصة أنها فقدت عملها مؤخراً في أحد البنوك . وقال إنه أحياناً يشعر بالتعاسة من طبيعة حياته التي باعدت بينه وبين أولاده، لكنه سرعان ما يبرر الأمر بأنه يسعى لتوفير حياة كريمة لأسرته، وهو ما دفعه إلى مواجهة أولاده بهذا الأمر، وطرح عليهم سؤالاً مفاده هل أنا مقصر معكم؟ فاتفقوا على أنه غير مقصر، مشيراً إلى أنه بعد ذلك لم يعد يسأل في هذا الأمر، لأنه يحب أولاده ولا يريد أن يضعف أمامهم ولا يحقق طموحاته المادية التي يحلم بها منذ أن بدأ مشواره مع الدروس الخصوصية . الإحساس بالألم ويقول طه أحمد الدالي، أب: إنه لم يعد يستطيع أن يوجه بعد أن أقعده مرض الشلل الرعاش وتمحورت اهتماماته حول ذاته التي غدت هشة، لدرجة أن أولاده أصبحوا لا يهتمون به، وغدت أمهم كل شيء في حياتهم، لافتاً إلى أنه الآن أصبح لا يعرف أي شيء عن مدارس أولاده ولا عن مستواهم الدراسي، وكلما سأل زوجته عن الأمر طلبت منه أن يهتم بنفسه لأنها تتابعهم في مدارسهم، وأشار إلى أن إحساسه بالألم من أجل أبنائه أكثر من إحساسه بالوجع من المرض، لإيمانه بأن زوجته تمتلك القدرة على السيطرة عليهم بخاصة أن وقتها غير كافٍ لمتابعتهم . وعن سبب انصراف الآباء عن تربية الأبناء تقول د . فاطمة الدرمكي، أستاذة علم النفس الإرشادي في جامعة الإمارات: الحياة العصرية ومتطلباتها هي التي دفعت الآباء إلى التخلي طوعاً عن تربية أبنائهم، الذين أصبحوا بلا قدوة في ظل وجود تيارات ثقافية وفكرية متعددة، يتعرفون إليها في البرامج الموجهة إليهم في التلفزيون وفي المواقع الإلكترونية، ما جعل تأثيرها سلبياً فيهم، مشيرة إلى وجود الكثير من الألعاب التي تعلم الأبناء كيف يسرقون ويحطمون السيارات ويهربون من الشرطي؟ ما يؤدي إلى أن تصبح تلك الألعاب عبئاً كبيراً بعد ذلك على الآباء الذين يشغلون عنهم بهدف توفير حياة كريمة لهم، متناسين أنهم بذلك يقدمون شخصيات مريضة للمجتمع، تقتل وتسرق وتدمر أي شيء حتى إنهم يدمرون أنفسهم . تبادل الأدوار وتؤكد د . فاطمة المغيري، أستاذة علم النفس في جامعة الإمارات، ضرورة تعاون الأزواج مع بعضهم في تربية الأبناء عن طريق تبادل الأدوار وتنظيم الوقت وكثرة الجلوس معهم، والاستماع إليهم وحل مشكلاتهم، موضحة أن ذلك يدفع الأبناء إلى الارتباط بالأسرة واليوم بأسرارهم أمام الوالدين، ما يؤدي إلى نشأتهم بطريقة سليمة تجعلهم يتميزون بالصفات الحسنة والخلق القويم والصدق، مشيرة إلى أن دور الآباء يبدأ منذ الولادة ويتم التدرج مع نمو الطفل بهدف أن تكون البداية بتعريف الطفل الصواب والخطأ، بشرط أن تكون العلاقة قوية بين الطرفين ومليئة بالتفاهم والهدوء حتى تستقر قيمة المعلومة التي تقدم إلى الأبناء، وأوضحت أن أي تصرف خلاف ذلك من الوالدين يدفع الأبناء إلى فقدان الثقة في الأسرة، وتشدد المغيري على ضرورة عمل تنظيم ورش عمل ومحاضرات للآباء لدفعهم إلى متابعة أولادهم بأنفسهم والتأكيد على أن وجودهم معهم يحميهم من كل سوء .