عادت الرّايات تجتاحُ المدى وجعَلْنا موعِدَ المجد غَدا يا إماراتٍ على أبوابها يصرُخ البحر وينهد الصدى نَهَضَتْ وِسْعَ العُلى فأتحدتْ وتَسامى شعبُها فأتّحدا بهذه الروعة الرحبانية التي فيها من شَمم جبل صنين في لبنان، ومن شموخ أرزه وبياض ثلجه وهدير شواطئه البيضاء على بحر المتوسط نقش الأخَوان رحباني هذه الكلمات المرسومة رسما للإمارات في بدايات عرسها وهي مازالت في فجرها الواعد المُطِل على شواطئ الخليج العربي تنفض عنها غبار البداوة وتلبس لباس الحضارة لا تنكراً للصحراء، ولكن اغترافاً من أنهار الحضارة والمدنية اغترافاً لا يُنْسيها أصالتها، وقد أكدت الأيام والعقود الأربعة المتتالية ذلك . أقول بتلك الروعة الرحبانية التي عكف عليها الأخوان رحباني في محراب الشعر والفن الرائع خرجا علينا برائعة من أجمل ما كتب الشعراء في بلدانهم وأوطانهم . . . . وأزعُم أن هذه القصيدة الأغنية الرحبانية فيروزية اللون والصوت هي أجمل ما كتَبَ عن الإمارات شاعرٌ حتى الساعة لأن أكثر ما كُتِبَ عنها هي كتاباتُ مهندسي كلمات قطّعوها من صخور وديان القواميس تقطيعاً، وأعملوا فيها أزاميل مواهبهم تقطيعاً وأوزاناً كان أكثرُها بارداً، فما تقطع لهم منه إلا أحجارا وصخراً، أما الأخوان رحباني فكأنّي بهم كانا يغرفانِ من أنهار العاصي والليطاني في لبنان أو أنهما مالا على نهر بردى في الشام فاغترفا فكان اغترافهما قليلاً خفيفاً يشبه اغتراف عِطاش مَروا بنهر فاغترفوا بأيديهم غرفاتٍ هي أعذبُ مافي النهر وبلّلوا عطشَهم ومضَوا وتركونا ونحن نقرأ رائعتهم تلك في الإمارات في فجرها نقول ليتهم وقفوا واستراحوا وملأوا قربهم من نهر الشعر الرحباني الرائق وملأوا أقداحنا أكثر وأكثر، لكن يبدو لي أنهم كانوا أذكى من ذلك فهم اعتصروا جفنات العين في كأس ولم يملأوا براميلهم خشية أن تثقل علينا أن نحملها مدى الدهر، بل جعلوها رذاذاً مازال يعلق بذاكرتنا كلما لاح وجه الإمارات والأخوان رحباني وفيروز . . . . وقالوا لشعب الإمارات . . رائعٌ . . وجْهُكَ في وَثْبَتِه أيها الشعبُ الذي الْحَق ارْتدى لَفْتِةٌ صوبَ غدٍ عَزْمُ يدٍ ورحيلٌ في الحَضارات ابتدا ها هنا والأرض فاضتْ مُدُناً وعطاءً أيّ صُبْحٍ وعَدا قلتَها أحلامَ طِفْلٍ نائمٍ: تُمْطِرُ الصحْراءُ ورداً وندى أنا والليلُ ليالٍ رسمتْ في المدى الصافي نجوماً جُددا *** الرائع في أبيات الأخوين رحباني هذه عن الإمارات أنك لا تحس فيها استجداءً ولا ارتزاقاً ولا مدحاً كاذباً لأحد لكنك ترى فيها الإمارات وشعبها بلا فرق وكأنهما نجمان في سماء واحدة أو (غواص) فَرِحٌ بلؤلؤةٍ نادرة أو فارس فرِحٌ بمهرة عربية، وترى كلمات لا بحور ولا قوافٍ متزمتةٍ بل ترى موسيقا وتسمع صوراً تذهب بك إلى البعيد وتقترب وكأنها تهمس في أذنك عن حكاية حسناء عربية بلا ضجيج ولا فخر كاذب وبلا تهويل وبلا ادعاءِ شعر، فالشعر حاضر ببساطةٍ تشبه زقزقة عصفور وهديلَ حمائم وهدير بحر وامتدادَ صحراء وكُحلَ مُهرة عربية وأنفة فارس وطموح شاب عربي إنها حلم طفل نائم فصحا يخبر أمه بحلمه الجميل، ذلك هو شعب الإمارات الذي كان في طفولته الأولى فانتبه حالماً حلماً جميلاً . *** يتلَقاني خليجٌ رملُهُ زمنُ الصيد وأيامُ الحِدا وشِراعٌ ساهمٌ مَدتْ له غربة الإبحار في الليل يدا ولآلي . . واعَدَتْ حباتُها كل حسناءَ بأرضٍ مَوعِدا يا إماراتٍ فتياتٍ على مَطْلَع الشّمسِ كّعِقْدٍ نُضدا نحن شعْبانا قليلا عَدَدٍ غير أنا إن دُعينا لِلْفِدا كَتَبَ النصْرُ على راياتِنا إن تكوني المجد كُنْتِ العَدَدا *** كم هي رائعةٌ تلك الروح التي سكب بها الأخوان رحباني ألوان كلماتها في الإمارات أغنية فيروزية خالدة اللحن والحرف واللون والصورة، إنها ليست شعراً يتعلق بأثواب الفخامة ليدخل القصر، بل كلمات حروفها عصافير تحلق لتتعلق بأغصان سدرة خضراء في شرق الجزيرة العربية لتكون لها ملاذاً آمناً لا مغارات علي بابا المكتنزة مرجاناً وذهباً، بل هي أنشودة رحبانية لبنانية أخذت من نفوس أهل لبنان جمال شعورهم بالوحدة العربية وصاغته لا أقول قلائد من لؤلؤ، فالقلائد واللؤلؤ بارد لا تعرفه صدور البسطاء، بل نشروه سحائب بيضاء في سماء الإمارات وفصول ربيع لا تنتهي تبقى على المدى جمالاً في روح الإمارات وأهلها هدية من أجمل أهل لبنان وشعرائها . . الأخوين رحباني الرائعين .